صورتان

عبد الرحمن الحياني

 صورتان

عبد الرحمن الحياني

[email protected]

تعتريني الحيرة ، وتأخذني الدهشة كل مأخذ ، عندما أنظر ملياً ، وأحدق متفرساً في صورتين أمامي ، إنهما لشخص واحد ، غير أن إحداهما التقطت له حينما كان طالباً في الثانوية العامة ، أو قل على عتبات العشرين من عمره، والأخرى التقطت قبل بضعة أيام ، وكانت المدة الفاصلة بين الصورتين ثلاثة وعشرين عاماً ، وربما تزيد قليلاً ، تبدو الصورة الأولى بأدق تفاصيلها ، إلى درجة أنك تميز فيها نضرة الشباب ، ودفق الحيوية ، ونبض الحركة ، والنظرة المتفائلة المتطلعة إلى مستقبل رغيد ، رغم كونها غير ملونة ، [ أبيض وأسود] ، وتبدو الصورة الأخرى - وهي ملونة - باهتة المعالم ، مجملة التفاصيل ، محنطة القسمات تبدو فيها العينان وقد عراهما الذبول والانكسار ، والجبين متغضناً بعض الشيئ ، فبعض الأخاديد بدأت تأخذ طريقها إليه ، والشعر – أعني بقايا الشعر- قد غزاه الشيب ، وعدت عليه عوادي السنيين ، وحلت به قوارع الدهر .

ولكن هذه الحيرة ربما تبددت بعض الشيء ، وهذه الدهشة  قد تلاشت ، عندما تعلم : أن هذه السنوات الفاصلة بين الصورتين التي عاشها هذا الشخص ، ومن هم في مثل حالته ، لم تكن كسني الناس العاديين – وأعني أولئك الأشخاص الذين لن تجد هذا الفارق الشاسع بين صورهم الملتقطة في المدة نفسها ، حيث قضوا حياتهم كباقي الناس في بلدهم ومجتمعهم ، همهم قوت يومهم ، وتأمين مستقبل أولادهم، أو بناء بيت تأوي إليه أفراد أسرهم .. أجل لم تكن كسني الناس العاديين، ذلك لأن هذه المدة الفاصلة ربما قضاها أولئك الأشخاص المعنيين في غيابات السجون ، تنوشهم سياط الطغاة صباح مساء ، لا لجرم اقترفوه ، أو لذنب اجترحوه ، بل لأنهم لم يرضوا الدنية في دينهم ، أو التنازل عن ثوابتهم التي يتميزون بها ، ويعتزون بها، فصب عليهم الطغاة والظلمة وزبانيتهم جامات غضبهم ، دونما مراعاة لإنسانيتهم ، ناهيك عن اعترافهم بسمو المبادئ التي يحملونها بين أضالعهم ، متناسين أن الفكر يجابه بالفكر ، والكلمة تقابل بالكلمة ، لا بفوهات البنادق ، وهدير الدبابات ، ووضع الخصم خلف أسوار السجون ، تلك التي تعارف الناس على وصفها : بأن الداخل إليها مفقود ، والخارج منها مولود ..  أو قضوها في متاهات المهاجر ، في شتى أصقاع الأرض ، وتحت كل نجم ، هربا بدينهم ، وحفاظاً على أعراضهم  ومعتقداتهم ، وطلباً للأمن والأمان ، الذي فقدوه في أوطانهم .

ولكن الخطب يهون ، والمرارة تنقلب إلى حلاوة ، والمغرم يتحول إلى مغنم ، عندما يستشعر هؤلاء المعنيون ، أن عذاباتهم كانت في سبيل الله ، وأن تهجيرهم ، أو بالأحرى إقصاؤهم ، ومحاولة استئصالهم ، كان لأنهم قالوا ربنا الله ، ففي سبيل المبادئ السامية ، والقيم العليا النبيلة ، تهون الشدائد و تسهل المصائب، وفي سيبل الله تحلو التضحية والفداء ، طمعاً بما عنده تبارك وتعالى ، فما عند الله خير وأبقى ، وما عند الله خير للأبرار، وما عند الله خير مما يجمعون ...

                                                                21/8/2004