من وحي رمضان

من وحي رمضان...!

               

بقلم: أديب إبراهم الدباغ         

كما لا يُسْبَرُ غَورُ الضوء، ولا يُقَاسُ النُّورُ بمقياس، ولايَحِدُّ الروحَ حدودٌ، هكذا هي صورة رمضان كما تنعكس على مرآة وجدان الشيخ... إنه روح الزمان، وذات الأمة في سُمُّوها الأعلى والأرشد، فهو يرقى على كل المقاييس والأوزان والحدود عندما يَهِلُّ ويقبل في موكب من النور، تحفُّ به الملائكة من كل جانب، ويسير متهادياً في كوكبةٍ من جند الله، فيهبط الأرض بسلام من ربِّ السلام، في موعده من كُلِّ عام، فأِذا الأرض سكون وسكينة، وإذا السماء أُنشودةٌ وترنيمة، وإذا النفوس مشاعر عالية، والقلوب ومضات خافقة، والمآقي دموع مغرورقة من نشوة اللقيا، والارواح شوقٌ وهيام، والفكر نقاء وصفاء، والضمير سُموٌّ وارتقاء.[1]

و"رمضان" –كما هو عند الشيخ- لمسة تمسيدية لأعصاب الزمن المتعبة، ونفخة تحريكية لروح الأمة إذا ما حاق بها الجمود والخمود، وهو معراجها للتفوق على ذاتها، وللتحليق وراء أشواقها، وقلَّما يعرف المسلم وقتاً –كرمضان- يلتقي فيه الفكر بالعمل، والنِيَّة بالعزم، والإدراك بالإرادة.

وعلى شباب الأمة –كما يرى الشيخ- أن يترجموا فكرهم إلى عمل إيجابي في البناء والإعمار، ويكفوا عن السلبيات وعن إقامة المناحات وذرف الدموع على ما مرَّ عليهم من تجارب فاشلة، أورثت الأمة الكثير من المآسي والآلام والدموع، وخير للأمة أن ترى أبناءها الصادقين يمسحون العرق والغبار عن جباههم وهم يبنون ويعمرون من أن تراهم قابعين يائسين، يندبون حظهم ويبكون عذاباتهم، دون أية محاولة جادّة للخروج من هذه المحنة برؤية جديدة، وسلوك جديد.

والشيخ لايني يحذر هؤلاء الشباب المُصْطَفَيْنَ الأخيار من مزالق الأقدام، لأنَّ أتفه الأخطاء قد تكون سبباً في إفساد جلائل الأعمال.[2]

وحين يُظِلُّنَا رمضان، يسارع فيرفع الأغشية عن عين روح المؤمن، فيبصر من قريب جلال عظمته، ويستذكر أمجاد أمته، فيرى "بدراً" الفارقة بين الشرك والإيمان، وهي تتألق بالنصر المبين، ويبصر "مكَّة" وهي فاتحة ذراعيها تستقبل محمداً صلى الله عليه وسلم بشوق عظيم، ومن حوله جنده الميامين.[3]

فرمضان ينطوي على أعظم معالم الإيمان على وجه الأرض، بل يكاد المسلم لا يشعر بهويته الإيمانية الحق إلاَّ في رمضان، ولا بعمقه الإيماني إلاَّ فيه، ولا بأنسانية عظمته إلاَّ من خلاله، بهذا كلِّه تدق دقائق رمضان، فيشعر المسلم وكأنه يتشرب فيه ما تسكبه سماوات الحق من رحيق العشق الإلهي الذي أثاره محمد صلى الله عليه وسلم في وجدان المؤمنين في كل زمانٍ ومكان.

و"رمضان" كائن حي ينبض بحياة الروح والوجدان، وهو مجلببٌ بغوامض الأسرار، وعلى قدر اجتهادنا فيه، وإيغالنا في معانيه، يكشف لنا عن بعض أسراره، يوماً بعد يوم، حتى إذا استضاء الكون بنور "ليلة القدر" فقد بلغ "رمضان" في هذه الليلة قِمَّةَ أسراره، وعظيم عطاياه ومِنَحِهِ، فأذا بأرواحنا تَصَّعَّدُ في هذه الليلة نحو آفاق نكاد نلمس من خلالها شاطئ الأبدية وهو يتألق تحت أنوار "ليلة القدر"، منادياً قلوبنا أن ترسي سفائنها على ضفته، فلا تعد تخشى الغرق في بحار الدنيا، وهذا هو ما يريده رمضان مِنَّا وما يريده ربُّ الأيام والأزمان والدهور، وربُّ الانسان، تعالى شأنه وجلَّتْ قدرته.[4]

              

[1] للمزيد أنظر كتاب "ترانيم روح وأشجان قلب" وكتاب "ونحن نقيم صرح الروح"

[2] للمزيد أنظر كتاب "الموازين"

[3] أنظر "النور الخالد"

[4] أنظر "ترانيم روح واشجان قلب" و "ونحن نقيم صرح الروح"