مرحباً بالوافد الكريم

أحمد جمال

ما أعجب مضي الأيام، وانسلالها متوارية في مجاهل الغيب، تحمل في طياتها صنيع الناس ببياضه وسواده، وما أسرع ما تمر الغداة ويكر العشي، في تناوب دائب ظمآن، يرشف كؤوس الأعمار رشفاً ملحاً، ما يدع كأساً حتى يأتي على آخر قطراته، ثم يلقيه جثة هامدة، دونما حراك، وقد نفد ماؤها واختفى رواؤها.

إنها دورة الفلك الساهرة الحثيثة، تُشيب الصغير وتُفني الكبير، أو قل إنها الدورة الطاحنة المبيدة التي تهلك وتدمر كل شيء بأمر ربها.

بالأمس القريب ودّعنا شهر رمضان من العام المنصرم بعدما طوته دورة الفلك العجيبة، وأخفته في سراديب الكون الواسع الرهيب.. لكن لم تغب عنا ذكرياته بعد. ولا تزال أطيافه تدغدغ المشاعر الحالمة وتلوح في آفاق الأرواح المؤمنة ساحرة المشهد وضاءة السنا، كأنها معالم الطريق المشرئبة الشامخة في حياة تشعبت فيها الطرق، وكثر عليها المخادعون من دعاة الفتنة وسدنة الشر.

بيد أن اختلاف النهار والليل يُنسي، فيختفي رويداً رويداً ما كان فيما مضى شاخصاً في زوايا النفس أو منطبعاً على صفحات القلوب، مع اختلاف في سرعة اختفائه تبعاً لمدى رسوخه وقوة انطباعه في الأفئدة والقلوب. وكلما حفرت خطوط الذكرى في الحنايا والشغاف حفراً أعمق كلّت عوامل الحتّ وعجزت عن المحو فاستعصى الأمر على الغياب والنسيان.

وإذا كان الأمر هكذا، نسيان قد يعرو، فلابد من عودة وتذكير، لابد من أن يعود الشعاع، ويزحف الوهج ليجدد متون الذكريات ويعمّق حفر خطوطها فتبرز المعالم مرة أخرى وضّاءة منيرة مشرقة، فإذا هي حيّة بارزة على المدى.

فمرحباً بالوافد الحبيب، مرحباً بضيف يمدنا بالوهج والشعاع مرحباً بضيف يكرم مضيفيه أكثر وأزيد مما يكرمونه.

أليس في أيامه نربح رحمة ومغفرة وعتقاً من النار، وأليس في أيامه يأخذ كل منّا زاداً لما كُتب له أن يستقبل من أيام حسب إقباله واستعداده وقدر جدّه واجتهاده.

لله لياليك الحسان أيها الشهر الكريم، ليالي المحبة والمحبين، والوله الصافي والولهين. ليالي الإبحار في خضم العشق، والتحليق في سماء القرب ومدارج الزلفى.

لله لياليك كم تختزن فيها القلوب المتوجهة إلى ما وراء هذا العالم، المنفتحة لألق الحق في هدأة الأسحار من نور يكشف لها أبعاداً وطرقاً في متاهات الحياة وأغوار الدنيا وفي طباق العلا، ويبرز لها خفايا الصورة حتى ما يكاد يخفى منها شيء.

كيف لا وقد سقوا أرواحهم بماء الغيب فاستفادت قوة ونفاذاً لا يعرفهما إلا من ذاق ذلك. لقد تركوا طعامهم وشرابهم وشهوتهم، وحرمهم القرآن النوم فانحنت أصلابهم عليه في جوف الليل، فغلب المعنى الحسَّ وتفوق اللطيف على الكثيف فغدوا على الطيران قادرين. وعاشوا في جنات من نعيم القرب معروشات وغير معروشات، تغشاهم أمثال الظلّة من السكينة، وتحدب وتحنو عليهم أيكة الفرقان، وقد ترامى إلى قلوبهم من ثنايا الغيب وطياته نداء يفيض عطفاً ورحمة، فأذنوا له بقلوب واعية خاشعة، وقد اقشعرّت منهم الأبدان وذرفت العيون.

يقول (ألا من مستغفر فأغفر له) يردفه نداء حانٍ آخر مخترقاً حجب المكان مجاوزاً ومجتازاً حدود الزمان يهتف بهم (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه) فأسهد ذلك الأجفان وجعل جنوبهم تتجافى عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، كل ذلك في فيض من النور، وأمواج من الرحمة تنعم فيها أرواحهم بلذة القرب وحلاوة المناجاة.

ولو أردنا المضي في هذا السبيل لامتدّ بنا الحديث امتداد ساحات الأرواح المنعتقة من ثقل المادة المحلقة في معارج النور، ومدارج القرب. ولكن حسبنا هذا القدر من هذا الجانب. ولنتحوّل إلى غيره وإن كنا لم نرتو منه.

إن لهذا الشهر زاداً آخر، ولحناً يستبدّ بأعماق النفوس المؤمنة ويسكن سويداءها، ولا تزال أنغامه ساحرة شجية نديّة، تؤجج في صدور المؤمنين حنيناً جامحاً إلى جنة عرضها السماوات والأرض، مجتازة إلى هذا النعيم المقيم طريقاً لاحبة يثور في ثناياها النقع وتكللها وتظللها بوارق السيوف، وتتردد في الجنبات صيحات تتعالى بالهتاف الخالد "الله أكبر" فإذا بالأرض تميد تحت أرجل الأعداء، وإذا بقلاع الباطل تندكّ وتتهاوى أمام عزيمة كتائب الإيمان وجند الرحمن، يدفعهم واجب الجهاد ويحدوهم حب الاستشهاد.

وكم كان في هذا الشهر من ملاحم وانتصارات نقتات عزّها وفخارها، ونصغي في طرب إلى نشيدها وهديرها، على الرغم من شط المزار وطول العهد.

تعال أخي نطل معاً من مراصد التاريخ على عدوتي بدر الدنيا والقصوى، وعلى شعاب مكة وبيتها المعظّم، لنملأ العين بتلكم المشاهد ونشنّف الآذان بذلك اللحن السماوي الخالد يرجع صداه في تلك البقاع قوياً آسراً.

ومتى كان ذلك؟ لقد كان في شهر رمضان المبارك.

فما أحرانا أن نرى الصورة كاملة غير منقوصة، وألا ننسى أن شهرنا هذا، شهر عبادة وجهاد، شهر محراب وميدان كفاح. وبهذا الجمع يكون الزاد تاماً يمد جسم الأمة بما يحتاجه من قوة تكافئ ثقل الأمانة وشراسة الأعداء.

فإلى عبادة وإعداد وجهاد أيها المسلمون، وهيا إلى قضاء الشهر المبارك على سنن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، والحمد لله رب العالمين.