مَن قَتَلَ زهرةَ السَّوْسَنْ ؟!..

خواطر نازفة - الثانية

بقلم : الدكتور محمد بسام يوسف

 [ (إيناس) : تلميذة فلسطينية في الصف الرابع الأساسي، مهذّبة هادئة وادعة، تحب قراءة قصص شهداء الإسلام، وحفظ الأناشيد الإسلامية والوطنية، ولا تنام قبل تلاوة بعضٍ من آيات القرآن الكريم .. هي زهرة لم ترَ نور الدنيا أكثر من تسع سنوات، رأته نوراً مضرّجاً بالدم والنار ، إلى أن حصدتها اليد اليهوديّة الآثمة بعـد 

عودتها من المدرسة يوم الثلاثاء في 19/2/2002م، عند باب دارها في مخيّم جباليا داخل الأرض المحتلة، واستشهدت (إيناس) بعد إصابتها بعشرات الشظايا التي انغرزت في أنحاء جسمها الغضّ، من شظايا صاروخٍ أميركيّ، انطلق من طائرة (أباتشي) أميركية بيدٍ يهوديةٍ صهيونيةٍ مجرمة، فكانت شهيدةً غضّةً، وشاهدةً إلى يوم الدِّين، على أنّ أميركة الإرهابية التي ينحني لها الانهزاميون المتوسّلون المتواطئون، وعلى أنّ اليهود الصهاينة الذين هرولت لمصافحتهم كل النفوس المهزومة المستخذية .. على أنّ هؤلاء وأولئك، أعداءٌ مجرمون إرهابيون، حاقدون على كلّ زرعٍ وضرعٍ وحرثٍ ونسل، وعلى الإنسانية والحياة بكلّ أشكالها!.. الزهرة (إيناس)، هي فلسطين الأبيّة تجسّدت في طفلةٍ بريئةٍ مسلمةٍ وادعة، صرخت واستجارت واستنجدت من الألم والعذاب، من على سرير أحد المشافي في الأرض المحتلّة، لكنّ الشظايا المغروزةٍ في أنحاء جسدها النحيل الغضّ كانت أقوى منها، فاستشهدت بجبهةٍ عالية، وهامةٍ مرفوعة، وعيْنَيْن شاكيَتَيْن دامعتَيْن ترمقان السماء .. وليس في الأرض من مجيب!.. ].

مَلاكاً كنتِ، مَلاكٌ أنتِ، متشبّثةً بالأرض .. وبالذِّكْر!.. بالأرض التي زرعوها بالقهر وبالعُهر، بل بخرافات التلمود!.. بالذِّكْر الذي يعلّمكِ الطُهر .. وفنون النصر!..

نورٌ أنتِ، حُبٌ أنتِ .. بُرعُمَةٌ لم تخشَ الأنقاض، ولا هدير طائرات (الفانتوم) و(الأباتشي) الأميركيّة، ولا دويَّ قنابلهم الفتّاكة!..

يا ابنة السنوات التسع .. يا ابنة الأرض الطيبة المقدّسة الصامدة: زعموا أنكِ إرهابية!.. زعموا يا إيناس أنكِ -حين تكبرين- ستكونين إرهابية!..

يا رمز الأمل بالفتح المبين القادم .. يا رمز العزّ والكبرياء .. يا جرحاً ينـزف من خاصرة الوطن والأمة والقضية .. يا شهيدةً .. يا شاهدةً بالحق على كلّ القَتَلَة!..

مَنْ سفكَ دمَكِ يا إيناس؟!.. مَنْ شمَّ رائحتكِ الغضّة؟!.. أيُعقَل أن يكون من البشر؟!.. أيمكن أن يجرؤ وحشٌ أو ذئبٌ أو ضبعٌ، على ارتكاب ما ارتكبته أيديهم الآثمة المجرمة؟!..

إيناس .. أيْ إيناس: يا طيراً أخضر يحلّق حول عرش الرحمن .. وفي فضاءات الجِنان، وبين أشجارها الوارفة الحانية.. يا عصفورةً حجزت مكانها في سِرب ( الدرّة والريّان وأبو عاصي وإيمان حجو و.. )، ومئات الطيور الخضر من الشهداء الصاعدين إلى السماء .. إلى الجِنان .. من دير ياسين، وكفر قاسم، وقانا، وقِبية، وصبرا وشاتيلا .. وتلّ الزعتر، و..!..

إيناس .. يا أُنْسَ قضيتنا الإسلامية .. يا عدالة قضيتنا .. يا حقّنا .. يا قدسنا وأقصانا .. وفلسطيننا من البحر إلى النهر!..

قتلوكِ يا إيناس .. فأزهر دمكِ طوفاناً، سيجرف مَنْ قتلكِ .. فمن قتلكِ يا إيناس؟!..

الوحش الهمجيّ .. المتحضِّر!.. الذي أطلق قذيفته نحوكِ، هو آخر مَنْ قتلكِ يا إيناس!.. فكثيرون تواطؤوا على ذبحكِ .. وأخطرهم مَن قتلكِ قبل أن تطلعي إلى هذه الدنيا!..

قتلوكِ منذ يوم النكبة!.. حين زعموا أنّ سلاحهم فاسدٌ كقلوبهم!.. قتلوكِ منذ اللحظة التي سطّروا فيها موافقتهم على قرار الهدنة، بمِدادٍ من دماء الشهداء، الذين أصبحتِ واحدةً من زهراتهم!..

قتلوكِ يوم زعموا أنهم سيُغرِقون اليهود الصهاينة في البحر .. فأغرقونا في الهزيمة المُرّة والهوان، في ليلٍ حُزيرانيٍ حالكٍ مظلمٍ كسويداءات قلوبهم، وحاولوا إقناعنا بأنّ الأمر ليس إلا نكسةً أو كبوة!..

قتلوكِ يوم حرّكوا جيوشهم المكدّسة، في استعراضٍ عسكريٍ مسرحيٍّ، سمّوه حرباً تحريريةً تشرينية!.. فإذا -بمفهومهم- إرادة القتال لديهم هي التي تحرّرت كما زعموا، على الرغم من أنّ الصهاينة احتلوا مزيداً من أرضنا وحاضرنا ومستقبلنا!..

قتلوكِ يوم دخل (شارون) الجبان إلى بيروت العربية، بواسطة بطاقة دخولٍ رسميةٍ (قَطَعَتها) له قواتنا الرادعة الساحقة الماحقة!..

قتلوكِ منذ اليوم الأول الذي انطلق فيه الحَجَر، بوجه الدبابة والمدفع والرصاص المطاطيّ والذخيرة الحية!.. وعندما جلسوا أمام أجهزة التلفاز، يستمتعون بأفلام الانتفاضة الأولى، التي كانت تعرض صور وحوشِ المجرم السفاح (رابين) المقبور، وهم يتسلّون بتكسير عظام أقرانكِ .. الإرهابيين!.. ويستمتعون بأفلام انتفاضة الأقصى المبارك، التي تعرض يومياً صور الدمار والخراب والتدمير، وجنازات الشهداء، وأنّات الجرحى ودموع الثكالى والأطفال، و..!..

قتلوكِ يا إيناس .. منذ اللحظة التي استولدوا فيها ملهاة: (التوازن الاستراتيجيّ)، وخرافة: (الخيار الاستراتيجيّ) .. ليستروا بهما عَوْراتهم، واستخذاءهم!..

قتلوكِ في (كامب ديفيد) و(مدريد) و(أوسلو) و(شرم الشيخ) و .. وصالات مؤتمراتهم ومؤامراتهم!.. ويوم تسابقت أيديهم المستخذية، لمصافحة الأيدي اليهودية الآثمة، من فوق الطاولات المستديرة، ومن تحتها!..

قتلوكِ يا إيناس .. قتلوكِ يوم ارتفعت حرارة شارعنا العربي والإسلامي الهادر، الذي طالبهم بإعلان الجهاد ضد الغاصب المحتلّ .. فأعلنوا الحرب على المواطن العربيّ والمسلم، ليخنقوه بذلّ تخاذلهم وتقاعسهم!..

قتلوكِ منذ اللحظة التي سطّروا فيها أول حرفٍ في قوانين الطوارئ والأحكام العرفية .. وكمّموا فم كلّ حُرٍّ مخلصٍ، حاول فتحه خارج عيادات أطباء الأسنان الرسمية!..

قتلوكِ منذ عشقوا خديعة (السلام الحربيّ)، وتشبّثوا بها كما يتشبّثون بكراسيّهم وعروشهم، التي تَميد بهم وبقلوبهم المهزوزة الميّتة!..

قتلوكِ منذ اكتشفوا طريقة الحرب التلفزيونية والإذاعية، وحرب القنوات الفضائية والأرضية .. فاشتروا الصوت الغنائيّ الرنّان بدويّ القنابل، والخطبة الطنّانة بالصاروخ البعيد المدى، والبيانات العنيفة بالطائرات الحربية، والفيلم الوثائقي بالدبابة، والندوة الصحفية بالرشّاش، والأمسية الشِعرية بأزيز الرصاص، والأغنية الوطنية بسلاح المدفعية، والمظاهرات الاستعراضية بناقلات الجنود، والمهرجانات الخطابية بالسفن الحربية والغوّاصات النووية!..

قتلوكِ مع أول كلمة (تنديد)، وفي مطلع كل بيان (استنكار)، ومع بداية كل معركة (استغاثةٍ) و(استكانةٍ) و(توسّلٍ) .. طاحنة!.. ومع كل مسيرة احتجاجٍ استعراضية، وبرقية شكوى إلى مجلس (الفيتو) الأميركي، وهيئة الأمم المتحدة .. علينا!..

قتلوكِ يوم مارسوا علينا وعليكِ الشعوذة، فأوهمونا أنّ جهاد أمّةٍ يمكن اختزاله في صندوق حليبٍ فاسد، يصادره المجرم (شارون) عند الحدود!.. وخدعونا بأنّ مقاومة العدوّ يمكن اختصارها إلى صندوق أدويةٍ انتهت مدّة صلاحيتها!.. وأنّ عتاد الحرب يمكن تعليبه بعلبة (سَردين)!.. وأنّ عدّة المواجهة الشرسة لا تتعدّى سيارة إسعافٍ مهترئة!.. وأنّ القتال والجهاد لا يتم إلا عبر الآفاق والأثير والحدود المصطنعة، بواسطة الـ (ريموت كونترول)!..

قتلوكِ داخل أروقة النفاق، في محافل (حقوق الإنسان) و(حقوق الطفل) .. ومحافل (المحافظة على البيئة) في البرّ والبحر والجوّ!..

إيناس!.. يا غصّةً في الحلق!.. ويا مرارة أمّةٍ، تستمر علقماً، منذ أكثر من نصف قرن: لم يقتلكِ         (شارون) وحده، ولم يقتلكِ (موفاز) و(بيريز) و(باراك) و(رابين) المقبور .. وحدهم .. ولم يقتلكِ (كلينتون) أو (بوش) أو (بلير) .. وحدهم .. ولا كلّ العالم الغربيّ الصليبيّ وحده، الذي يثور ويملأ الدنيا صراخاً وعواءً وخواراً وفحيحاً، لمجرّد موت هِرّةٍ أو كلبٍ أو جَروٍ في شارع (الشانزليزيه)، أو في ساحةٍ من ساحات العهر، في باريس أو لندن أو بون أو روما أو نيويورك!..

قتلكِ العملاء المجرمون المنافقون من وفود الحل السلميّ والسلاميّ، ورؤساء عصابات تقصّي الحقائق!.. الذين أدرجوا اسمكِ في قائمة الإرهابيين!.. واعتبروا بكاءك وأنينك إرهاباً!.. ودمكِ الطاهر المسفوك سلاحاً كيماوياً!.. ومُقلتيكِ الشاكيتَيْن الحائرتَيْن فوهتيْ مدفعٍ مضادٍ لطائراتهم الحربية الإجرامية، التي تزرع السلام والياسمين والريحان!.. ووجنتيكِ البريئتين منصّة صواريخ عابرة للقارّات!.. وفمكِ الغضّ مفاعلاً نووياً!.. وأرضكِ الطاهرة المقدّسة، التي حرثوها بجنازير دباباتهم، مقرّاً للإرهابيين من أمثالك!.. فيما اعتبروا اللصوصَ القتلةَ اليهودَ الصهاينةَ المحتلّين .. ضيوفاً حضاريين، بل أصحاب الأرض الحقيقيين!.. وجنودَهم القتلة المجرمين، مراهقين قاصِرين غير مسؤولين!.. وقُطعان اليهود الغاصبين .. بوارج خيرٍ وسلامٍ وأمنٍ، تزخر بالأزاهير وشقائق النعمان!..

قتلكِ (الضمير العالميّ) المستتر، الذي لا يظهر إلا عندما يُقتَل كلبٌ من كلاب اليهود!..

قتلكِ (الرأي العام العالميّ)، الذي يبقى هادئاً ساكناً ميّتاً متفرّجاً .. إلى أن يُذبَح فأر من فئران اليهود الصهاينة، ضُبِطَ لصاً أو قاتلاً أو قاطعاً لشجرة زيتونٍ سامقة!..

كلّ هؤلاء قتلوكِ يا إيناس!.. وكلهم ذبحوكِ، في مذبح الحضارة الصليبية-الصهيونية، الآيلة إلى السقوط والانهيار والزوال بإذن الله، على الرغم من كل النفاق والدجل والشعوذة، التي يتقنها أولئك المتخلّفون المجرمون الحاقدون السفّاحون، الذين يزعمون أنهم من البشر أو من أبناء آدم!..

كلّ هؤلاء .. وأولئك .. قتلوكِ يا إيناس!.. ألف مرّةٍ قتلوكِ .. وما يزالون يقتلونكِ ويذبحونكِ، فلم ينفد بعدُ .. الحقد والجبن والخوف والرعب من صدورهم!..