قطوف وخواطر

عبد المنعم مصطفى حليمة

" أبو بصير الطرطوسي "

www.abubaseer.bizland.com 

[email protected]

441- كلامُك!

  كلامُك دليل عليك .. يُظهِر المخبوء من نفسك .. إما أنه يُردِيك .. وإما أنه يُنجيك .. ويُعليك .. إن صنته صانك .. وإن هنته هانك.

  مَن هان عليه كلامه كثر لغطه وغلطه .. وظلم أذنيه ـ وآذان سامعيه ـ من فِيه .. لا يُبالي أن يضعه في أي موضعٍ مُستقبَح .. تراه يُزاحم الناسَ في الكلام؛ ليأخذ حصته وحصة غيره .. المهم أن يتكلم ـ أي كلام؛ بعلم وبغير علم ـ وأن يصرف وجوه الناس إلى كلامه .. وإن أورده المهالك، وارتد عليه بالخسران!

  ومن عَزَّ عليه كلامه .. غلا ثمنه .. وقلَّ لغطه وغلطه .. وأنصف أُذنيه من فِيه .. وفاضل بين أحسن ما عنده من كلام .. ووازن بين الحسن والأحسن من كلماته .. وحسب لها حسابها قبل إخراجها .. وتحرَّى لها أطيب وأحسن المواضع ليضعها فيها .. يُمسِك حيثما يُستحسن الإمساك ويتعيَّن .. ويتكلم ـ بقدر ـ حيثما يُستحسن الكلام ويتعين .. لا يُمِلّ الناسَ من كلامه .. يقوم عنهم وهم لحديثه وكلامه راغبون .. متشوِّفون.

  قال تعالى:) وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً (الإسراء:53.

  وفي الحديث:" وهل يكبُّ الناسُ في النارِ على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم ". وفي رواية:" وهل يكب الناس على مناخرهم في جهنّم إلا ما نطقت به ألسنتهم، فمن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو يسكت عن شرٍّ، قولوا خيراً تغنموا، واسكتوا عن شرٍّ تسلموا ".

  وقال صلى الله عليه وسلم:" إنَّ الله لا يحبُّ هذا وضربه؛ يلوون ألسنتهم للناس ليَّ البقرة لسانها بالمرعى، كذلك يلوي اللهُ ألسنتَهُم ووجوههم في النار ".

  وقال عمر رضي الله عنه:" من كثُرَ كلامُه كثر سَقَطُه، ومن كثر سقَطُه كثُرت ذنوبُه، ومن كثرت ذنوبُه كانت النارُ أولى به ".

  وكان ابن عباس رضي الله عنه يأخذ بلسانه وهو يقول:" ويحك قل خيراً تَغنَم، أو اسكت عن شرٍّ تَسلَم، وإلا فاعلم أنك ستندَم ".

  كلامُك أنت سيده ومالكه ما حافظت عليه وبقي في نفسك .. فإن خرج منك .. أصبح مُلْكاً لغيرك .. وربما بسببه جُعِلتَ مُلْكَاً وأسيراً لغيرك .. وأصبحتَ مملوكاً بعد أن كنت مالكاً. 

  وقد قِيل من قبل: اللسانُ كَلبٌ عقورٌ، إن خُلِّي عنه عَقَر.

  وقِيل: صدرُكَ أوسعُ لسرّك من صدر غيرك.

  وكان ابن مسعود رضي الله عنه :" يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، ما على الأرضِ شيءٌ أحوجُ إلى طولِ سجنٍ من لِسانٍ ".

وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: ما استودَعتُ رجلاً سِرَّاً فأفشاه فلُمْتُه؛ لأني كنتُ أضيَقَ صدراً منه حين استودعتُه إياه حين أفشاه.

  وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ينشد، فيقول:

  يموتُ الفتى من عَثْرَةٍ من لِسانِه ... وليس يموتُ المرءُ من عَثْرَةِ الرِّجْلِ

  فعثْرَتُه من فِيهِ تَرمِي برأسِهِ ... وعثرَتُه بالرِّجْلِ تُبرَى على مَهَلِ

* * * * *

442- من معاني حِفظِ الله لدينه.

  من معاني حفظ الله لدينه .. أن يُظهِر نفاق وكيد المنافق .. الذي يتكلم باسم الدين .. ولو بعد حين!

  كمَا من معاني حِفظِ الله لدينه .. أن يُظهِر إخلاص المخلصين .. ويُعلي من كلمتهم وشأنهم ولو بعد حين.

  كم من مُتسلِّقٍ مداهنٍ منافق .. أظهرته الدعاية والأضواء على أنه داعية وعالم وبطل لا يُشَق له غبار .. يخفى شرّه وضلاله ـ برهة من الزمن ـ على كثير من الناس .. لكن يأبى الله تعالى إلا أن يفضحه .. ويُظهر نفاقه .. ويُعرِّف الناسَ على حقيقته .. ولو بعد حين. 

  بل حتى من له سابقة علم ودعوة وإخلاص .. ثم يطرأ عليه النفاق .. أو شيء من النفاق .. يُظهره الله تعالى .. ليميز الخبيث من الطيب .. حتى لا يلتبس على الناس أمر دينهم .. وهذا من مقتضيات ومعاني قوله تعالى:) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر:9. فلله الحمد، والمنة، والفضل.  

* * * * * 

443- صِفَةُ عَمَلِ الدَّاعية النَّاجِح.

  الداعيةُ النَّاجحُ الموفَّقُ تتحققُ فيه صفتان: أولهما تَعريفُ العبادِ بربِّ العباد .. وبحقه على العباد .. وما يُقربهم ويوصلهم إليه .. ويُحببهم به I

  ثانياً: أن يُبَصِّرَ العبادَ بصفات وأنواع الطواغيت التي تُعبَدُ من دونِ الله .. ليعتزلوها ويجتنبوها .. ويكفروا بها.

  ولا يكتمل عملُ الدَّاعية إلا إذا قام بالأمرين معاً .. وجاهد دونهما في سبيل الله قدر استطاعته .. وهذا الذي كان عليه جميع الأنبياء والرسل من لدن آدم u إلى نبينا صلوات الله وسلامه عليه .. كما قال تعالى:) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ (النحل.36. وكان ما من نبي إلا ويقول لقومه:) يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ (الأعراف:59.

  الداعية الذي تتحقق فيه هاتين الصفتين الآنفتي الذكر أعلاه .. وينشط في دعوته لهما .. هو المعني من قوله تعالى:) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (فصلت:33.

* * * * *

444- صِفَةُ أولياءِ الله.

  للوليِّ أربع خِلالٍ:

  أولها: العِلم .. كما قال تعالى:) إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء (فاطر:28. وقال تعالى:) شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (آل عمران:18. فأشرك العلماء ـ دون سائر الخلق غير الملائكة ـ في الشهادة على أعظم وأرفع مشهود. 

  ثانياً: الانقيادُ والمتابعة للسنة .. كما قال تعالى:) قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ (آل عمران:31.

  ثالثاً: الجهادُ في سبيل الله .. كما قال تعالى:) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا (العنكبوت:69.

  رابعاً: الإخلاص .. وهو شرط لقبول أي عمل .. كما قال تعالى ) فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (الكهف:110. وقال تعالى:) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (ص:82-83.

  هؤلاء ـ الذين تتوفر فيهم الخلال الأربعة الآنفة الذكر ـ هم المعنيّون من قوله تعالى:) أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (يونس:62.

  وعلى قدر تحقق هذه الخلال والصفات في المرء على قدر ما تتحقق له الولاية .. ويكون من المصطفين الأخيار .. والعكس كذلك؛ على قدر ما تنتفي تلك الخلال والصفات عن المرء .. على قدر ما تنتفي عنه الولاية .. وتكون ولايته ناقصة .. ومن يزعم الولاية لمن لا تتحقق فيه الصفات الأربعة الآنفة الذكر أعلاه .. فهو جاهل .. وواهم .. وممن يقولون على الله بغير علم. 

* * * * *

445- بلادُنا ليسَت لنا!

  استوقفني خبر اقشعرَّ له بدني .. يقول: بأن دولة قطر قد استقبلت الملعون الدنماركي صاحب الرسوم " الكريكاتورية " الساخرة بحق سيد الخلق صلوات ربي وسلامه عليه .. ضمن فعاليات اليوم العالمي للإعلام .. وحرية التعبير .. لينعم الخبيث بدفء حسن الضيافة .. وبالكرم العربي الأصيل!

  هكذا يستقبلُ طغاةُ بلادي .. الشياطين من أعداء الأمة .. وأعداء الإسلام والمسلمين .. الطَّاعنين بسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه .. بينما الأحرار من الدعاة إلى الله فنصيبهم الطرد .. والمطاردة .. وغياهب السجون والزنازين لو حطَّت أرجلهم أرضَ مطاراتهم ...!

  ألم أقل لكم: أن بلادَنا ليست لنا! 

* * * * *

446- ما يَظهر عن طريق الرياء ..!

  ما يَظهر عن طريق الرياء .. منقطع .. لا خير فيه .. كان سيَظهر أضعافه عن طريق الإخلاص لو صبرت .. وكنت من المخلصين!

  الإخلاصُ سيُظهِره الله .. عاجلاً أم آجلاً .. وتأخير ظهوره اختبار لك؛ هل ستُظهِرُه عن طريقِ الرياء أم لا؟!

  فلا تُفسِدَنَّ عملاً باستعجال إظهاره قبل أوانه .. وعن غير طريقه الشرعي .. فمن تعجَّل شيئاً قبل أوانه عُوقِبَ بحرمانه.

ولو لم تأتها لأتَتْكَ .. لكنك استعجلتَ فسألتَ .. واستشرَفت! 

* * * * *

447- شاهِدُ الزُّورِ. 

أن يشهَدَ المرءُ على شخصٍ آخر في قضيةٍ ما هو بريء منها؛ فيَنسِبُ إليه ـ بهتاناً وزوراً ـ ما لم يفعل، ولم يقل .. فهذا شاهد زورٍ!

والأسوأ منه .. الذي ينسب للحق باطلاً .. أو ما ليس فيه .. أو للباطل حقاً أو ما ليس فيه .. فيزوِّر الحقائق والمعاني على عبادِ الله .. فهذا أيضاً شاهد زور .. وهو أسوأ ممن قبله.

ونحوه الذي يسكت في المواضع التي يتعين فيها الكلامُ والصَّدعُ بالحق .. ثم يُفَسَّرُ سكوتُه على أنه شهادةٌ وإقرارٌ وموافقة لما يسمع من باطل .. فهذا أيضاً شاهد زور .. يطاله الوعيد الذي يستحقه شاهد الزور .. وما أكثر هؤلاء الذين يدخلون في هذا المعنى لشهادة الزور .. أعاذنا الله وإياكم من شهادة الزور .. وشُهودِه! 

* * * * *

448- أماكن لا تُدْخَل.

من الأماكن التي لا تُدخَل .. والتي أنصح بعدم دخولها: المطاعم الخاوية من الناس .. التي يقلُّ روادها .. ونحوها البقّالات التي تخلو من الزبائن .. وبخاصة منها التي لا تُسعِّر بضائعها .. فهي غالباً تقوم على الغشِّ والاحتيال .. وعرض الفاسد من الأشياء .. فيوضَع لها النفور والكراهية في قلوب العباد .. وتُرفَع عنها بركة السماء .. وإلا قل لي: كيف تفسر وجود بقالتين بجوار بعضهما البعض .. فيهما نفس البضائع والأشياء .. إحداهما مزدحمة بالزبائن .. لا يتوقف فيها البيع والشراء .. والأخرى فارغة من الزبائن .. وكذلك المطاعم؛ فما أكثر المطاعم المتقاربة المتجاورة التي يتحقق فيها هذا الوصف؛ بعضها مزدحم بالزبائن .. لا تهدأ فيها الحركة .. وبعضها الآخر خاوٍ .. لا يُحرّك سكونها أحد؟!

السبب هو ما تقدم ذكره أعلاه ...!

ومن الأماكن كذلك؛ الحدائق العامة .. التي تخلو من وجود الناس .. فغالباً ما تكون هذه الحدائق مرتعاً للجريمة والفساد .. وفي البعد عنها منجاة .. وطلب للسلامة .. والله تعالى أعلم. 

* * * * * 

449- الكِتَابُ.

كَثُرَت وتنوَّعت وسائلُ الإعلامِ والتَّلقّي .. وهي في توسُّعٍ وازديادٍ .. وهي ـ فيما بينها ـ في تنافسٍ مستمر؛ أيُّها يجذب ويصرف إليه أكبر قَدْرٍ من الناس!

لكن الحقَّ، والحقَّ أقول: على كثرة تنوع وسائل الإعلام والتَّلقي .. وعلى شدة فتنتها وأثرها .. إلا أن الكتاب يبقى سيدها .. وهو أولها .. وأدومها .. وأكثرها أثراً وجاذبية .. وجمالاً .. وفائدة .. وسهولةً في التعامل والتداول .. وأكثرها ضبطاً وحفظاً  للنصوص التي يُراد نشرها .. وأكثرها أماناً وأمانةً.

والمرء .. مهما اقتنى من تقنيات وسائل الإعلام والتَّلقي .. في النهاية لا غنى له عن الكتاب .. وعن استخدام الكتاب .. والتعامل مع الكتاب .. لأنه لا يوجد مما يقتنيه من وسائل التلقي الأخرى ـ على كثرتها ـ ما يُغني عن الكتاب .. ويسد مَسد الكتاب!

لأجل ذلك أنصح باقتناء الكتاب النافع .. والتَّصالح مع الكتاب .. وتشكيل مكتبة نموذجية في كل بيت .. ينشد أهله التقدمَ والوعي، والتحضّر.

* * * * *

450- الولاءُ والبراء في البيعِ والشِّراء.

الاقتصاد عَصَبُ الحياة .. وهو مَطلَبٌ لجميع الناس .. ومن الناس من يؤدِّبه الدرهم والدينار .. مالا يُؤدبه شيء آخر!

وعليه فأقول: مَن عُرِف بعدائه للإسلام والمسلمين .. وأنه يرصد جزءاً من ماله وربح تجارته لمحاربة الله ورسوله .. ولصدّ الناس عن دين الله .. أو أنه ممن يشتمون اللهَ والدين .. أو أنه ممن يبيعون الخمور والمسكرات في محلاتهم .. يُقاطَع اقتصادياً .. ويُعتَزَل التعامل معه بيعاً وشراءً ما أمكن إلى ذلك سبيلاً .. تبكيتاً له وعقاباً .. عساه أن يرعوي على نفسه .. فيُمسِك .. أو يقِل ويضعف شرّه على الناس!

كذلك من يُعرَف بالتقوى والاستقامة .. ينبغي أن يُقصَد في التعامل من بين الناس .. ويُبَاعَ منه وإليه .. لأن في تقوية هذه الشريحة من الناس اقتصادياً .. هو من التضامن والتكافل الذي يجب أن يكون بين المسلمين .. ومن التقوّي على طاعة الله .. والتعاون على البرِّ والتَّقوى.

قال تعالى:) وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (المائدة:2.

هذه السياسة في التعامل كما ينبغي أن تُمارَس على مستوى الأفراد .. والجماعات .. ينبغي أن تُمارَس ـ بصورة فاعلة وأشد ـ على مستوى الدول والحكومات .. لو كان حكام بلاد المسلمين ممن ينتسبون إلى الأمة .. وإلى عقيدتها ... وهؤلاء لو ناديتهم .. ومهما ناديتهم .. لا حياة لمن تُنادِي!

* * * * *

451- أنتَ ووسائِلُ التَّلَقِّي.

  كما تُحْكِم إغلاق وعاء الطعام .. حتى لا تتسرب إليه الأوساخ والجراثيم .. فتعمل عملها الضار في جسدك .. كذلك يجب عليك أن تُحكِم إغلاق وعاء بصرك وسمعك وفؤادك .. حتى لا تتسرب إلى قلبِكَ وذهنِك وروحِك السُّمومُ المبثوثة عبر وسائل الإعلام والتَّلقّي .. فيصعب عليك التخلصُ منها بعدما يكون السُّمُّ قد سرى في روحك .. وعروقك .. وعقلِك .. وعَمِلَ عَمَلَه!

  كما تُحْكِم إغلاق النوافذ .. حتى لا يدخل الغبارُ .. والذبابُ .. إلى ساحة غرفتك .. عليك كذلك أن تُحكم إغلاق النوافذ أمام وسائل الإعلام والتلقي المختلفة .. التي تعمل جاهدة على إدخال ألوان من الأوساخ الفكرية والثقافية والعقائدية الضارة .. والقاتلة لروحِك وعقلِك.

  وكما تُحْكِم إغلاقَ باب دارِك .. حتى لا يدخل اللصوصُ فيسرقون مالَك .. ويعتدون على حُرماتِك .. كذلك عليك أن تُغلِقَ باب دارِك أمام اللصوصِ الذين يُريدون أن يَسرِقوا منك دينَكَ وإيمانَك وعقلك .. وهؤلاء أشد جرماً وأثراً من اللصُوصِ الأوائل!

  وإن كان لا بد لك من فتحها .. فليكن بِقَدْرٍ .. وبالقدر الذي يسمح للنافع بالدخول .. والضار منها يبقى خارجاً مطروداً .. واقفاً بعيداً عن العتبات والأبواب .. مذؤوماً مدحوراً.

  اعلم أنك ابنُ وسائل التَّلقي .. فكما يُلقَى فيك تكون .. وقلْ لي ماذا يُلقَى فيك أقول لك من تكون؛ فإن أُلقي فيك خيراً نَضَحْتَ خيراً .. وإن ألقي فيك شرَّاً نَضَحتَ شرَّاً .. فالإناءُ يَنضَحُ ما فيه .. ولا يُمكن أن يَنضَحَ إلا ما فيه .. والأرضُ تُنتِجُ ما يُزرَعُ فيها؛ فإن زُرِعَت قمحاًً أنتجَت قمحاً .. وإن زُرِعَت شوكاً أنتجَت شوكاً .. فانظر أي أرضٍ أنت .. وأي زَرعٍ يُرمَى فيك!

كما تُعرَفُ صَحَّتُك الجسدية من خلالِ طريقتك في تناول الطعام .. ومَدى اهتمامك بجودة الطعام كمَّاً ونوعاً .. كذلك تُعرَف مَدَى صحتك وسلامتك الفكرية والعقلية والروحية .. من خلال طريقتك في التعامل مع وسائل الإعلام والتَّلقِّي العديدة والمنتشرة .. والتي كثير منها يتربص بك وبغيرك المكائد والضرر، والشر!

قال تعالى:) إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (الإسراء:36. فهذه هي رعيَّتُك .. وأنت راعٍ لها .. ومسؤولٌ عنها.

* * * * *

452- عندما تُجالِسُ عالماً.

إن جالستَ عالماً .. أو كنت في حلقة من حلقات طلب العلم .. احرِص على أمرين: استغلال وقت المجالسة فيما ينفعك في دينك ودنياك .. بحيث ـ ومن معك من طلابِ العلم ـ لا تسمحوا للوقت أن يمر من دون فائدة أو تحصيل فائدة .. كما لا تسمحوا بإشغال العالِم فيما لا ينفع أو فيما يقل نفعه!

ثانياً: احرص على أن تطرحَ على العالِم أهم ما يعنيك من أمور دينِك ودنياك .. فلا تبدأه بصغائر المسائل .. وبما يُصنَّف في خانة الترف الفكري والنَّظري ـ الذي يُعتبر الجهل أو العلم فيها لا يُقدم ولا يُؤخّر ـ بينما أنت لا تعلم شيئاً عما يعنيك ـ ويعني أمتك ـ من المسائل الكبار التي يترتب على التفريط أو الجهل فيها وعيدٌ شديد .. فالعالم يسير معكم حيثما تسيرون به .. ويتفاعل مع المسائل التي تطرحونها عليه أيَّاً كان نوعها .. وبالتالي على قدر ما تُحسِن طرحَ المسائل .. وتُحسن انتقاءها .. على قدر ما تستفيد وتُفِيد .. وتُرشِّد حديثَ المجلِس.

أقول لك ذلك: لأن فرصة مجالستِك للعالِم قد لا تتكرر .. وفي الوقت الذي تشاء .. وحتى لا تندم ـ فيما بعد ـ على ما كان منك من تفريط بوقت الشيخ وبمجالِسِه .. ولاتَ حين مندم! 

* * * * * 

453- الطالِبُ الذَّكي!

هو الطالب الذي يُحسِن جملةً من الأمور:

منها: حسن انتقاء المسائل إذا ما جالس عالماً.

ومنها: حسن طرح المسائل على العالم؛ فيبدأ بالأهم فالأهم .. ولا يبدأ بالمهم إلا بعد أن ينتهي الجواب عن الأهم .. ثم هو لا يُقحِم المسائل بعضها على بعض قبل أن تستوفي كل مسألة حقّها.

ومنها: أن يطرحَ المسائل على العالِمِ؛ على وجه الاسترشاد ومعرفة الحق .. وليس على وجه الاختبار .. أو الجدال .. أو المناظرة!

ومنها: حُسن استغلال وقت العالم فيما ينفعه في دينه ودنياه .. فلا يُضيِّع وقت العالِم فيما يقل نفعه .. أو فيما لا نفع فيه!

ومنها: حسن الإصغاء .. وحسن الإقبال على العالِم وهو يتكلم .. فلا ينشغل عنه بشيء يجعل العالم يفتر عن محادثته والإقبال عليه. 

ومنها: حسن الفهم عن العالِم .. من دون أن يضطر العالم إلى تكرار السهل المُكرر .. وشرح المشروح .. وتوضيح الواضح .. وبرهَنةِ المُبرهَن .. والاستدلال على الدليل .. أو أن يُفسِّر الماءَ بالماء!

ومنها: حسن التأويل للعالم فيما يعتقد أنه قد أخطأ فيه .. والصبرُ عليه ـ من غير استعجالٍ، ولا إنكار ـ فيما لا يفهم، إلى أن يَفهم .. أو فيما يظنه خطأً وفي حقيقته ليس خطأً .. فسرعة إنكار التلميذ على شيخه ـ من غير تثبّت ـ تُفسد ما بين التلميذ وشيخه من ودٍّ وعلاقة .. وقد تقطع ما بينهما من تواصل .. والخاسر حينئذٍ هو الطالب .. وفي قصة موسى u مع الخضر عِظةٌ وعِبرة لمن أراد أن يعتبر.

ومنها: أن يستمعَ القولَ؛ فيتَّبع أحسَنه ...!

* * * * *

454- العَالِمُ مَوْقِف!

العالِمُ موقِفٌ يقِفُه لله .. يُعرَفُ به .. يَصدعُ فيه بالحقِّ في وجه طاغية ظالم .. أو ينتصفُ فيه لمظلوم من ظالمه .. وإن كان في ذلك هلاكه .. قد يسبق به غيره من أهل العلم ـ ممن يتقدمون عليه بحفظ المتون والمسائل ـ سبقاً بعيداً ... لكن ليس لهم مواقف مميزة ينتصرون ـ أو يغضبون ـ فيها للحق!

وكما أن العالِمَ يظهر .. ويُوضَع له القبول في السماء والأرض بموقفٍ يقِفُه لله .. ويرقى به لأن يكون من السَّادَةِ الشهداء .. مثاله الإمام أحمد .. والعز بن عبد السلام .. وشيخُ الإسلام .. وغيرهم الكثير .. ولا نُزكّي على الله أحدَاً .. كذلك قد ينسلخ من آيات الله .. ويوضَعُ له البغض في السماء والأرض .. بموقف يخذل فيه الحق .. وينصر فيه الباطل .. مثاله بِلعام بن باعوراء .. وما أكثر العلماء في هذا العصر الذين هم على مذهب وطريقة بلعام في خذلان الحق .. ونصرة الباطل .. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

* * * * *

455- الأدَبُ السَّاقِطُ، والأدَبُ الراقي!

الأدَبُ الوصفِي القائم على وصفِ المرأة؛ كجسدٍ .. وحركات .. وأصوات .. ونظرات .. وإغراءات .. وبالتفصيل الممل .. والمخِل بالأدب .. الذي له دلالة واحدة؛ تنحصر في إثارة الشهوات لا غير .. هو أدبٌ ساقِطٌ وإن سُمي زوراً بالأدَب .. أو كان مُحَلَّى ببعض الصور البيانية .. وما أكثر الأدباء الذين غاصوا في هذا المستنقع الآسِن من الأدب، وما عرفوا الخروج منه ـ نزولاً عند رغبة الجماهير الضَّالة التي لا يهمها في هذه الحياة سوى الإصغاء لنداء الشهوات ـ فماتوا ولم يقدموا أدباً راقياً نافعاً على الحقيقة، وإنما قدموا مقدمات .. ومهيِّجات .. ومسعِّرات .. الرذيلة .. فكان مثلهم كمثل القوَّاد الذي يُعرِّف على أماكن الدعارة .. ويزيّن ارتيادها .. وهم يعلمون أو لا يعلمون!

كم من كلمةٍ ماجِنةٍ ـ تحكي سيرة وأخبار الفُسَّاق ـ صُنِّفَت على أنها كلمةٌ أدبية .. أو عملٌ أدبي يستحق النشر .. كانت سبباً في تجريء شابٍّ على اعتياد دُورِ الدَّعارة .. والوقوع في الرذيلة والعياذ بالله .. وعلى محاكاة سيرة العشَّاق من الأدباء .. في العِشقِ .. والولَهِ .. والهيمان .. والقلَقِ .. والسَّهر .. والجنون .. والاعتداءِ على أعراضِ الناسِ .. والدَّالُّ على الشَّرِّ كفاعله!

بينما الأدَبُ الراقي .. هو الأدب الملتزم برسالةٍ إنسانية أخلاقية راقية .. ترتد على البشرية والإنسانية بالخير .. والرقي والتحضر .. هو الأدَبُ الذي يُعنى بتقويم اعوجاج الناس .. وردهم إلى جادّة الحقِّ والصواب.

فالأدَبُ تُعرَف قيمته من خلالِ رسالته التي يريد إيصالها للقارئ؛ فإن كانت رسالةً إنسانية راقية تُعنى بالقيم الراقية والأخلاق الرفيعة .. فهو أدَبٌ راقٍ محمود .. وإن كانت رسالةً حيوانية .. تُعنى بالغرائز .. والسَّاقِط من القيم والأشياء .. فهو أدَبٌ هابطٌ مَذموم .. ومن الأدباء من خلطوا في عملهم الأدبي بين الأدب الراقي والأدَب الهابط .. وهؤلاء مثلهم كمثل من خلط عملاً صالحاً بعملٍ طالح .. وهو أقرب للأكثر منهما!

* * * * *

456- أكذوبَةُ الحُبِّ العُذْرِي!

كذبوا علينا لما قسَّمَ أدباءُ الحُبِّ الحُبَّ إلى قسمين: حبٌّ عُذري .. راقٍ .. ممدوح لا حرَج فيه .. وحُبٌّ ماجِنٌ فاحِشٌ .. يتنافى مع الآداب .. ولا يليقُ بالأكابر!

وعندي أن الحبَّ هو الحب .. ايَّاً كان نوعه .. إذا بدأ واستعار أواره لا يرضى بالتوقف قبل أن يصل إلى منتهاه .. ومبتغاه إن أمكن له ذلك .. كالجائع الذي يتضور جوعاً .. ثم تُفرَش أمامه مائدة مليئة بالأطعمَةِ الشَّهيَّة .. التي تفوح منها روائحها الزَّكيّة .. لا يَقنع أن يكتفي بشم رائحتها  .. أو مجرد النظر إليها عن بُعد .. بل إن النظر إليها .. وشم رائحتها .. يُهيِّج عنده غريزة الأكل أكثر .. ويُجرئه أكثر على المجازفة والاقتحام .. ومد اليد .. من دون أن يحسب للعواقِب حساباً!

لا يُمكن أن يُقال لِعَطشانٍ يَكادُ العطَشُ أن يقتلَه .. ها هو أمامك كأس من الماء البارد العَذب .. لك أن تنظر إليه .. وتُتغزَّل به .. وتُحبه حباً عذرياً .. عن بُعد .. لكن لا تمدَّنَّ يدَك إليه!

لذا أقول: فإن التَّرخيص للحبِّ العذري .. وتحسينه .. والترويج لثقافته .. هو ترويج للفاحِشةِ .. وهو مقدمة للوقوع في الحبِّ الماجِن ولا بد .. كما في الحديث:" العينان تزنيان وزناهما النَّظَر، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجْلان تزنيان وزناهما المشي، والقلبُ يتمنى ويشتهي، والفَرْجُ يُصدّق ذلك أو يُكذِّبه ".

 قال ابن القيم رحمه الله: النظرةُ تُولِدُ خَطرَةً، ثم تولدُ الخطرَةُ فكرةً، ثم تُولِدُ الفكرةُ شهوةً، ثم تُولد الشهوةُ إرادةً، ثم تَقوَى؛ فتصيرُ عزيمةً جازمةً، فيقعُ الفعلُ ولا بد ما لم يمنع منه مانعٌ، وفي هذا قيل: الصبر على غض الطرف أيسر من الصبر على ألم ما بعده ا- هـ.

وقد صدَق من قال:

وطَرْفُ الفتَى يا صَاحِ رائدُ فَرْجِهِ ... ومُتْعِبُه فاغضُضْهُ ما استَطَعتَ تَهْتَدِ

* * * * * 

457- الوَعدُ العَربي!

إن قال لك الشرقي أو العربي ـ إلا من رحم الله منهم ـ: مَوعِدُ لِقائنا بعدَ ساعةٍ .. فاعلم أن الموعد قد يكون بعد ساعتين أو أكثر .. وقد لا يكون مطلقاً .. ولا تنتظر منه اتصالاً أو اعتذاراً يبرر لك تأخُّرَه أو عدم مجيئه .. وإن دعاك إلى وليمة أو طعامٍ .. فلا تُصدِّقه من أول مرة .. حتى يُكرر لك دعوته مراراً وتِكراراً .. ولو صدَّقته من أول مرة أحرجته .. وتبين لك عدم صدق دعوته لك .. وهو لكي يصدّقك في دعوتك له .. ويلبي لك دعوتك .. يجب أن تكرر دعوتك له مراراً .. وإلى آخر لحظة من الموعد .. فتقول له: لا تنسَ الموعد .. فنحن بالانتظار .. لن نأكل ـ ولن نبدأ بتناول الطعام ـ حتى تأتي فتأكل معنا!

وهذه ظاهرة سلبية .. غير حضارية .. تتنافى مع تعاليم وقيم الإسلام .. التي تحض على الصِّدق .. والوفاء بالوعد .. والتَّسامِي عن التَّكلُّفِ ... كما يترتب عليها إحراجٌ وضَرَرٌ كبيران للناس .. وفي الحديث:" لا ضَرَرَ، ولا ضِرار ".

* * * * * 

458- رنَّاتُ الهواتِفِ في المساجِد! 

من مساوئ التكنولوجيا الحديثة .. هذا التَّرَف المُشاهَد في اقتناء الهواتف اليدويّة .. حيث أن الواحد منَّا لم يعد يقتنع بهاتف واحد .. يستخدمه عند الحاجة .. بل تراه يمتلك اثنان وثلاثة .. وربما أكثر: هاتف خاص بأهل البيت .. وهاتف خاص بالعمل .. وهاتف خاص بالأصدقاء .. وهاتف خاص بالخواص من الأصدقاء .. والحالات الطارئة .. وهذه كلها تدخل معه إلى المسجد .. وما إن يدخل في الصلاة .. هو وغيره .. ممن تنتفخ جيوبهم بالهواتف اليديوية النقَّالة .. إلا وتبدأ الرنّات .. تنبعث منها المعازِف المزعجة والمؤذية .. على اختلاف أصواتها وأنواعها .. وهذا كله يكون على حساب صلاة المصلين وخشوعهم .. وحساب قدسية المكان الذي ينبغي أن يسود فيه الهدوء! 

فالمساجد من شعائرِ الله .. وكذلك الجمعة والجماعات .. وتعظيم شعائر الله من تقوى القلوب .. كما قال تعالى:) ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (الحج:32. 

والواجب في هذه الحالة .. التثبت جيداً من إغلاق الهواتف قبل دخول المسجد .. فإن نسي المرء .. ثم فوجئ بهاتفِه النقَّال يرن وهو في الصلاة .. فليبادر مسرعاً إلى غلقه وهو في الصلاة .. فهذا لا يؤثّر على صحة صلاته .. ولا يُبطلها كما يظن البعض من أن ثلاث حركات ـ ليست من الصلاة ـ تُبطِل الصلاة .. وبالتالي فهو يدع هاتفه يرن .. ويرن .. ليستمر في أذى المصلين .. إلى أن تنتهي الصلاة .. وهذا خطأ؛ فالحركة للضرورة لا تُفسِد الصلاة .. كرد السلام إشارة باليد .. أو فتح الباب لقارعه، إن لم يوجد من يفتح له الباب .. أو حمل الطفل الذي يبكي من أجل إسكاته .. فهذا كله ثابت في السنة .. بل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل الأسودين في الصلاة:" الحيَّة، والعقْرَب ". وقتلهما يوجب من الحركة ما هو معلوم للجميع .. ومع ذلك يستمر المرء في صلاته ولا يقطعها .. فصلاته صحيحة ولله الحمد.

* * * * *

459- زَكاةُ العِلم.

العلم يزكو وينمو بثلاثة أشياء:

أولها: بذل العلم لمحتاجيه من الناس .. وهذا من لوازمه حصول المدارسة والمراجعة .. فيثبت بذلك العلم في صدر صاحبه .. وينمو ويزداد؛ لأن في المدارسة وعملية التعليم والتلقين تتلاقح الأفكار وتتكاثر .. والفكرة تولد فكرة .. وتدل على أختها .. ثم ما من شيء يُنفَقُ منه لله .. إلا ويُعوّضه الله من جنسِه أضعافه، كما في الحديث القدسي:" أنفِق أُنفِق عليك ". " لا تُوكِي، فيُوكَى عليك ". وهذا عام في جميع ما يُنفَق من الأمور المادية والمعنوية .. وفي الحديث:" مثلُ الذي يتعلّمُ العِلمَ ثم لا يُحدِّثُ به، كمثلِ الذي يكنزُ الكنزَ ثم لا يُنفِقُ منه ".

ثانيها: العمل بالعلم .. فهو كالنقش في الحجر .. فلا شيء يثبّت العلمَ في صدر صاحبه ويزيده وينميه .. كالعمل به.

وقد قِيل: من عمِلَ بما عَلِم أورثه اللهُ علم ما لم يعلم.

قال تعالى:) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى (مريم:76. وقال تعالى:) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ (محمد:17.

وقال تعالى:) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (فصلت:33. هذه الآية شاملة للنقطتين الآنفتي الذكر أعلاه: بذل العلم إلى الناس .. بدعوتهم إلى الله .. ) وَعَمِلَ صَالِحاً (؛ بالعلم الذي تعلَّمه ويُعلِّمه .. فهذا لا أحدَ أحسَنَ منه!

ثم كما أن العملَ بالعلم .. يزيد العلمَ وينميه .. كذلك ترك العمل بالعلم .. فإنه يُذهِب بركةَ العلم .. ويمحقه .. كما قال تعالى:) كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (الصف:3.

وفي الحديث، قال صلى الله عليه وسلم:" مررتُ ليلةَ أُسري بي بأقوامٍ تُقرَضُ شِفاههم بمقاريضَ من نارٍ؛ قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: خُطباءُ أُمَّتِكَ الذين يقولون ما لا يفعلون " متفق عليه.

ثالثها: الإخلاصُ .. وما أدراك ما الإخلاص .. بركة كل عِلمٍ وعمَل .. وشرط لصحته وقبولِه، كما في الحديث:" إنما الأعمَالُ بالنيّات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى " البخاري.

وقال صلى الله عليه وسلم:" قال الله عزَّ وجل: أنا أغنى الشّركاء عن الشّرك، فمن عملَ لي عملاً أشركَ فيه غيري فأنا منه بريء، وهو للذي أشرَكَ ".

وقال صلى الله عليه وسلم:" مَن تعلَّم عِلماً مما يُبتَغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليُصيبَ به عَرَضاً من الدنيا، لم يجدْ عَرْفَ الجنَّة يومَ القيامة " يعني ريحها.

وقال صلى الله عليه وسلم:" من طلبَ العلمَ ليُباهي به العلماء، ويُمارِي به السُّفهاء، أو ليصرفَ وجوهَ الناسِ إليه، فهو في النار ".

وقال صلى الله عليه وسلم:" مَن سلكَ طريقاً يلتمسُ فيه علماً " خالِصاً لله .. " سهَّل اللهُ له به "؛ أي بهذا الطريق من الطلَب .. " طريقاً " آخر .. بل وطرقاً أخرى من طلب العلم والعمل بها .. يسهلها وييسرها له، توصله في النهاية " إلى الجنة " مسلم. 

قال ابن المبارك رحمه الله: ما شيءٌ أفضل من طلبِ العلم لله، وما شيءٌ أبغض إلى الله من طلب العلمِ لغير الله.

* * * * * 

460- مَكْتَبَتِي.

مَكْتَبَتِي .. فيها من كلِّ ضَرْبٍ من ضروبِ العلمِ ومجالاته .. مائة كتابٍ وكتاب .. فيها من كلِّ ثَمَرٍ أطيبه وأجودهُ وأعلاه.

مكتبتي .. فيها يجتمع العلماءُ الأكابرُ من سلفنا الصالح .. أنظر إليهم من خلالِ كتبهم وآثارهم .. أجالسهم ويُجالسونني .. أُحادِثُهم .. وأستمع إليهم .. وأعيشُ معهم ومع أخبارهم .. أقرأ لهم ما طابَ من الفقهِ والفكرِ والحكمة والأثَر .. لا يملونني مهما طال الجلوسُ أو السَّمَر .. ولا يغلقون دوني بابهم .. أجدهم وقتما أطلبُهم .. وأحتاجُهُم .. وأستعدُّ لمجالستِهم .. ومُسامَرَتِهم .. وفي أي ساعةٍ من ليلٍ أو نهار!

مكتبتي .. جُعلَِت لي من دُنيا الناسِ قرةً لعيني .. وروضةً من رياضِ الدنيا .. لا تُماثلها روضة .. ولا أبادلها برياض الأرض كلها .. فيها أجد أُنسي وراحتي .. ومتعتي .. فيها أقضي خَلوتي! 

إن استعصَت عليَّ مسألةٌ .. أفزعُ إلى مكتبتي .. فهي لم تُخيّب لي يوماً ظني ولا أملي.

مكتبتي .. كلُّ كتابٍ فيها له قصةٌ وحكايةٌ معي .. إلى أن أصبَحَ عضواً وجِزءاً مني .. إن خرج من مكتبتي .. كأن بعضي قد خرج مني وفارقني!

خذ من مالي لتشتري الكتابَ الذي تشاء .. لكن لا تأخذ كتاباً من مكتبتي!

مكتبتي .. تَرحَلُ معي حيثما أرحَل .. لا أقوى على فِراقها .. فأنا في شَوقٍ وحَنينٍ إليها وأنا معها .. وفيها .. فكيف إن فارقتَها!

مكتبتي .. كم أنا أحبها وأرعاها .. فهل يا تُرَى سيأتي بعدي من يُحبها ويرعاها .. ويُحسِن التعاملَ معها .. أو يعرِف لها قدرها؟!