ما مفهوم الحضارة..
ما مفهوم الحضارة..؟
بقلم: نبيلة الخطيب
حينما ثارت قضية الحجاب في فرنسا أخذ كل يدلو بدلوه، وكثير أخذ يهرف بما يعرف وما لا يعرف.
قالت أو قال –لا يهم- على المسلمين أن يظهروا للغرب صورة حضارية، فلنبتعد عن التشنج والتعصب والغضب لأمر بسيط..
لقد أثار لديّ هذا الكلام عن الحضارة والصورة الحضارية سؤالاً مشروعاً وهو:
ما مفهوم الحضارة؟ وهل الغرب يملك حضارة؟
إن لدي فهماً للحضارة وللمدنية، ذلك أنهما مصطلحان صناعيان، فإنني أرى أن الحضارة من الحضور –ضد الغياب- ولا يكون لأمة حضور إلا إذا كانت ذا تأثير، ولن يكون ذلك إلا إذا امتلكت مبدأ ثابتاً يحمل قيماً وثقافة وفكراً، له جذور ثابتة راسخة، لا يحمل جرثومة زواله وفنائه، وفي الوقت نفسه هو قابل للنهوض والاستمرار والاستقرار في كل حين، وله تأثير إيجابي وفاعل.
الأمة التي تجمع بين المبدأ والقيم بهذه المواصفات هي المؤهلة للعب دور الشهود والشهادة على الأمم (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) وهذه الحضارة لا يملكها غيرنا نحن المسلمين، نقول ذلك بملء أفواهنا ونحن مطمئنون.. ولله الحمد والمنة.
أما المدنية فأحب أن أسميها المادة أو العمران:
(هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) (هود 61).
(كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها) (الروم 9).
والخطاب عام وليس خاصاً بالمسلمين، والعمران نتاج فكر أو ثقافة أو حضارة، وبالتالي فهو يلوّن بلون الفكر أو الثقافة أو الحضارة.
يقول تعالى:
(الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) (التوبة: 97).
نلاحظ أن شدة الكفر والنفاق وعدم العلم (الجهل) سببه البعد عن مركز التلقي (الإشعاع الحضاري( فهذه الآية الكريمة فيها لفتة حضارية رائعة، وبناء عليها وجّه الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم سكنى البادية بقوله الكريم:
(من سكن البادية جفا..).
فالتركيز على المبدأ الحضاري، وهذا الذي افتقدوه وليس المادة..
الأصل أن تشكل الحضارة المادة (العمران) وتوجهها وتسيطر عليها، وعندها يكون التناسق والانسجام والتوازن، أما إذا انفصلت المادة عن المفهوم الحضاري (الروح) كان الفصام والانحراف والضلال، وعندها تشكل المادة الخطر الرهيب على الإنسان تتحكم به وتسيّره وتستعبده، تملكه ولا يملكها، تتحول إلى إله قاس لا يرحم، يصنعه الإنسان بيده ويخر له ساجداً ويلبي مكرهاً.
إن الآلهة الأولى –من الخشب والتمر والحجر- التي صنعتها الجاهلية الأولى ثم عبدتها لهي أهون وأبسط من آلهة الجاهلية الحديثة، كان الأول إذا جاع أكلها وإذا مسه البرد استدفأ بها وقوداً.. أما اليوم فهي التي تأكل أصحابها وتحرقهم!
رحم الله من قال: "الإسلام هو الحضارة" ورفض أن يجعل الإسلام مقابل الحضارة في قول "الإسلام و الحضارة" فإذا ذكر الإسلام فثم الحضارة، وإذا ذكرت الحضارة فلن يكون سوى الإسلام.
ولا أريد أن أخوض بحور وجوه النماذج الحضارية في الإسلام، فهذا يحتاج جهداً طويلاً ووقتاً أوسع ليس هذا محله الآن، ولكنني أريد أن أعطي أمثلة بسيطة على التناقض بين الادعاء الحضاري والواقع المادي في عصرنا الراهن.
كنت استمعت إلى لقاء إذاعي مع الفنان دريد لحام وقد سئل عن الحضارة فضرب مثلاً برجل يقود سيارة حديثة فاخرة يمر برجل ينزف على قارعة الطريق، فيلتفت إليه ويواصل مسيره دون أن يتوقف لإسعافه.. ويمر رجل يركب جملاً فيقف ويحمل الجريح لإسعافه.. أيهما الحضاري؟
هذا فهم صحيح للحضارة، فليس الحضاري من يركب السيارة الفارهة، بل هو الإنسان الذي يملك الروح الإنسانية والقيم النبيلة والثقافة الإيجابية.
وكنت أيضاً قرأت أن جندياً استعمارياً بريطانياً يمسك برجل أفريقي أعزل يريد قتله، فما كان من الأفريقي إلا أن عضّه، فجن جنون البريطاني "المتحضر" المدجج بالسلاح المستعمر (بالكسر) واصفاً الأفريقي بالحيوان والهمجي والمجرم..!! ترى هل البريطاني يحمل أي معنى حضاري..؟!
إن امتلاكنا لوسائل الاتصال الحديثة لم يغننا شيئاً في التأثير بالآخر، بينما كنا ونحن على عرش التأثير الحضاري وضعف الوسائل المادية نقول فيسمعون ونهدي فيهتدون.
وعوداً على بدء أقول: إن القضية بيننا وبين الغرب ليست في إظهارنا حضاريين أمامهم، فهم لا يملكون حضارة أصلاً، ولا ينتظرون منّا الخطاب الحضاري ولا الصورة الحضارية، إنما القضية تكمن في الهزيمة النفسية، في مواجهة الآخر.. إنها في هذه الكلمات:
واعلم يا ولدي أن عدوك ملء البر وملء البحر. فاحذر أن يملأ نفسك أنت.
انتهت الحرب إذا احتل عدوك روحك، أو أرسل أهواءك تسعى حولك. حتى دخلتك فهنت.
إذ عرف المدخل وتهاوى المدخول.
إذن... قضيتنا هي الحضارة التي تفضي إلى مراجعة النفس وتقويم الذات.