واسجد واقترب
واسجد واقترب
بقلم: نبيلة الخطيب
}اقرأ باسمِ ربِّكَ الذي خلَق.. كلا لا تُطِعْهُ واسجُدْ واقْتَرِبْ{
إنها سورة العلق، بهذا الاسم العلمي تسمت.. وتسمية السورة القرآنية توقيفية في الراجح، فهي تحمل دلالة مطلوبة وإشارة مقصودة، هذا النبي الأمي يأتينا بلغة علمية متعلقة بخلق الإنسان، لا يعرفها العربي في ذلك الحين، ولكن العلم عرفها بعد سنين.
وكان هذا الاسم يحمل وصفاً دقيقاً لما هو عليه في الرحم، إذن اقرأ،
ولن تصل إلى هذه الحقائق العلمية إلا بالقراءة، وعندما تكون القراءة باسم ربك ستصل
حتماً إلى ربك الواحد الأحد القدير العزيز، ولن تنتهي من القراءة حتى تسجد لربك
وتقترب خضوعاً وتسليماً وانقياداً وتذللاً واعترافاً..
والسجود هو أعلى درجات التذلل والخضوع، أن تلصق جبهتك –رمز العزة والوجاهة والكبرياء- بالأرض وتعفره بالتراب، ولن تقترب من ربك إلا بالسجود، فالربط بين السجود والقرب من الله محكم وثيق، لا قرب بلا سجود، وكلما زاد السجود زادت درجة الاقتراب، وكلما طلبت القرب أكثر اتخذت السجود وساطة وسبباً ووسيلة.
السجود هو جزء من أعمال الصلاة، ولماذا السجود؟ لأنه ذروة التوتر والانفعال وقمة الاستجابة.
ولما أراد الله تعالى أن يخبر نبيه الحبيب بأنه يراه وأنه معه، اختار له مقام السجود. (الذي يَراكَ حينَ تقومُ، وتقَلُّبَكَ في الساجِدينَ) وعندما أحس نبي الله داوود، عليه السلام، بخطئه (وخرَّ راكعاً وأنابَ) (ص: 24) والمقصود هنا السجود لأن (خرَّ) لا تكون إلا للسجود ونحن عندما نسجد للتلاوة نقول: (اللهم ارفعني بها درجة وحطّ عني بها خطيئة، وتقبلها من عبدك داوود).
وعندما امتدح الله عباده المؤمنين ذكر أخص ما يمتازون به }سيماهُم في وُجوهِهمْ منْ أثرِ السُّجودِ{ (الفتح: 29) }الراكعونَ السَّاجدونَ الآمرونَ بالمعروفِ والنَّاهون عن المنكرِ{ (التوبة: 112)، ولما أراد الله تعالى أن يكرم أبا البشرية آدم عليه السلام ويميزه على غيره من المخلوقات جعل السجود علامة التكريم والتمييز }فقعوا له ساجدينَ{ (الحجر: 29) ولم يجد سحرة فرعون إلا السجود وسيلة للتوبة والإيمان، أبرز، وأسرع، وأظهر:
(وأُلْقِيَ السَّحرةُ ساجدينَ، قالوا آمنّا بربِّ العالمينَ) (الأعراف: 120).
وقد جعل الله تعالى السجود علامة الخضوع والانقياد لكل من في السماوات والأرض:
(ولله يسجُدُ من في السماواتِ والأرضِ طوعاً وكرهاً) (الرعد: 20).
(ألم ترَ أنَّ اللهَ يسجدُ له من في السماوات ومن في الأرضِ) (الحج: 18).
وإن الذي أبعد إبليس وأورده موارد الهلكة الأبدية تمنُّعه عن السجود:
(فسجدَ الملائكةُ كلُّهُمْ أجمعونَ، إلا إبليسَ أبى أنْ يكونَ مع الساجدينَ).
حتى الطير يفهم لغة السجود ومدلولاته، قال تعالى على لسان الهدهد:
(ألا يسجُدوا للهِ الذي يُخرجُ الخَبْءَ في السماواتِ والأرضِ) (النمل: 25).
وقد ورد عن الحبيب r أن العبد أقرب ما يكون إلى ربه وهو ساجد،القرب مذلة، والقرب علوّاً، والقرب ارتفاعاً، والقرب عزة وأنفة، فإذا كان السجود غاية التذلل فإنه نهاية العظمة والسمو والارتفاع.
إن سُجّد الليل إلا قليلاً: هم فرسان النهار، وهم حملة الراية والمشعل واللواء، وهم الذين كسروا شوكة كسرى، وهرقوا ماء وجه هرقل، وهم الذين انطوت الأرض تحت أقدامهم العارية، وهم الذين نصبوا أعلامهم على شواطئ الأطلسي، وأدغال إفريقيا، وهم الذين داسوا تراب الصين.. وهم.. وهم.. إن من ينحني لله ربّ العالمين ساجداً لا ينحني رأسه لغيره ومن يأبى السجود لله، سيجد نفسه ذليلاً ساجداً لما هو دونه سبحانه.
كلما ألصقت جبهتي بالأرض لله شعرت بأني أحلّق في عليين، وكأني أنظر إلى تحت، وأرى أهل الغفلة يلعبون كالأطفال في أشياء الأطفال، أراهم صغاراً.. صغاراً.. وكلما امتد سجودي ارتقيت أكثر إلى الملأ الأعلى، وازددت إشفاقاً على الذين يصغرون، سبحانك يا إلهي.. نكبر بالخضوع لك ونصغر بغير ذلك.
جاء رجل إلى الحبيب يسأله مرافقته في الجنة، فكان الجواب السهل الممتنع:
"أعنّي على نفسك بكثرة السجود"
وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه..
نعم فكثرة السجود هي جواز المرور والعبور والمرافقة والقرب في جنات النعيم، واسجد واقترب.. وقبل أن يصل جبينك إلى الأرض فليسبقه قلبك، وليسبقه إخلاصك وتجردك، عندها تحس بمعنى السجود وعظمته.