الابتلاء والتمحيص
الابتلاء والتمحيص ...!!!
|
د . فواز القاسم |
قال تعالى في كتابه الكريم : بسم الله ارحمن الرحيم : (( إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرحٌ مثله ، وتلك الأيام نداولها بين الناس ، وليعلم الله الذين آمنوا ، ويتخذ منكم شهداء ، والله لا يحبُّ الظالمين ، وليمحّصَ الله الذين آمنوا ، ويمحق الكافرين )) صدق الله العظيم .(آل عمران آية 140 )
إن واحدة من أشد سنن الله ثباتاً واضطراداً في أمتنا ، هي سنّة الابتلاء والتمحيص للمؤمنين .
فالشدة بعد الرخاء ، والرخاء بعد الشدة ، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس ، وطبائع القلوب ، ودرجة الغبش فيها والصفاء ، ودرجة الهلع فيها والصبر ، ودرجة الثقة فيها بالله ، والقنوط منه ، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله ، أو التبرم به والجموح.
وهذا ما يتم عادة من خلال الجهاد في سبيل الله ضد الكفار والمعتدين ، ومن خلال الابتلاءات والمحن ، التي يسلطها الله على عباده المؤمنين ، بقصد تربيتهم وتمحيصهم . فأثناء عملية الجهاد ومقارعة الطغاة والمتجبرين والمحتلين ، ودخول الأمة في أزمة حقيقية ، وامتحان جاد ، تتمحص النفوس ، وتتميز الصفوف، وتتباعد الخنادق ، وينقسم الناس إلى : مؤمنين ، وطنيين ، مجاهدين ، ثابتين ، راسخين أبطال ...
ومنافقين ، عملاء ، مأجورين ، مهزومين ، متخاذلين ، أنذال ...!!!
ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم ، وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم ، وتسقط كل أوراق التوت التي كان يضعها الجبناء على عوراتهم ، ويزول عن الصف الوطني المؤمن المجاهد ، ذلك الوهن ، وتلك الخلخلة، الناتجة عن احتوائه لبعض العملاء والمرعوبين والمفزوعين والمرجفين ، ممن كانوا يحسبون عليه، بينما هم في الحقيقة ضده .
لأن ديدن هؤلاء دوماً هو الضعف والتخذيل ، ودأبهم أبداً هو أن ينخروا في الصف المؤمن ، ويشيعوا فيه مقالة الإرجاف والتخذيل ، مصداقاً لقوله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم (( لو خرجوا فيكم ما زادوكم الا خبالاً ، ولأوضعوا خلالكم ، يبغونكم الفتنة ، وفيكم سماعون لهم ، والله عليم بالظالمين )) صدق الله العظيم
ولذلك فان خروج هؤلاء من بين صفوف الوطنيين المؤمنين مهما كان عددهم ، يعتبر قوة لا ضعفاً ، ونصراً لا هزيمة ، وان بدا في ظاهره خلاف ذلك ..
ثم هناك عملية تمحيص حتى للصف المؤمن ذاته ، والتمحيص هي درجة بعد الفرز والتمييز ، وهي عملية تتم في داخل النفس وفي مكنونات الضمير ، الهدف منها تنقية النفس المؤمنة ، وإخراج الدخل والدغل والأوشاب منها ، ثم تركها بعد ذلك نقية ساطعة على الحق مثل الشمس ، بلا غبش ولا ضباب ..
ومن هنا .. فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون _على أهمية الجهاد وعظمته _ انما هو الصبر على تكاليف المواجهة الشاملة مع الباطل ، تلك التكاليف التي لا تقف عند الجهاد في ميدان المنازلة فحسب ، بل ربما كان الجهاد هذا هو أخف تلك التكاليف وأسهلها على الإطلاق ..
فهناك الصبر على المعاناة اليومية التي لا تنتهي ، والتي هي أصلاً أثر من آثار العدوان الشامل ، معاناة الاستقامة على أفق الطهر والإيمان ، والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك والوجدان .
والصبر على الضعف الإنساني ، في النفس ، وفي الغير ، ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليومية . والصبر على طول الطريق ، وبعد الشُقَّة ، وظهور الباطل أحياناً بمظهر المنتفش والمستعلي ، بحيث يبدو للأعين المخدوعة وكأنه هو المنتصر .! والصبر على نقص الزاد ، وقلة المؤونة .
والصبر على وسوسة الراحة ، وهفوة النفس الى القعود في زحمة الألم والجهد المرير ، والكرب والنضال الطويل …
الصبر على ضعف بعض الأبناء ، وخيانة بعض الأشقاء ، ولا مبالاة أغلب الأصدقاء …
والصبر على مناشدات الدهماء ، أن نتقي الله في الدماء ...!!!
وكأننا لا نعرف أن دماء أهلنا ، ومباني وطننا غالية عزيزة علينا ، ولكن الأغلى منها عندنا هو عقيد الأمة ، وكرامة الأبناء ، وحريّة الوطن واستقلاله ...
والصبر على أشياء .. وأشياء .. ليس الجهاد في ميدان المنازلة الا واحداً منها .!
بل لعله أسهلها على الإطلاق كما أسلفنا .!!
أما بالنسبة للنصر بعد ذلك الجهاد الطويل ، والصبر المرير ، فالله تعالى هو المتكفل به ، وهو قادر على أن يمنحه لعباده المؤمنين ، في أية لحظة يشاء ، وقادر أيضاً على أن ينـزل ملائكة تقاتل أعداءهم ، معهم ، أو بدونهم لا فرق . وقادر على أن يدمر على الظالمين المعتدين ، كما دمر على عاد ، وثمود ، وقوم لوط .. ولكن المسألة في ميزان الله الجليل ، ليست هي النصر فقط .!
انما هي تربية الأمة ، وإعدادها ، الإعداد الجيد ، لتحمل مسئوليتها العظيمة ، في قيادة البشرية ، وتعليم الإنسانية ، وترشيد الحياة . بسم الله الرحمن الرحيم (( وكذلك جعلناكم أمة وسطا" ، لتكونوا شهداء على الناس ، ويكون الرسول عليكم شهيدا )) صدق الله العظيم .
وإن أول ما تقتضيه مثل تلك التربية الرائعة ، وأول ما يستوجبه مثل ذلك الإعداد العظيم هو :
صلابة في الخُلق ، وثبات على الحق ، وصبر على المعاناة ، واستيعاب للدروس ، ومعرفة بمواطن الضعف والقوة في النفس البشرية ، وخبرة بمواطن الزلل ، ودواعي الانحراف في الشخصية الإنسانية ..
ثم صبر بعد ذلك كله ، على الشدة بعد الرخاء ، كالصبر على الرخاء بعد الشدة ، في توازن رائع ، يليق بأبناء هذه الأمة من أصحاب العقائد ، وحملة المباديء ، وصناع الحياة ، وطلاب السؤدد ، وورثة المجــــــــــــــد …
بسم الله الرحمن الرحيم (( وكان حقاً علينا نصر امؤمنين )) صدق الله العظيم ...