خواطر رمضانية

بقلم: فاضل السباعي

كلما اقترب رمضان تداعت في خاطري صور تعود إلى عهد الطفولة الأولى: أهلي كلهم يستيقظون عند السحور. ولا يوقظونني لأنني صغير.. ولله كم كنت أشتاق أن أحضر معهم "السحور" لأعرف ما هـي حقيقتـه!

في أسرتي الأولى، كنا نتحلق في أمسيات رمضانية، حول السفرة، تنتظم فوقها الصحون، وتمتد الأيدي خفيفة لتلتقط كل منها حاجتها وترتفع إلى الأفواه. وفي الصيف كنا نقعد في "الليوان"، ما يشبه الغرفة الواسعة، عالي السقف على شكل قنطرة، قد استغني فيه عن الجدار الرابع، متجهاً إلى الشمال، نستقبل فيه الأنسام العليلة تأتينا من وراء الحدود التركية! والبيت في حلب، كان في حي يقع في شمالي "الجامع الكبير" ويعرف بـ "حي وراء الجامع"، كما يسمى ذلك الحي في القاهرة "بين القصرين"، ففي اسم كل من الحيين "ظرف مكان": "وراء" و"بين"!

وقد صمت رمضان في فصل الصيف في عقد الأربعينات، وأنا فتى، ولحقت الصيام في شهر أيار/ مايو 1954 وأنا بالقاهرة طالب بجامعتها قبيل امتحان السنة النهائية بكلية الحقوق.. وصمته في الصيف في أواخر السبعينات..... فهل يقدر لي أن أصومه، مرة ثالثة، في أصياف الأعوام القادمة؟

وفي ذكرياتي عن رمضان، أود أن أقول: إني بعد عودتي من القاهرة إلى موطني حلب، رأيت أهلي وقد ائتلفوا عادة: أن يصحوا جميعاً عند السحور،، كباراً وصغاراً. ولما كان أبي منجباً (له تسعة عشر من البنين والبنات وإني أكبرهم سناً، طبعاً من زوجتين!!)، فقد وجدت البيت يضج- سويعة السحور- بالحركة ويفيض بالحيوية: ترفع الطناجر على النار وتعد المآكل، ثم يستأنف الجميع النوم! استغربت ذلك في أول رمضان. عدت أقضيه بينهم،، ولكني سرعان ما تكيفت مع هذا الواقع: تحويل الهزيع الأخير من الليل إلى قطعة من نهار!

ولقد تمسكت بصيام رمضان شعيرة إسلامية أعود إلى ممارستها كل عام. ومن معانيها أنها تجمع شمل الأسرة على مائدة واحدة، مساء كل يوم من أيام هذا الشهر الفضيل، الذي أراه يكسر رتابة الحياة وملالة الأيام، ويجعلنا كذلك نحس أننا نجتمع والمسلمين قاطبة، حول مائدة واحدة بعد أذان المغرب، الذي ترافقه طلقات مدفع ويليه خشوع "وتقرب إلى الله".

وفي "صلاة التراويح" أستحضر من الذاكرة صورة ذلك الصبي الذي كنته، في السادسة أو السابعة: ألححت في أن أرافق جدي إلى الجامع في مساء رمضاني لأؤدي وإياه صلاة التراويح، التي ظننت أنها ركعات معدودات... وإذا أنا أعلق -كما يقول المثل- علقة بدوي بصلاة التراويح! فضجرت، فكافأني جدي بأن صحبني بعد هذه الصلاة الطويلة، إلى محل أشهر حلواني بحلب في ذلك الحين: "المستت"، في الطرف الشرقي من باب الفرج، وطلب صحن حلوى له وآخر لي. النكتة، التي وقعت تلك الليلة وعلقت بذاكرة الأسرة زمناً طويلاً، أني بعد أن أكلت من صحني ما أكلت، سألني جدي يريد الاطمئنان على أنه أرضاني، قال: "شلون؟ البقلاوة طيبة؟".

كانت معدة الطفل عندي قد امتلأت، فهززت برأسي أن لا! فأخذها جدي، من يومئذ، علي: يحدث فيقول: "أخذت الولد إلى المستت وأطعمته البقلاوة، وبعد أن شبع قال: مو طيبة!، ويضحكون... رحم الله الأجداد.

وللعلم، إن جدي لأبي "الحاج سليم"، كان يتاجر ما بين حلب وبغداد، ثم بين حلب ومصر، مديرية الشرقية عند عرب الطحاوية، يأتيهم بالعباءات الشامية النفيسة والعُقُلِ الفاخرة.... ومع تردده إلى هناك أعواماً مديدة، تزوج بمصرية، وأنجب، "وحدة" بين سورية ومصر، قبل وحدة عبد الناصر بثلاثين عاماً؟

أنجب جدي هنا وهناك، وأنجب أبي ما ذكرت من عدد الأبناء.. ولكني اكتفيت منهم بأربعة.. أسعد الله أبنائي وأبناءكم، أيها الأصدقاء.

ولكن أية سعادة ينعم بها العرب، ونحن نستقبل، في أول أيام رمضان، خبر تفجير إسرائيل ثلاث بنايات برجية في غزة، فيتشرد بذلك ألفان من البشر! ثم نعلم أن عشرة تفجيرات قد هزت بغداد!

في فلسطين، وفي العراق... وماذا يريد بعد طغاة القرن الحادي والعشرين، منا نحن العرب والمسلمين؟

وأيضاً: هل يجد العرب أنفسهم، في رمضان القادم، يتمتعون بقدر من "حرية التعبير"، يستطيعون به أن يكشفوا عن الفساد والغباء اللذين يسودان أوطانهم الحبيبة؟

وأجدني أردد قول المتنبي: "عيد"! بأية حال عدت، يا عيد؟ ، ولكن بعد أن استبدل بــ "العيد" كلمة "رمضان"!

وكل رمضان وأنتم بخير.