مفارقات

عبد الله الطنطاوي

 بقلم: عبد الله الطنطاوي  

[email protected]

في مدينة حلب مكتبة ضخمة اسمها: (مكتبة حامد عجّان الحديد) وكان صاحب هذه المكتبة الذي فارق هذه الحياة منذ بضعة عشر عاماً، يُصدر في بداية كل سنة كراساً يذكر فيه محتويات مكتبته، وأسعار الكتب. وكان يبوب الكتب، فباب للمصاحف حسب طبعاتها وجودة تلك الطبعات، وباب لكتب التفسيـر، وبـاب لكتـب الحديـث الشريف، وباب للكتب الفكرية الإسلامية، وباب لكتب الفقه، وباب لكتب الفلسفة، ثم تأتي أبواب الكتب الأدبية من شعر وقصة ورواية ومسرحية، وكتب الترجمة والتراجم، وهكذا حتى تصل بقارئ الكراس إلى باب ظريف طريف أسماه: (باب كتب: اقرأ تفرحْ جرِّبْ تحزنْ) ويذكر تحت هذا الباب أسماء كتب السحر والشعوذة وما إليهما.

نحن - الآن -  نتذكر مكتبة عجان الحديد، وكراسها، ونحن نتصفح جرائد الأنظمة ومجلاتها، ونسمع إذاعاتها، ونشاهد تلفازاتها، وفضائياتها. ثم نقارن بين واقع تلك الأنظمة وبين ما نقرأ ونسمع ونشاهد، فيعترينا الذهول، فتقفز إلى الذاكرة كراسة عجان الحديد، فنبتسم في حزن مشوب بالسخرية والاكتئاب الذي يأكل الأعصاب.

إذا تحدث الحاكم بأمره وأمر الذين جاؤوا به إلى سدة الحكم، وهم في الخارج – على الأغلب – ولهم ظلالهم وامتداداتهم الثقيلة في الداخل – إذا تحدث ذلك الحاكم عن الوحدة العربية، وعن النضال والصمود والتصدي، تبادر إلى أذهاننا، أن ثمة طبخة على النار، يطبخها الحاكم وأعوانه لتمزيق وحدة الأمة، أو تكريس التمزيق الذي باشره سايكس وبيكو ضد أرض هذه الأمة، وضد شعبها وتطلعاتها، وإذا صرح ناطق رسمي باسم سيده، أن سيده مهتم بالقضية الفلسطينية، عامل على تعبئة الشعب وتسليح الجيش لتحريرها من النهر إلى البحر، أدركنا أن هناك مؤامرة يحوكها لتصفية القضية بأسلوب من الأساليب اليهودية الباطنية الماكرة.

وإذا تحدث الحاكم عن الرقابة على الفكر والضمير، وعن حرية الكتَّاب والصحافة، هتف الشعب في ضميره: يا ويل الفكر والمفكرين مما يبيت لهم هذا الشقي الذي جيء به من المجهول، ليكون الحاكم بأمره وأمر سادته!.

وهكذا يستطيع كل عاقل من أبناء الأمة المنكوبة بحكامها، أن يعي أبعاد ما يفكر به الطواغيت، وما يخططون لتنفيذه، من خلال عملية غير معقدة، لا تضطرهم إلا إلى قلب الصورة التي يعرضونها على الناس في وسائل إعلامهم المتعددة المواهب..

وإذا تجاوزنا الحكام إلى المحكومين من قادة الأحزاب، في الأنظمة التي تسمح بهامش لقيام الأحزاب، أي تلك التي لا تقوم على الحزب الواحد القائد ولو إلى الجحيم.. إذا انتقلنا إلى خانة المواجهة لخانة الحكام، فإننا سوف نرى الأمر نفسه، ولكن بصورة مصغرة، مبتسرة، على قدّ أحجامها.. سوف نقرأ في دساتير تلك الأحزاب والجمعيات ومناهجها وصحفها الكثير من الكلام الطيب الجميل، فنفرح لما نقرأ، ونحسب أننا وقعنا على الضالة، فإذا نقلنا أبصارنا، وأعملنا عقولنا نحو الممارسة والتطبيق، فإننا سوف نُفجع، فالزعيم لا يقل استبداداً بأتباعه، واستعلاء على من حوله، عن ذلك الحاكم المتجبر الذي ينتقده الزعيم في صحيفة الحزب.. تستطيع أن ترى سائر المفاسد التي يأخذها زعماء الأحزاب المعارضة على الحاكم وحزبه، وكأنهم نسخ ممسوخة عنه، وأحوال الأحزاب الصغيرة، كأحوال الحزب الكبير الحاكم، أو الذي يحكم الطاغية باسمه. فيها الكثير من المفاسد والفوضى والبيروقراطية وتعالي الكبار على الصغار، ومن السلب والنهب واللصوصية والمحسوبية وما إلى ذلك من المخازي التي تجعل البسطاء والمساكين من أبناء الشعب يرددون في همس: ليس هناك أحد أفضل من أحد كلهم سواء، والمعلم واحد.. كلهم ذلك الحاكم.. وهذا - طبعاً-  يصب في خانة الحكم، فيزداد طغياناً، ويزداد الشعب رهقاً على رهق.

وتستطيع أن تسحب الحكم هذا على الكثير من المؤسسات الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية عندنا.. تقرأ أنظمتها الداخلية، وأهدافها وشعاراتها وبياناتها، وتسمع خطابات رؤسائها، فتطرب وتنفتح نفسك للخير القادم على أيدي أصحاب تلك الشعارات والمناهج، من أصحاب الألسنة الفصيحة، والبيانات المليحة، والواجهات الصبيحة، وما تدري أن مقولة الشيخ الوقور حامد عجان الحديد لك بالمرصاد، تطالعك عند أول اختبار: (اقرأ تفرح جرب تحزن).. ويا حسرة على العباد.