دروس من الابتلاء والفتنة ..!!!
دروس من الابتلاء والفتنة ..!!!
بقلم :د.فواز القاسم
قال تعالى في كتابه الكريم : بسم الله الرحمن الرحيم (( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا ، وهم لا يُفتنون ، ولقد فتنّا الذين من قبلهم ، فليعلمنَّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين ، أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ، سـاء ما يحكمون ، من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآتٍ وهو السميع العليم ، ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ، إنّ الله لغنيٌّ عن العالمين )) العنكبوت (1-6 ) صدق الله العظيم ..
هذه الآيات الكريمات ، تنزّلت على قلب رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) قبل أكثر من أربعة عشر قرناً ، لتواسي المسلمين وهم يتعرّضون لأبشع أنواع الابتلاء والفتنة على أيدي مشركي مكة ومن حالفهم من العرب ..
ولعل من أروع دلالات عظمة هذا القرآن وإعجازه ، أن تنظر إلى نصوصه وآياته فتجدها حيّة كأنما تنزلت الليلة لتخاطب الصابرين المحتسبين من أبناء أمتنا اليوم ، سواء في العراق الشقيق ، أو فلسطين الحبيبة ، أو أفغانستان المظلومة ، أو غيرها من الأقطار العربية والإسلامية ، فتقول لهم : إن الإيمان ليس كلمة تقال باللسان ، إنما هو حقيقة ذات تكاليف ؛ وأمانة ذات أعباء ؛ وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال. فلا يكفي أن يقول الناس : آمنا ، ولن يتركوا لهذه الدعوى ، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم ، خالصة قلوبهم ، كما تفتن النارُ الذهبَ لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به ..!
إن الإيمان أمانة الله في الأرض ، لا يحملها إلا من كانوا أهلاً لها ، وفيهم على حملها قدرة ، وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص ، وإلا الذين يؤثرونها على الراحة والدعة ، وعلى الأمن والسلامة ، وعلى المتاع والإغراء ، وإنها لأمانة الخلافة في الأرض ، وقيادة الناس إلى طريق الله ، وتحقيق كلمته في عالم الحياة . فهي أمانة كريمة ؛ وهي أمانة ثقيلة ؛ وهي من أمر الله يضطلع بها الناس ؛ ومن ثم تحتاج إلى طراز خاص من المؤمنين ، يكونون قادرين على تحمل الفتنة ، والصبر على الابتلاء .
ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله ؛ ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويدفع عنه ، ولا يملك النصرة لنفسه ولا المنعة ؛ ولا يجد القوة الكافية التي يواجه بها الطغيان ، وهذه هي الصورة المعهودة للفتنة ، ولكنها ليست أعنف صور الفتنة .. فهناك فتن كثيرة في صور شتى ، ربما كانت أمر وأدهى ، منها فتنة الأهل والأحباب والرفاق الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه ، وهو لا يملك عنهم دفعا ، وقد يهتفون به ليسالم أو ليستسلم ؛ وينادونه باسم الحب والقرابة ، واتقاء الله في الرحم التي يعرضها للأذى أو الهلاك ، أو باسم الواقعيّة والعقلانية والموضوعية ، التي لا تعني عندهم غير الانهزام والاستسلام …!!!
وهناك فتنة إقبال الدنيا على الظالمين المعتدين ، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين ، تهتف لهم الدنيا ، وتصفق لهم الجماهير ، وتتحطم في طريقهم العوائق ، وتصاغ لهم الأمجاد ، وتصفو لهم الحياة ، وهو مهمل منكر لا يحس به أحد ، ولا يحامي عنه أحد ، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله ، الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئا …. وهنالك فتنة الغربة بالمبدأ ، والاستيحاش بالعقيدة ، حين ينظر المؤمن فيرى كل ما حوله وكل من حوله غارقا في تيار الضلالة ؛ وهو وحده موحش غريب طريد .
وهناك فتنة من نوع آخر قد نراها بارزة في هذه الأيام ، وهي : أن يجد المؤمن أمماً ودولاً غارقةً في الرذيلة ، ضالعةً في الشرّ ، ومع ذلك فقد فتحت عليها أبواب الدنيا على مصاريعها ، وهذا في منظور الله هو الاستدراج الذي يغفل عنه كثير من الناس …!
ثم ، هنالك الفتنة الكبرى ، أكبر من هذا كله وأعنف ، إنها فتنة النفس والشهوة وجاذبية الأرض وثقلة اللحم والدم والرغبة في المتاع والسلطان أو في الدعة والاطمئنان وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان والاستواء على مرتقاه مع المعوقات والمثبطات في أعماق النفس وفي ملابسات الحياة وفي منطق البيئة وفي تصورات أهل الزمان ، فإذا طال الأمد ، وأبطأ نصر الله ، كانت الفتنة أشد وأقسى ، وكان الابتلاء أشد وأعنف ، ولا يثبت عند ذلك إلا من عصم الله ، وهؤلاء هم الذين يحققون في أنفسهم حقيقة الإيمان ، ويؤتمنون على تلك الأمانة الكبرى ، أمانة السماء في الأرض ، وأمانة الله في ضمير الإنسان …
فأما انتصار الإيمان والحق في النهاية فأمر تكفل به وعد الله ، وما يشك مؤمن في وعد الله ، فإن أبطأ فلحكمة مقدرة ، فيها الخير للإيمان وأهله ، وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله ، وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة ، ويقع عليهم البلاء ، أن يكونوا هم المختارين من الله ، ليكونوا أمناء على حق الله .
وأما الذين يفتنون المؤمنين ، ويعملون السيئات ، فما هم بمفلتين من عذاب الله ، ولا ناجين مهما انتفخ باطلهم ، وانتفش طغيانهم ، وبدا عليه الانتصار والفلاح : (( أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ؟ ساء ما يحكمون ..! )) فلا يحسبن ظالمٌ أنه مفلت من قبضة الله ، ومن يحسب هذا فقد ساء حكمه ، وفسد تقديره ، واختل تصوره . فإن الله الذي جعل الابتلاء سنّةً ليمتحن إيمان المؤمنين ، ويميز بين الصادقين والكاذبين ؛ هو الذي جعل أخذ الظالمين سنّةً كذلك ، لا تتبدل ولا تتخلف ( إنّ الله يملي للظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته ) . فليطمئن أهل الإيمان ، الذين يتعرّضون إلى الفتنة والابتلاء بسبب إيمانهم ومبادئهم ، والذين ينتظرون فرج الله ، ويرجون لقاءه ، ليطمئنوا إلى النتيجة الحتمية في ميزان الله ، وهي نصر المؤمنين الصادقين ، وأخذ الظالمين المستكبرين ، بشرط أن يؤدوا هم ما عليهم من واجب الجهاد والاستشهاد ثم يتركوا النتيجة النهائية إلى الله …بسم الله الرحمن الرحيم (( من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت ، وهو السميع العليم ، ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه ، إنّ الله لغني عن العالمين )) ..
ومن أوفى بعهده من الله .!؟ (( وكان حقّاً علينا نصر المؤمنين )) صدق الله العظيم …