عالَم بالمقلوب...!!

عالَم بالمقلوب...!!

د . فواز القاسم

يروى أنّ دريد لحّام (الكوميدي السوري المعروف) كان قد اشترى لبناً لفطوره كعادته صباح كلّ يوم من أحد البقالين المجاورين لمنزله، ولكنه سرعان ما أعاد اللبن إلى البقّال، شاكياً تغيّر طعمه عما ألفه في المرات السابقة.. إلا أن البقال أقسم له بأنه كان قد أعطاه لبناً أصلياً (غير مغشوش) هذه المرة!!

ولكن (غوّار) أصرّ على إرجاع اللبن الأصلي وأخذ اللبن (المغشوش) لأنه قد تعوّد عل طعمه ولا يريد أن يغيّر ما اعتاد وتأقلم عليه..!!

*  *  *

تذّكرت هذه اللطيفة وأنا أقرأ تجربة عالم النفس (جورج ستراثون) الذي يعتبر أول من أجرى ملاحظات منهجية على التكيّف الإدراكي للمخطوء والمعكوس من الأشياء والأفعال والممارسات.. وذلك حين جعل من نفسه موضوعاً للتجربة.. إذ وضع (ستراثون) على عينيه نظارات بعدسات ومرايا تجعل العالم يبدو (مقلوباً)! وكان يضعها لمدة إحدى عشرة ساعة يومياً..

في اليوم الأول.. بدت له الأشياء مقلوبة وغير مستقرة.. وعانى كثيراً لدى محاولته التنقل بين أثاث غرفته.. ولكنه بعد فترة وجيزة ما لبث أن تأقلم مع عالمه (المقلوب) وروّض نفسه عليه..!

حتى أنه –عندما نزع نظارته العجيبة- عانى نفس المعاناة الأولى لكي يتكيّف مع الوضع الأصلي غير المقلوب..!!

*  *  *

ترى.. ما أكثر الأشياء المقلوبة في عالمنا والتي يراد لنا –طوعاً أو كرهاً- أن نؤقلم أنفسنا معها أو نروّض مشاعرنا عليها.. ولطالما شعرنا فعلاً أننا نضع على أعيننا نظارات (ستراثون) وأن العالم من حولنا يمشي بالمقلوب!!؟

فعلى الصعيد العالمي.. تسير الأمور بالمقلوب..! ففي الوقت الذي تتسلط فيه بعض الدول المتغطرسة على رقاب الشعوب، وتمارس بحقها كل أنواع القهر والإذلال خدمة لمصالحها الأنانية، وفي الوقت الذي تشكل فيه مثل هذه الدول بؤر الإرهاب، ومصدر الجريمة ومنبع "الإيدز" الجسمي والفكري في العالم.. فإنها تعتبر نفسها الأكثر تحضراً وديمقراطية ورعاية لحقوق الإنسان..!!

بينما تُتّهم دولٌ يكاد يموت أبناؤها كل يوم في الطرقات –من الجوع والبؤس والتخلف- بالتطرف والإرهاب! وتُدرَج أسماؤها ضمن لائحة الدول التي ترعى وتشجّع الإرهاب!!!

وعلى الصعيد الإقليمي.. تسير الأمور بالمقلوب أيضاً..!! فبينما يُعتبر الكيان الصهيوني -المعتدي على وطننا، والمحتل لأرضنا والمتجاوز على حقوقنا- هو "المظلوم" عند أدعياء "التحضر" وحماة "الشرعية الدولية" و"حقوق الإنسان"!! ويُمنح لأجل ذلك حقَّ امتلاك ما يشاء من القوة العسكرية بما فيها الترسانة النووية، ويُخوّل أن تطالَ ذراعه الغادرة  ما تشاء من منشآتنا الحيوية وفي أعماق أرضنا العربية –يُوصف حملة "الحجارة" الذين لم يجدوا غيرها للدفاع عن أرضهم وكرامتهم ومقدساتهم، بالإرهابيين والمتطرفين!! وتطلق ضدهم التهديدات.. وتعقد من أجلهم المؤتمرات لسحقهم.. واستئصالهم.. وتخليص المنطقة من إرهابهم!!

وعلى صعيد أقطارنا نفسها.. تسير الأمور بالمقلوب!! فكم من بريء أفنوا شبابه في غياهب السجون على أنه مجرم!!؟

وكم من طهور ألهبوا ظهره بسياط الجلادين على أنه خائن!!؟

وكم من حرّ شريف صاحب غيرة ووطنية سلبوا روحه فوق أعواد المشانق..!؟

والمحظوظ.. من أفلت منهم فهام على وجهه في الآفاق شريداً طريداً مهاجراً.. يسقيه الدهر من كؤوس المذلة صباح مساء..!!

بينما يستحوذ الساقطون واللقطاء والمخمورون على مقادير الأمور في الأمة، ويعتبرون هم أصحاب الكلمة المسموعة، والمواقع الشاخصة فيها..!

ربّاه.. أية حياة تلك التي كتبت لنا أن نحياها وسط عالم كل ما فيه مقلوب أو مغلوط أو معكوس.! وما ذنبنا أنْ خلقنا ورؤوسنا "مرفوعةٌ إلى أعلى" "نفكّر بعقولنا" و"نختار بإرادتنا" و"نمشي على أرجلنا" وما حليتنا أننا لا نتقن ممارسة "فن البهلوانية"! فنمشي على رؤوسنا..!! ونأبى أن ننحطّ إلى "درك الحيوانية" فنمشي على أربع..؟!!