أيها المسلمون .. أعيدوا ترتيب أولويّاتكم .!!!
أيها المسلمون .. أعيدوا ترتيب أولويّاتكم .!!!
بقلم :د.فواز القاسم
تحكم المسلم في حياته اليومية علاقتان : علاقته مع ربّه ، وعلاقته مع مجتمعه …
أما علاقة المسلم مع ربّه : فهي قائمة على المغفرة والتساهل والتسامح ، لأن الله قد وصف نفسه بأنه الغفور الرحيم ، بل هو أرحم الراحمين .. ولذلك فلو أخذنا أركان الإسلام ، وألقينا عليها نظرة متفحّصة ، لوجدناها كلّها قائمة على اليسر والتسامح ، فالصلاة التي هي عمود الدين ، فرضها الله خمسين صلاة في اليوم والليلة، ثم أنقصها إلى خمس صلوات رحمة بعباده وتخفيفاً عنهم وحتى هذه الصلوات الخمس ، يمكن جمعها وقصرها في السفر والمرض ، ولقد رخّص الله للمسلم في أوقات الضرورة أن يصلي وهو جالس أو وهو نائم أو أن يرمش بعينيه فقط ، وهكذا .!
وكذلك الصوم ، فهو شهر في السنة ( رمضان ) ولكن للصحيح المقيم ، فمن مرض أو سافر فله أن يفطر
(( يريد الله بكم اليسر ، ولا يريد بكم العسر )) … وأما الزكاة فلا تجب إلا على الأغنياء ، وكذلك الحج فعلى المستطيعين ، فمن لم يستطع فلا إثم عليه ، ولا يكلّف الله نفساً إلا وسعها …
ولنأخذ هذه الواقعة التي حدثت مع رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) لندلل على مدى سماحة الإسلام وتساهله في الأمور الخاصة بحقوق الله تبارك وتعالى ، فقد روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : وَمَا ذَاكَ .!؟ قَالَ : وَاقَعْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ ( أي جامعت زوجتي ) ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَجِدُ رَقَبَةً ( أي هل تستطيع أن تعتق رقبة ) .!؟ قَالَ : لا . قَالَ : أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ .!؟ قَالَ : لا ، قَالَ : أفلا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا .!؟ قال :لا أَجِدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ .!! قَالَ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرْقٍ ( وَالْعَرْقُ الْمِكْتَل )ُ فِيهِ تَمْرٌ ، قَالَ : اذْهَبْ فَتَصَدَّقْ بِهَا ، فَقَالَ الرجل :عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يا رسول الله .!؟ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا ( يعني المدينة المنورة ) أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ قَالَ : اذْهَبْ بِهِ إِلَى أَهْلِكَ .!!!
هكذا إذاً ، وبمجرّد ابتسامة ودودة ، حسم الرسول الكريم ( صلى الله عليه و سلم ) واحدة من أعظم الخطايا في الإسلام ، لأن القضية متعلّقة بحق من حقوق الله ، وهو أرحم الراحمين .. والأمثلة على ذلك في الإسلام لا تحصى .!!!
وأما علاقة المسلم مع مجتمعه : فهي - على العكس تماماً - قائمة على الشدّة والصرامة والضبط ، حيث لا تساهل في حقوق الآخرين إطلاقاً ، ولا سماحة في الاعتداء عليهم أو على ممتلكاتهم ، أو التجاوز على حدودهم .!!! ولذلك عندما مدح الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أحد الشهداء الذي سقط مضرّجاً بدمائه في أرض المعركة بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه و سلم ) ، غضب رسول الله (صلى الله عليه و سلم) وقال : والذي نفسي بيده ، لقد رأيته يحترق في نار جهنّم ، في شملة غلّها من أموال المسلمين .!!! ثمّ أعلمهم بأن الشهادة في سبيل الله يمكنها فعلاً أن تكفّر الخطايا المتعلقة بحقوق الله ، لكنّها لا تكفر الذنوب المتعلّقة بحقوق العباد ، كالغش ، والغلول ( السرقة ) ، والظلم ، والاعتداء ، … إلخ . فلقد أخبر رسول العدل والرحمة ( صلى الله عليه و سلم ) : أن امرأة دخلت النار ، وهي كثيرة الصيام والصلاة والصدقة ، ولكنّها كانت تؤذي جيرانها .!!! بل لم يتساهل الإسلام حتى مع حقوق الحيوانات ، حيث أخبر رسول الرحمة ( صلى الله عليه و سلم ) : أن امرأة دخلت النار في هرّة حبستها ، لا هي أطعمتها ، ولا تركتها تأكل من خَشاش الأرض ، بينما على العكس ، فقد غفر الله لبغيّ وأدخلها الجنّة في كلب سقته شربة ماء عندما رأته يأكل الثرى من شدّة العطش في يوم قائظ ...!!!
كما أخبرهم عن أناس كثيري الصلاة والصيام لكنّهم في النار ، ومنهم الحاكم الجائر ، والقاضي الجاهل ، والمتكبّر على عباد الله ، والسارق لأموال الناس ، والمتجاوز على حقوقهم ، والمعتدي على جيرانه .إلخ .! ولو فقه المسلمون هذه الحقيقة الراسخة ، وعملوا على ترتيب أولوياتهم واهتماماتهم بموجبها لعاشوا كأفضل ما تكون المجتمعات الإنسانية ، ولزالت من بينهم كل الظواهر السلبية ، التي يمكن أن تعكر صفو أمنهم وأمانهم … فمتى يدرك المسلم بأن هناك الكثير من الواجبات الوطنية والاجتماعية المضيّعة ، أهم في ميزان الله ، وأرجى للثواب في الآخرة ، من صلاة النَّفل ، وصيام التطوّع …!؟
وأين دور الخطباء والعلماء والمربين ليقولوا للجنود ( مثلاً ) المرابطين والمجاهدين في سبيل الله : بأن كل ساعة مرابطة وحراسة لثغور الأمة أفضل عند الله من عبادة العمر .!؟ فلقد ثبت عن رسول الله (صلى الله عليه و سلم) أنه قال : (( موقف ساعة في سبيل الله ، خيرٌ من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود ))..!!!
ويحثوا أبناء الأمة على التعاون فيما بينهم في الأزمات والملمّات وعند قضاء الحاجات ، فقد ثبت عن ابن عباس ( رض ) أنه قطع اعتكافه في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه و سلم) ، في العشر الأواخر من رمضان ، وخرج في حاجة محتاج ، فلما راجعه بعض الصحابة في ذلك قال ( وهو حَبرُ الأمة ، وترجمان القرآن ) : لقد سمعت صاحب هذا القبر – وأشار إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم – يقول : ( من مشى في حاجة أخيه المسلم وقضاها له ، خير له من اعتكافه في مسجدي هذا ستين سنة ) .!!!
ومن المسؤول عن تثقيف أصحاب المهن والكفاءات – الذين يخلّون بأعمالهم ، ويتركون مهنهم من أجل صلاة التراويح وصيام شوال - وتفهيمهم بأن إتقانهم لمهنهم وإبداعهم فيها وتواجدهم على رأس أعمالهم لقضاء حوائج الناس ، أفضل عند الله من صلاة التراويح ، وصيام شوّال .!!؟
ومن المسؤول عن تثقيف أصحاب السيارات في الشوارع العامة – الذين يتجاوزون على إشارات المرور ، ويعرّضون أرواح الناس وممتلكاتهم للخطر ، بزعمهم أنهم يريدون إدراك صلاة الجماعة مع الإمام - بأن التزامهم بإشارات المرور ، وإيثارهم لإخوانهم في الطريق ، وتعاونهم مع رجال المرور الشرفاء ، أفضل عند الله بألف مرّة مما هم ذاهبون إليه ( مع احترامنا وتقديسنا لشعائر الإسلام )...!!!
وهكذا ، فإننا لو رحنا نتناول كل مفردة من مفردات الحياة لوجدنا أن هناك خللاً خطيراً في فهم أولويات الإسلام وواجباته ، ولربما نتج عن ذلك نتائج خطيرة ، لا تليق بمجتمعاتنا المسلمة ، ولا تنسجم مع مباديء ديننا العظيم ، وأجد لزاماً على كل فرد من أبناء الأمة أن يعيد ترتيب أولوياته من المهم إلى الأهم ، كما أجد لزاماً على أصحاب المنابر ، من الخطباء والعلماء والإعلاميين والمربين ، أن يتحمّلوا العبء الأكبر في هذه الأمانة ، وصولاً إلى مجتمع إسلامي سامٍ ، تتوازن فيه الحقوق والواجبات ، وتتسلسل فيه الأولويات والمسؤوليات … بسم الله الرحمن الرحيم (( وقل اعملوا ، فسيرى اللهُ عملَكم ورسولُه والمؤمنون )) صدق الله العظيم ..