دروس من معركة الأحـــزاب …

دروس من معركة الأحـــزاب

بقلم :د.فواز القاسم

بسم الله الرحمن الرحيم (( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنودٌ ، فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها ، وكان الله بما تعملون بصيرا ، إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم ؛ وإذ زاغت الأبصار ، وبلغت القلوبُ الحناجرَ ، وتظنون بالله الظنونا . هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا . وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا . وإذ قالت طائفة منهم : يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا . ويستأذن فريق منهم النبيَّ ، يقولون : إن بيوتنا عورة ، وما هي بعورة ، إن يريدون إلا فرارا ، ولو دُخِلتْ عليهم من أقطارها ثم سُئلوا الفتنةَ لآتوها ، وما تلبثوا بها إلا يسيرا . ولقد كانوا عاهدوا الله من قبلُ لا يولُّون الأدبار ، وكان عهد الله مسؤولا . قـل : لن ينفعَكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ؛ وإذن لا تُمتَّعون إلا قليلا . قل : من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة ؛ ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً . قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم : هلمَّ إلينا ، ولا يأتون البأس إلا قليلا . أشحةً عليكم ، فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت ، فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد .أشحة على الخير . أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم ، وكان ذلك على الله يسيرا . يحسبون الأحزاب لم يذهبوا ، وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ، ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا . لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ، وذكر الله كثيرا . ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله ، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما . من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ، وما بدلوا تبديلا . ليجزي الله الصادقين بصدقهم ، ويعذب المنافقين – إن شاء – أو يتوب عليهم ، إن الله كان غفورا رحيما . ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قوياً عزيزا . وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم ، وقذف في قلوبهم الرعب ، فريقا تقتلون وتأسرون فريقا . وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطؤوها ، وكان الله على كل شيء قديرا )) صدق الله العظيم .

( سورة الأحزاب آية 9 – 27 )

عن محمد بن إسحاق بإسناده أن نفراً من اليهود هم الذين حزّبوا الأحزاب على رسول الله ( ص ) ، حيث خرجوا حتى قدموا على قريش في مكة ، فدعوهم إلى حرب رسول الله ( ص ) وقالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله . فقالت لهم قريش : يا معشر يهود ، إنكم أهل الكتاب الأول ونريد أن نسألكم فيما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد ، أفديننا خير أم دينه !؟ قالوا : بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه.! فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم (( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ، ويقولون للذين كفروا : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا )). فلما قالوا ذلك لقريش سرَّهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله ( ص ) واتَّعدوا له . ثم خرج أولئك النفر من يهود حتى جاءوا غطفان – من قيس عيلان – فدعوهم إلى حرب رسول الله ( ص ) ، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه ، وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك ، فاجتمعوا معهم فيه . فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب ، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن في بني فزارة ، والحارث بن عوف من بني مرة ، ومسعر بن رخيلة فيمن تابعه من قومه من أشجع . فلما سمع بهم رسول ، استشار أصحابه رضوان الله عليهم فأشاروا عليه بحفر الخندق ، فضرب الخندق على المدينة ؛ فعمل فيه رسول الله (ص) وعمل معه المسلمون  فدأب فيه ودأبوا.. وأبطأ عن رسول الله (ص ) وعن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين ، وجعلوا يورون بالضعيف من العمل ، ويتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله (ص) ولا إذن . وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لا بد منها يذكر ذلك لرسول الله (ص) ويستأذنه في اللحوق بحاجته فيأذن له ، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله رغبة في الخير واحتسابا له . فأنزل الله في أولئك المؤمنين (( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ، وإذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتى يستأذنوه ، إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم ، واستغفر لهم الله ، إن الله غفور رحيم )) .. ثم قال تعالى مخاطباً المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل  ويذهبون بغير إذن من النبي (ص) ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا . قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً ، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ))

 لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق ، أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة ، في عشرة الاف من أحابيشهم ومن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة . وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب نقمى إلى جانب أحد . وخرج رسول الله والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين ؛ فضرب هناك عسكره والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالذراري والنساء فجعلوا في الآطام  ( أي الحصون ).

وفي هذه اللحظات الحرجات ، نقضت بنو قريظة من اليهود عهودهم مع رسول الله ( ص) من داخل المدينة أيضاً ، فعظم عند ذلك البلاء على المسلمين ، واشتد عليهم الخوف ؛ وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منه ، وهنا نجم النفاق واشرأبت أعناق المنافقين ، حتى قال قائلهم : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط … ! وصار الواحد منهم يفتعل أية حجة للهروب من هذا الموقف الصعب ، كما صار البعض منهم يأتي رسول الله (ص) فيقول: يا رسول الله ، إن بيوتنا عورة ، فأذنْ لنا أن نخرج فنرجع إلى دارنا ، فإنها خارج المدينة ، وقد كذبوا فما هي بعورة ، ولكنهم ينتحلون الأعذار للهروب من المعركة .!! واستمرّ الحال على هذا المنوال بضعا وعشرين ليلة ، قريبا من شهر  حيث لم تكن بين المسلمين وبين أعدائهم حرب إلا الرميا بالنبل والحصار . فلما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله ( ص ) إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث ابن عوف – وهما قائدا غطفان – فأعطاهما ثلث ثمار المدينة ، على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه ، فجرى بينه وبينهما الصلح حتى كتبوا الكتابة ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح ، إلا المراوضة في ذلك . فلما أراد رسول الله أن يفعل ، بعث إلى سعد بن معاذ [ سيد الأوس ] وسعد بن عبادة [ سيد الخزرج ] فذكر ذلك لهما ، واستشارهما فيه،  فقالا له : يا رسول الله ، أهو أمرٌ تحبه فنصنعه !؟ أم شيئٌ أمرك الله به لا بد لنا من العمل به ؟ أم شيءٌ تصنعه لنا ؟ قال : بل شيء أصنعه لكم ، والله ما أصنع ذلك إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب ، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما . فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منّا ثمرة إلا قرى أو بيعاً ، أفحين أكرمنا الله بالإسلام ، وهدانا له ، وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا .!؟ والله ما لنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم ، فقال رسول الله ( ص ) : ( فأنت وذاك ) . فتناول سعد بن معاذ الصحيفة ، فمحا ما فيها من الكتاب ، ثم قال : ليجهدوا علينا . وأقام رسول الله وأصحابه فيما وصف الله من الخوف والشدة ، لتظاهر عدوهم عليهم ، وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم . ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر [ من غطفان ] أتى رسول الله ( ص ) فقال : يا رسول الله إني قد أسلمت ، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت . فقال رسول الله : ( إنما أنت فينا رجل واحد فخذّل عنا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة ) . وقد فعل حتى أفقد الأحزاب الثقة فيما بينهم ، وخذّل الله بينهم ، وبعث عليهم الريح في ليلة شاتية باردة ، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم [ يعني خيامهم وما يتخذونه للطبخ من مواقد … الخ ] ، حتى ردّ كيدهم في نحورهم فانقلبوا إلى مكة صاغرين مدحورين ، ونجّا الله بفضله وكرمه عباده المؤمنين

بسم الله الرحمن الرحيم (( وكان حقاً علينا نصر المؤمنين )) صدق الله العظيم

بعد ذلك الاستعراض الموجز لأحداث تلك المنازلة التاريخية الخالدة التي جرت في العام الخامس للهجرة النبوية الشريفة ، بين جمع الإيمان الذي كان يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين الصادقين ، وجمع الشيطان الذي جمع الكفار واليهود والمنافقين ، نود أن نقف على أهم دروسها وعبرها لتكون لنا سلوىً في مواجهتنا اليوم ( للأحزاب الجدد ) من أمريكان وصهاينة وإنكليز ومن مالأهم من الصعاليك والمنافقين ، الذين يحتلون أرضنا ، ويعتدون على أمتنا …

وإن نظرة متفحّصة لنصوص تلك الآيات البيّنات  ، تبين لنا الدروس والعبر التالية :

* طبيعة البشر :

إن من سنن الله الثابتة في خلقه ، أن تضعف النفوس البشرية ، في الظروف الصعبة ، والمنعطفات الخطيرة ، وهذا أمر طبيعي ومسوّغ ، وليس ذلك بعيب أو منقصة فيها ، بل هي سنة الحياة ، وقانون الوجود . فالسفن العملاقة تتأرجح في العواصف والأعاصير، والجبال الراسخة تهتز في الزلازل والبراكين ، وكذلك النفس البشرية ، فهي جزء من ناموس الحق ، وبعض من قانون الخلق ..

ولقد حدث أن ضعفت واهتزّت أشد القلوب ثباتاً ، وأعظم النفوس تربية ، من أصحاب الرسل الكرام ، بمن فيهم أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم . ومن أراد أن يتعرف على جانب من هذه الحقيقة ، فليدرس القرآن الكريم ، وليعرّج على أحداث السيرة المطهرة ، فلقد وصفهم الله ، وهم خير قرون هذه الأمة ، في لحظات ضعفهم البشري ، بأوصاف يقشعرّ منها البدن ، فقال عنهم في ملحمة أُحد :  (( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسّونهم بإذنه ، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم ، من بعد ما أراكم ما تحبون، منكم من يريد الدنيا ، ومنكم من يريد الآخرة …)) آل عمران ( 152 )

وقال عنهم يوم حُنَيْن : (( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ، ويوم حُنَيْن ، إذ أعجبتكم كثرتكم ، فلم تغن عنكم شيئاً ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ، ثم ولّيتم مدبرين ، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وأنزل جنوداً لم تروها ، وعذّب الذين كفروا ، وذلك جزاء الكافرين )) . التوبة ( 26 )

وهاهو يخاطبهم يوم الأحزاب فيقول ( إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم ، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ، وتظنون بالله الظنونا ، هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً )) . الأحزاب ( 10)

ولكن أن تتحول لحظات الضعف العابرة في الأمة ، إلى حالة دائمة من اليأس والقنوط والإحباط . أو تصبح صفة ملازمة للنفس المؤمنة تدفعها إلى الخنوع ، وتقودها إلى الاستسلام ، بحيث يتنصل فيها أصحاب المباديء من مبادئهم ، ويتخلى أصحاب الحقوق المشروعة عن المطالبة بحقوقهم ، فهذا ما تمقته العروبة ، ويرفضه الإسلام ، ويأباه الإيمان ...

وهنا يلمع دور القائــــــــــــد ... فبحضوره ، وشجاعته ، ورسوخه ، وشموخه ، وقدوته ، فإنه يحيل الضعف إلى قوة ، والشرذمة إلى وحدة ، والهزيمة إلى نصر .

فلقد ثبت النبي القائد صلى الله عليه وسلم في محنة أُحد مع قلة قليلة من أصحابه المتميّزين ، الذين غرس معاني الإسلام في قلوبهم ، وأرسى دعائم الإيمان في نفوسهم . وبثباته ، وقدوته ، استطاع أن يجمع شملهم ، ويعيد تنظيم صفوفهم ، ويرفع معنوياتهم ، ثم قادهم هم أنفسهم ، وجراحاتهم تنزف ، فطارد بهم عدوّهم حتى حمراء الأسد ...!

ثم تكرر الموقف يوم الأحزاب ، ويوم حُنين ، وفي جميع المواقع الجهادية الأخرى ، التي خاضها الرسول القائد صلى الله عليه وسلم ، مع أصحابه الكرام رضوان الله عليهم ..

والآن نعود إلى أجواء معركة الأحزاب كما صوّرها القرآن المعجز : (( إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم ؛ وإذ زاغت الأبصار ، وبلغت القلوب الحناجر ، وتظنون بالله الظنونا . هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا )) .

إنها صورة الهول الذي روع المدينة ، والكرب الذي شملها ، والذي لم ينج منه أحد من أهلها . وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان واليهود من بني قريظة من كل جانب . من أعلاها ومن أسفلها . فلم يختلف الشعور بالكرب والهول في قلب عن قلب ؛ وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب ، وظنها بالله ، وسلوكها في الشدة ، وتصوراتها للقيم والأسباب والنتائج . ومن ثم كان الابتلاء كاملا والامتحان دقيقا . والتمييز بين المؤمنين والمنافقين حاسما لا تردد فيه . ويصور حال المسلمين ما رواه المقريزي في إمتاع الأسماع . قال : ثم وافى المشركون سحراً ، وعبأ رسول الله أصحابه فقاتلوا يومهم إلى هوي من الليل  وما يقدر رسول الله ولا أحد من المسلمين أن يزولوا من مواضعهم . وما قدر رسول الله على صلاة ظهرٍ ولا عصرٍ ولا مغربَ ولا عشاءْ ، فجعل أصحابه يقولون : يا رسول الله ما صلينا ! فيقول . ولا أنا والله ما صليت ..! حتى كشف الله المشركين ، ورجع كل من الفريقين إلى منزله. ولقد قال رسول الله ( ص ) يومئذ : ( شغلنا المشركون عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر،  ملأ الله أجوافهم وقلوبهم ناراً ).! وخرجت طليعتان للمسلمين ليلاً فالتقتا – ولا يشعر بعضهم ببعض من الدهشة ، ولا يظنون إلا أنهم العدو – فكانت بينهم جراحة وقتل . ثم نادوا بشعار الإسلام ( حم . لا ينصرون ) فكفَّ بعضهم عن بعض . فقال رسول الله : ( جراحكم في سبيل الله ومن قتل منكم فإنه شهيد ) .

ولقد كان أشد الكرب على المسلمين ، وهم محصورون بالمشركين داخل الخندق ، ذلك الذي كان يجيئهم من انتقاض بني قريظة عليهم من خلفهم . فلم يكونوا يأمنون في أية لحظة من أن ينقضَّ عليهم المشركون من أمامهم ، وأن تميل عليهم يهود من خلفهم  وهم قلة بين هذه الجموع التي جاءت بنية استئصالهم في معركة حاسمة ، ولكن الله سبحانه كان حاضراً يدير المعركة بنفسه ، فردَّ الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وهذا هو ظننا به في كل مرّة يطفح فيها كيل الظلم والعدوان ، (( والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون )) صدق الله العظيم

* دور المنافقين في الأمة

  بسم الله الرحمن الرحيم (( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا وإذ قالت طائفة منهم : يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا . ويستأذن فريق منهم النبي ، يقولون : إن بيوتنا عورة ، وما هي بعورة ، إن يريدون إلا فرارا ، ولو دُخِلتْ عليهم من أقطارها ثم سُئلوا الفتنةَ لآتوها ، وما تلبثوا بها إلا يسيرا . ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولُّون الأدبار ، وكان عهد الله مسؤولا . قـل : لن ينفعَكم الفرارُ إن فررتم من الموت أو القتل ؛ وإذن لا تمتعون إلا قليلا . قل : من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة ؛ ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً . قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم : هلمَّ إلينا ، ولا يأتون البأسَ إلا قليلا . أشحةً عليكم ، فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك ، تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت ، فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد .أشحة على الخير . أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا . يحسبون الأحزاب لم يذهبوا ، وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ، ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا )) صدق الله العظيم .

هذا النص يتحدث عن دور المنافقين في هذه الأزمة ، ويجب أن نلفت النظر ابتداءً ، بأن طول النص ، وكثرة الآيات التي تتحدث عن المنافقين تدلل على مدى خطورة الدور الذي كانوا يلعبونه في الصف المسلم ، لأنهم في الظاهر محسوبين على المسلمين ، لكنهم في الحقيقة والواقع يعملون كل ما يستطيعون لإشاعة روح التخاذل والضعف في الصف المسلم

ولنتابع دورهم المشبوه في هذه اللقطات الحية : (( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض : ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا )) .. فقد وجد هؤلاء في الكرب المزلزل والشدة الآخذة بالخناق ، فرصة للكشف عن خبيئة نفوسهم الحاقدة المريضة ، ومثل هؤلاء المنافقين والمرجفين قائمون في كل جماعة وكلّ أمة ؛ وموقفهم في الشدة موقف ثابت . فهم نموذج مكرر في الأجيال والجماعات على مدار الزمان. (( وإذ قالت طائفة منهم : يا أهل يثرب لا مُقامَ لكم فارجعوا )) ، فهم يحرِّضون أهل المدينة على ترك أماكنهم في صفوف الجهاد والعودة إلى بيوتهم ، بحجة أن بيوتهم معرضة للخطر من ورائهم .. وهي دعوة خبيثة تأتي النفوس من الثغرة الضعيفة فيها ، ثغرة الخوف على البيوت والنساء والذراري ، وكأن المؤمنين المجاهدين ليس لهم بيوت ولا نساء ولا أولاد ...!!!

(( ويستأذن فريق منهم النبيَّ ، يقولون : إن بيوتنا عورة )) ، يستأذنون بحجة أن بيوتهم مكشوفة للعدو ، متروكة بلا حماية ، وهنا يكشف القرآن عن الحقيقة ، ويجردهم من العذر والحجة : (( وما هي بعورة )) ، ويضبطهم متلبسين بالكذب والاحتيال والجبن والفرار : (( إن يريدون إلا فرارا )) .. هذه هي الحقيقة ، إنهم جبناء أنذال ، ويريدون الفرار من المواجهة ، ولكنهم ينتحلون الأعذار الكاذبة …(( ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار . وكان عهد الله مسؤولا )) .. عندما تكون الأمة في الرخاء يقسمون الأيمان المغلّظة، ويفتعلون آلاف ( الهوسات ) ليظهروا فيها ثباتهم وولاءهم للقيادة والوطن والمباديء ، وعند أول امتحان للأمة تراهم يتساقطون كأحجار الشرنج ، ويفرّون مذعورين لا يلوون على شيء ..(( قل : لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل ؛ وإذن لا تمتعون إلا قليلا ))  .

(( قل : من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو أراد بكم رحمة ؛ ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا ))

إن قدر الله هو المسيطر على الأحداث والمصائر ، يدفعها في الطريق المرسوم ، وينتهي بها إلى النهاية المحتومة . والموت أو القتل قدر لا مفر من لقائه في موعده ، لا يستقدم لحظة ولا يستأخر . ولن ينفع الفرار في دفع القدر المحتوم عن فار . فإذا فروا فإنهم ملاقون حتفهم المكتوب ، في موعده القريب . وكل وعد في الدنيا قريب ، وكل متاع فيها قليل . ولا عاصم من الله ولا من يحول دون نفاذ مشيئته سواء أراد بهم سوءا أم أراد بهم رحمة ، ولا مولى لهم ولا نصير من دون الله ، يحميهم ويمنعهم من قدر الله  .. فلقد كان الأولى بهم أن يستسلموا لقدر الله ، وأن يطيعوا أوامر الله ، وأن يفوا بعهودهم مع الله ، إن كانوا فعلاً صادقين بدعواهم أنهم مؤمنون …

ثم يتابع السياق القرآني برسم الصور المنفّرة لأولئك المنافقين ، ويتابع تسليط الضوء على أفعالهم المرذولة ، وصفاتهم الخسيسة  مقرراً حقيقة علم الله بهم ، واطلاعه على خفايا نفوسهم ، وخبايا نواياهم ، ويرسم لهم صورة نفسية مبدعة ، وهي - على صدقها - تثير الضحك والسخرية من هذا النموذج المكرور في الناس . صورة للجبن والانزواء ، والفزع والهلع في ساعة الشدة ، والانتفاش وسلاطة اللسان عند الرخاء ، والشح على الخير والضن ببذل أي جهد فيه . والجزع والاضطراب عند توهم الخطر من بعيد .. والتعبير القرآني يرسم هذه الصورة في لمسات فنية مبدعة لا سبيل إلى استبدالها أو ترجمتها في غير سياقها المعجز (( قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم : هلم إلينا ، ولا يأتون البأس إلا قليلا . أشحة عليكم . فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت . فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد .. أشحة على الخير . أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا . يحسبون الأحزاب لم يذهبوا . وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم . ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا )) …

يالله … يا للروعة … إنها صور واقعية ، بريشة مبدعة ، لشخوص حية ، نكاد نراها ماثلة أمامنا بشحمها ولحمها … شخصيات تافهة ، جبانة ، رعديدة ، خوارة ، منهزمة … في مواطن الادعاء والقول : لا تكاد تجد أطول من ألسنتهم.!

وفي ساعات الشدائد والفعل : لا تكاد تجد أثر لأفعالهم …!!! وهاهو القرآن يعرّيهم ويفضحهم ويكشف الغطاء عن سوءاتهم ، ويكاد يقول : إنهم يثقبون آذانكم عندما يتحدّثون عن الشيطان الأكبر ، وعن فلسطين وعن الجهاد ، فإذا ما حضر الجهاد فعلاً رأيتهم يفرّون مذعورين كالأرانب (( ولا يأتون البأس إلا قليلا )).

وتتابع الريشة المعجزة رسم سمات هذا النموذج العجيب من البشر ( أشحة عليكم )) ففي نفوسهم كزازة على المسلمين، كزازة بالجهد وكزازة بالمال ، وكزازة في العواطف والمشاعر على السواء . (( فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت )) وهي صورة شاخصة ، واضحة الملامح ، متحركة الجوارح ، وهي في الوقت ذاته مضحكة ، تثير السخرية من هذا الصنف الجبان ، الذين تنطق أوصاله وجوارحه في لحظة الخوف بالجبن المرتعش الخوار ! وأشد إثارة للسخرية صورتهم بعد أن يذهب الخوف ويجيء الأمن : (( فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد )) ، فخرجوا من الجحور ، وارتفعت أصواتهم بعد الارتعاش ، وانتفخت أوداجهم بالعظمة ، ونفشوا بعد الانزواء ، وادعوا في غير حياء ما شاء لهم الادعاء، من البلاء في القتال ، والفضل في الأعمال ، والشجاعة والاستبسال ..إلخ ، ثم هم : (( أشحة على الخير )) فلا يبذلون للخير شيئاً من طاقتهم وجهدهم وأموالهم وأنفسهم ؛ مع كل ذلك الادعاد العريض وكل ذلك التبجح وطول اللسان ! وهذا النموذج من الناس لا ينقطع في جيل ولا في قبيل . فهو موجود دائما . وهو شجاع فصيح بارز حيثما كان هناك أمن ورخاء . وهو جبان صامت خوّار حيثما كانت هناك شدة وخوف . وهو شحيح بخيل على الخير وأهل الخير ، لا ينالهم منهم إلا سلاطة اللسان ! (( أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم ، وكان ذلك على الله يسيرا(( .

* دور المؤمنين وقيادتهم في الظروف الصعبة :

ذلك – الذي وقفنا عليه في المقالة السابقة - كان حال الذين في قلوبهم مرض والمرجفين في الصفوف من المنافقين التافهين ، وتلك كانت صورتهم الرديئة . ولكن الهول والكرب والشدة والضيق لم تحول الناس جميعاً إلى هذه الصورة الرديئة .. بل كانت هنالك صورة وضيئة في وسط الظلام ، مطمئنة في وسط الزلزال ، واثقة بالله ، راضية بقضاء الله ، مستيقنة من نصر الله ، بعد كل ما كان من خوف وبلبلة واضطراب ، إنها صورة المؤمنين الصادقين بقيادة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا )) وقد كان رسول الله ( ص ) علي الرغم من الهول المرعب والضيق المجهد ، مثابة الأمان للمسلمين ، ومصدر الثقة والرجاء والاطمئنان . وإن دراسة موقفه الراسخ في هذا الحادث الضخم يرسم لقادة الأمة طريقهم الصحيح في الملمات ؛ وفيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ؛ وتطلب نفسه القدوة الطيبة ؛ ويذكر الله ولا ينساه .

ويحسن أن نلم بلمحات من هذا الموقف على سبيل المثال ، إذ كنا لا نملك هنا أن نتناوله بالتفصيل .

خرج رسول الله يعمل في الخندق مع المسلمين يضرب بالفأس ، يجرف التراب بالمسحاة ، ويحمل التراب في المكتل . ويرفع صوته مع المرتجزين ، وهم يرفعون أصواتهم بالرجز في أثناء العمل ، فيشاركهم الترجيع ! ولنا أن نتصور هذا الجو الذي يعمل فيه المسلمون ، والرسول بينهم ، يضرب بالفأس ، ويجرف بالمسحاة ، ويحمل في المكتل ، ويرجع معهم هذا الغناء . ولنا أن نتصور أية طاقة يطلقها هذا الجو في أرواحهم ؛ وأي ينبوع يتفجر في كيانهم بالرضى والحماسة والثقة والاعتزاز .

قال ابن إسحاق : وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال : ضربت في ناحية من الخندق ، فغلظت عليّ صخرة ، ورسول الله قريب مني . فلما رآني أضرب ، ورأى شدة المكان علي ، نزل فأخذ المعول من يدي ، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة . قال : ثم ضرب به ضربة أخرى ، فلمعت تحته برقة أخرى . قال : ثم ضرب به الثالثة ، فلمعت تحته برقة أخرى قال : قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! ما هذا الذي رأيت ، لمع المعول وأنت تضرب ؟ قال : أو قد رأيت ذلك يا سلمان ؟ قال : قلت . نعم : قال : أما الأولى فإن الله فتح علي بها اليمن . وأما الثانية فإن الله فتح علي بها الشام والمغرب . وأما الثالثة فإن الله فتح علي بها المشرق .. ولنا أن نتصور مدى الأمل الذي يمكن أن يفيض به مثل هذا الكلام المتفائل من القائد الحبيب على نفوس أصحابه المتعبة وأرواحهم المكدودة ...!!!

ثم تأتي صورة الإيمان الواثق المطمئن ؛ وصورة المؤمنين المشرقة الوضيئة ، في مواجهة الهول ، وفي لقاء الخطر .

الخطر الذي يزلزل القلوب المؤمنة ولكنه لا يخلعها ، بل تتخذ من هذا الزلزال مادة للطمأنينة والثقة والاستبشار واليقين :

(( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله . وصدق الله ورسوله . وما زادهم إلا إيمانا وتسليما )) .

لقد كان الهول الذي واجهه المسلمون في هذا الحادث من الضخامة ؛ و كان الكرب الذي واجهوه من الشدة ؛ وكان الفزع الذي لقوه من العنف ، بحيث زلزلهم زلزالا شديدا ، كما قال عنهم أصدق القائلين : (( هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ))  لقد كانوا ناسا من البشر ، وللبشر طاقة ، لا يكلفهم الله ما فوقها . وعلى الرغم من ثقتهم بنصر الله في النهاية ؛ وبشارة الرسول لهم ، تلك البشارة التي تتجاوز الموقف كله إلى فتوح اليمن والشام والمغرب والمشرق .. على الرغم من هذا كله ، فإن الهول الذي كان حاضرا أمامهم ، كان يزلزلهم ويزعجهم ويكرب أنفاسهم .

ولكن كان إلى جانب الزلزلة ، وزوغان الأبصار ، وكرب الأنفاس .. كان إلى جانب هذا كله الصلة التي لا تنقطع بالله ؛ والإدراك الذي لا يضل عن سنن الله ؛ والثقة التي لا تتزعزع بثبات هذه السنن ؛ وتحقق أواخرها متى تحققت أوائلها . ومن ثم اتخذ المؤمنون من شعورهم بالزلزلة سببا في انتظار النصر . ذلك أنهم صدقوا قول الله سبحانه من قبل : (( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه : متى نصر الله ؟ ألا إن نصر الله قريب )) .. وها هم أولاء يزلزلون ، فنصر الله إذن منهم قريب …!!!!

ومن ثم قالوا : (( هذا ما وعدنا الله ورسوله . وصدق الله ورسوله )) ..(( وما زادهم إلا إيمانا وتسليما )).

((هذا ما وعدنا الله ورسوله )) .. هذا الهول ، وهذا الكرب ، وهذه الزلزلة ، وهذا الضيق ، وعدنا الله عليه النصر .. فلا بد أن يجيء النصر ، وصدق الله ورسوله ، ومن ثم اطمأنت قلوبهم لوعد الله ونصره : (( وما زادهم إلا إيمانا وتسليما )) ..

نؤكد هنا ما قلناه سابقاً بأن المؤمنين يمكن أن يخافوا ، ويمكن أن يتألموا ، بل يمكن أن يتزلزلوا أيضاً ، وهذا جزء من بشريّتهم ، فهم ليسوا معصومين عن ذلك كلّه ، وليسوا ملائكة ، ولكن يبقى الفرق بينهم وبين المنافقين الخائرين أنهم - مع هذا كله – يبقون مرتبطين بالعروة الوثقى التي تشدهم إلى الله ؛ و تمنعهم من السقوط ؛ وتجدد فيهم الأمل ، وتحرسهم من القنوط ..

ويتابع السياق القرآني معدداً صفات المؤمنين الصادقين : (( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ، وما بدلوا تبديلا)) .. فيظهر نموذج الإيمان الصادق في مقابل ذلك النموذج المنافق الكريه نموذج الذين عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار ، ثم لم يوفوا بعهد الله ، ويعقب عليها ببيان حكمة الابتلاء ، وعاقبة النقض والوفاء ؛ وتفويض الأمر في هذا كله لمشيئة الله : (( ليجزي الله الصادقين بصدقهم ، ويعذب المنافقين - إن شاء - أو يتوب عليهم . إن الله كان غفورا رحيما )).

ويختم الحديث عن هذا الحدث الضخم ( ملحمة الأحزاب ) بعاقبته التي تصدق ظن المؤمنين بربهم ؛ وضلال المنافقين والمرجفين وخطأ تصوراتهم ؛ وتثبت القيم الإيمانية بالنهاية الواقعية : (( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قويا عزيزا )) .. لقد بدأت المعركة ، وسارت في طريقها ، وانتهت إلى نهايتها ، وزمامها كلّه في يد الله ، يصرفها كيف يشاء . ولقد أثبت النص القرآني هذه الحقيقة بطريقة تعبيره الفريدة ، فأسند إلى الله تعالى إسنادا مباشراً كل ما تم من الأحداث والعواقب ، تقريرا لهذه الحقيقة ، وتثبيتا لها في القلوب ، وإيضاحا للتصور الإسلامي الصحيح فيها ، ويكاد النص القرآني يقول للمؤمنين : ما ظنّكم أيها المؤمنون بمعركة الله قائدها ومدبّرها ووليُّ المؤمنين فيها …!!!؟

* دور اليهود في عداء الأمة :

أخيراً وليس آخراً .. يأتي السياق القرآني للحديث عن دور اليهود الخبيث في عدائهم لهذه الأمة ، وتأليب الأحزاب عليها والتعاون مع كل كافر وغادر للقضاء عليها … بسم الله الرحمن الرحيم (( وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم  وقذف في قلوبهم الرعب ، فريقا تقتلون وتأسرون فريقا . وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم ، وأرضا لم تطؤوها . وكان الله على كل شيء قديرا )).

ولكي نأخذ فكرة حقيقية عن هذا الدور الخبيث ، لا بد من إلقاء نظرة عامة على وضع اليهود في الجزيرة العربية إبان وقوع معركة الأحزاب : لقد كان في المدينة المنورة ثلاث طوائف من اليهود إبان هجرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إليها ، بنو النضير وبنو قينقاع وبنو قريظة ، ولقد عقد معهم الرسول الكريم ( ص ) مهادنة أوجب لهم فيها النصرة والحماية مشترطا عليهم ألا يغدروا ولا يفجروا ولا يتجسسوا ولا يعينوا عدواً على المسلمين ، ولا يمدوا يداً بأذى إليهم . ولكن اليهود ما لبثوا أن أحسوا بخطر الدين الجديد على مكانتهم التقليدية بوصفهم أهل الكتاب الأول ، وقد كانوا يتمتعون بمكانة عظيمة بين أهل يثرب بسبب هذه الصفة . كذلك أحسوا بخطر التنظيم الجديد الذي جاء به الإسلام لمجتمع المدينة بقيادة رسول الله ( ص ) ، فقد كانوا قبل ذلك يستغلون الخلاف القائم بين الأوس والخزرج لتكون لهم الكلمة العليا في المدينة . فلما وحّد الإسلام الأوس والخزرج تحت قيادة نبيهم الكريم ( ص ) لم يجد اليهود الماء العكر الذي كانوا يصطادون فيه بين الفريقين ..! من هنا فقد بدأ حقدهم على الدين الجديد ، وبدأ كيدهم ضد رسوله وأتباعه

ولقد بدأت حربهم في أول الأمر حرباً باردة ، بتعبير أيامنا هذه ، حيث بدأت حرب دعاية ضد محمد - ص - وضد الإسلام ، واتخذوا فيها أساليب شتى مما عرف به اليهود في تاريخهم كله . اتخذوا خطة التشكيك في رسالة محمد ( ص ) وإلقاء الشبهات حول العقيدة الجديدة . واتخذوا طريقة الدس بين بعض المسلمين وبعض ، بين الأوس والخزرج مرة ، وبين الأنصار والمهاجرين مرة . واتخذوا طريقة التجسس على المسلمين لحساب أعدائهم من المشركين . واتخذوا طريقة اتخاذ بطانة من المنافقين الذين يظهرون الإسلام ، يوقعون بواسطتهم الفتنة في صفوف المسلمين ..

و أخيراً … أسفروا عن وجوهم الكالحة واتخذوا طريق التأليب على المسلمين ، كالذي حدث في غزوة الأحزاب … والذي يهمنا من طوائف اليهود في هذا السياق هم بنو قريظة ، الذين كانوا يسكنون مع المسلمين في المدينة المنورة ، وقد مر من شأنهم في غزوة الأحزاب أنهم كانوا إلباً على المسلمين مع المشركين ، ثم كان نقضهم لعهدهم مع رسول الله في هذا الظرف أشق على المسلمين من هجوم الأحزاب من خارج المدينة . ومما يصور جسامة الخطر الذي كان يتهدد المسلمين ، والفزع الذي أحدثه نقض قريظة للعهد الذي بينهم وبين المسلمين ، ما روي من أن رسول الله حين انتهى إليه الخبر ، بعث سعد بن معاذ سيد الأوس ، وسعد بن عبادة سيد الخزرج ، ومعهما عبد الله بن رواحة ، وخوات بن جبير - رضي الله عنهم - فقال ؛ انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ؟ فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ولا تفتّوا في أعضاد الناس . وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس ، فخرجوا حتى أتوهم ، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم ، فقد نقضوا عهدهم مع رسول الله ( ص ) ، ونالوا منه في بعض القول …!!! ثم رجع الوفد فأبلغوا رسول الله بالتلميح لا بالتصريح . فقال رسول الله : الله أكبر . أبشروا يا معشر المسلمين ..وذلك تثبيتا للمسلمين من وقع الخبر السيئ أن يشيع في الصفوف ..

يقول ابن إسحاق : وعظم عند ذلك البلاء ؛ واشتد الخوف ، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم . حتى ظن المؤمنون كل ظن ، ونجم النفاق ، واشرأبّت أعناق المنافقين .. الخ . فهكذا كان الأمر إبان معركة الأحزاب .

فلما أيد الله تعالى نبيه بنصره ، ورد أعداءه بغيظهم لم ينالوا خيرا ؛ وكفى الله المؤمنين القتال .. رجع النبي إلى المدينة منصوراً ، ووضع الناسُ السلاح ، فبينما رسول الله يغتسل من وعثاء المرابطة ، إذ تبدى له جبريل – عليه السلام – فقال : أوضعتَ السلاح يا رسول الله !؟ قال : نعم . قال : ولكن الملائكة لم تضع أسلحتها بعد ، وهذا أوان رجوعي من طلب القوم ( يعني المشركين ) . ثم قال : إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة ، فسار إليهم رسول الله ( ص ) مع أصحابه حتى استأصلوا شأفتهم

ومنذ ذلك اليوم ذلت يهود ، وضعفت حركة النفاق في المدينة ؛ وطأطأ المنافقون رؤوسهم ، وجبنوا عن كثير مما كانوا يأتونه من الأعمال . وتبع هذا وذلك ، أن المشركين لم يعودوا يفكرون في غزو المسلمين ، بل أصبح المسلمون هم الذين يغزونهم ، حتى كان فتح مكة والطائف ...

ويمكن أن يقال : إنه كان هناك تلازم بين حركات اليهود وحركات المنافقين وحركات المشركين . وإن طرد اليهود من المدينة قد أنهى هذا التلازم ، وإنه كان فارقاً واضحاً بين عهدين في نشأة الدولة الإسلامية واستقرارها .

فهذا مصداق قول الله سبحانه : (( وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم ، وقذف في قلوبهم الرعب ، فريقا تقتلون وتأسرون فريقا . وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها . وكان الله على كل شيء قديرا )).

والصياصي : هي الحصون . و الأرض التي ورثها المسلمون ولم يطؤوها ، هي أرض بني قريظة ، وقد آلت للمسلمين فيما آل إليهم من أموالهم . (( وكان الله على كل شيء قديرا )) .. فهو قادر على أن يقهر الأحزاب في كل زمان ومكان ، وقادر على أن يفقأ عيون اليهود الغادرين الماكرين ، وقادر على أن يذل المنافقين التافهين ، وقادر أيضاً على أن ينصر عباده المؤمنين الصادقين (( وكان حقاً علينا نصر المؤمنين )) صدق الله العظيم

وهكذا يتم استعراض ذلك الحادث الضخم في حياة الأمة ( يوم الأحزاب ) ، وقد اشتمل على ذلك الكم الهائل من القيم والتوجيهات والقواعد والدروس والعبر التي جاء القرآن ليزرعها في ضمير الأمة المسلمة وفي حياتها على السواء ، لتكون لها نبراساً في حاضرها ومستقبلها ، ولتكون لها معيناً تنهل منه ما تشاء من القيم العالية والمعاني الرفيعة ، كلما حزبها أمرٌ أو تعرّضت لشدة

واليوم … وأمتنا العزيزة تتعرض لما تتعرض له من أحزاب هذا الزمن الصعب ، تتزعمهم إدارة الشر الأمريكية الفاجرة ، ويؤلّبهم أساطين الصهيونية الغادرة – أحفاد بني قريظة وقينقاع والنضير – فيجيّشون الجيوش ، ويحشدون الأساطيل ، ويحتلون الأوطان ، ويعيثون في هذه الأمة إفساداً وتخريباً  ، لا لسبب اقترفته … ولكن إرضاءً لنزعات الحقد والشر والسادية التي تربوا عليها ، وغزّتها عبر الزمن تقيؤات تلمودهم الحاقد وتوراتهم المزوّر

ولينظر كل امريء في هذه الأمة من يكون ، وأين يكون .!؟

أفيكون مع المؤمنين الصادقين الثابتين ، الذين لهم في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه الكرام ( رضوان الله عليهم ) الأسوة الحسنة ... والذين لا ترهبهم الحشود والأساطيل ، ولا تهزهم التهديدات والاعتداءات ، ولا ترعبهم الجعجعات والقعقعات ، بل يزدادون صلابة وصموداً كلما عظم التحدي ، ويستمسكون بعقيدتهم وقيمهم كلما اشتدت المنازلة.

(( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ، وذكر الله كثيرا )).

((  ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله . وصدق الله ورسوله . وما زادهم إلا إيمانا وتسليما )).

أم يكون بين صفوف الجبناء والمتخاذلين والمنبطحين من المنافقين والتافهين والمهزومين ، الذين ليس لهم دأب إلا نشر مقالة السوء في الأمة ، وليس لهم هم إلا إشاعة التخذيل والتثبيط في صفوفها ، تحت مسوّغات رخيصة وقميئة ، مثل ( الواقعيّة ) و ( العقلانية ) و( الموضوعية  ) ...!

وكأن الواقعية والعقلانية والموضوعية ليس لها غير طريق الذل والاستخذاء والانهزام ...

((  أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم ، وكان ذلك على الله يسيرا )) ..

وإننا على ثقة مطلقة لا يخالجها شك ، بأن النصر والظفر للمؤمنين الثابتين ، وأن الذل والخسران للكافرين الظالمين ، ويبقى الخزي والعار للمنافقين والخائنين .... والله أكبر .. والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين  ….