الوطن ما بين عَظَمَةِ الجلاء وعِظَمِ البلاء
الوطن ما بين عَظَمَةِ الجلاء وعِظَمِ البلاء
بقلم : الدكتور محمد بسام يوسف
أوّاهُ يا شآم .. لطالما احتفلتِ بذكرى الاستقلال والجلاء .. جلاء المستعمر المحتل عن أرضكِ الطاهرة الأبيّة .. ولطالما تساءلنا مندهشين بعد أكثر من نصف قرنٍ مضى على الاستقلال : هل بقي لنا أثرٌ من الجلاء ؟!..
قبل الجلاء كان الأحرار يعملون بكل حرية، فيتحرّكون، ويجاهدون، ويعبّرون عن آرائهم تجاه المحتل، بلا خوفٍ أو وَجَل .. فلم يكونوا مكبَّلين في جهادهم وسعيهم لتحرير أرضهم وعِرضهم .. باتفاقيات فك الاشتباك وتواقيع الهدنة الأبدية مع العدو المحتل، ولم تحجبهم عن الثورة والتحرير خطوط حمراء، أو قوات فصلٍ دوليةٍ تتجدّد مهماتها كل ستة أشهر!..
قبل الجلاء لم تكن هناك قوانين طوارئ وأحكام عُرفية، وسجون صحراوية، ومعتقلات مغروزة في كل زاويةٍ من زوايا الوطن .. ولم يكن هناك تعذيب حتى الموت، ولا مقابر جماعية، ولا اختفاءٌ للمعتَقَل وانقطاع لأخباره عشرات السنين!..
قبل الجلاء كانت أي معركةٍ بين المجاهدين وجنود الاحتلال، يمكن أن تنتهيَ عند باب أي مسجدٍ يأوي إليه الأحرار .. أما بعد الجلاء فقد أصبح القول الفصل للدبابات، التي تقتحم المساجد من أبوابها لتخرج من مَحاريبها، فإن لم تظفر بمن ترغب من روّادها، تكون الكلمة الفصل لراجمات الصواريخ، التي تحوّل المسجد أو الكنيسة إلى أثرٍ بعد عَيْن!..
قبل الجلاء كان المجاهد يمتطي صهوة جواده وهو أشعث أغبر، لا يهدأ حتى ينالَ من المحتل مع طلوع شمس كل يوم .. وبعد الجلاء أصبح النضال لا يتم، إلا من داخل العربات المصفّحة عالية الجودة، المصنّعة على هيئة أفخر أنواع سيارات المرسيدس السوداء!..
قبل الجلاء كان إذا غضِب على المحتل حُـرٌ في شمال سورية مثلاً .. غضب لغضبته مئات الآلاف أو يزيد من الأحرار، في الساحل والجنوب والشرق والمنطقة الوسطى، لا يعلمون فِيمَ غضب!.. وبعد الجلاء أصبحت غضبة الشريف عاراً عليه، تجد لها جحافل من المتفيهقين والعبيد التاريخيين، يستنكرونها ويحاربونها بيد، ويقبضون ثمن تدليسهم وعبوديتهم باليد الأخرى!..
قبل الجلاء لم يعرف الجهاد حدوداً ولا أسلاكاً شائكةً ولا حامياتٍ حدودية، فكان المجاهد من سورية، يقاتل العدو -وربما يستشهد- على أرض فلسطين أو لبنان أو غيرها من بلاد العرب والمسلمين، من غير أن يكبّل نفسه بنظريات (التوازن الاستراتيجي) وخرافات (الخيار الاستراتيجي) .. ولهذا كانت الرغبة بالتحرير وجهاد المحتل مبادرةً ذاتيةً شعبيةً ناجحة، ولهذا روّت دماء ابن جبلة السورية الشيخ (عز الدين القسّام) .. أرضَ فلسطين، ولهذا كذلك، زرع ابن حمص الشيخ (مصطفى السباعي) ورفاقه من أبناء المحافظات السورية .. زرعوا القدسَ وفلسطينَ بالجهاد والبأس والقتال والرباط!..
قبل الجلاء كانت إذا نزفت فلسطين .. أُصيبت سورية بفقر الدم، وإذا تألّمت القدس أو حيفا أو يافا أو الخليل أو .. تأوّهت دمشق وحمص وحلب وحماة و..!.. أما اليوم، فإذا سالت جداول الدماء في فلسطين أو العراق .. أُصيبت الشام بأعراض (سوبر استهتار العرب)، أو بمتلازمة مهرجانات (المحبة) و(الباسل الذهبي)، وكل أنواع البواسل الفضية والبرونزية!..
قبل الجلاء كانت (الوحدة) واقعاً بين أبناء الوطن على الأرض، وكانت (الحرية) هدفاً سامياً تحققَ بالكفاح والدم والتضحية وتشرّبته العقول والقلوب، ولم تكن هناك (اشتراكية) مخصّصة للنهب والسلب وانتفاخ جيوب المتنفّذين .. لكن بعد الجلاء صارت كل تلك المعاني شعاراً من شعارات الزيف الجوفاء، بلا لونٍ ولا طعمٍ ولا رائحة، تُرَدَّد صباح كل يومٍ في المدارس الحكومية والمؤتمرات البهلوانية!..
قبل الجلاء كانت هناك بعض الانتخابات، وكانت حرةً نزيهة، الكلمة الفصل فيها للكفاءة وصناديق الاقتراع .. وبعد الجلاء أصبحت الانتخابات مهزلةً تاريخية، الكلمة الفصل فيها للأيدي الخفيّة التي تقرّر نتائجها قبل إجرائها!..
قبل الجلاء كانت الجمهورية جمهورية .. وبعد الجلاء أصبحت الجمهوريات عائليةً وراثية!..
قبل الجلاء لم يكن هناك نفطٌ ولا لصوص انفتاحٍ ولا حرامية الخمسة بالمئة .. وبعد الجلاء أصبح النفط رصيداً خاصاً في بنوك سويسرة، وصارت للنهب والسمسرة قوانين وقرارات وأحكام خاصة!..
قبل الجلاء لم تكن هناك نياشين تملأ الصدور، ولا وزراء يمسحون القدور، ولا استغلالٌ رسميٌ ولا بُثور، ولا نضالات تلفزيونية، ولا تحرير من وراء الميكروفونات، ولا بيانات استنكارٍ ولا مؤتمرات قمة .. وبعد الجلاء أصبح كل ما ذُكِرَ أمراً عادياً بل ضرورياً .. وفوقه : التزامٌ صارمٌ، واتفاقُ الذين لا يتّفقون، على مكافحة الشعوب باسم مكافحة الإرهاب!..
نعود فنتساءل : هل بقي لنا أثرٌ من الجلاء، وها قد أُجليَ بعده مئات الألوف عن الوطن قسراً وقهراً وقمعاً واستبداداً ؟!..
أوّاه يا وطن .. لقد كان الجلاءُ بالأمسِ عظيماً .. لكن صار البلاءُ اليوم أعظم بكثير!..
18 من نيسان 2004م