قنديل الشام

 نور جندلي

لم أستطع أن أخفي سعادتي التي ارتسمت مشرقة على وجهي و أنا أرى الفيحاء دمشق تفتح ذراعيها لي لتغمرني بدفئها الذي كنت أتوق إليه منذ زمن بعيد .. وكأنها أرادت أن ترحب بي على طريقتها الأصيلة فتزينت بأبهى حللها واقتربت مني لتعانقني عناقا طال الشوق إليه .. وأنا بدوري لم أستطع أن أخفي أشواقي التي دفنتها كثيرا في أعماقي .. فرحت أجول بناظري أتغزل بجمالها الآسر وسحرها العميق الذي لا يقاوم  ...

وبينما أنا ألقي بقصائدي الغزلية  على مسامع دمشقي الحبيبة .. بدى لي من بعيد ذلك الحبيب الذي أتيته قاصدة لأنعم بحبه و أتعلم منه  كيف أظل راسخة مثله .. دافئة كذلك الدفء الذي شعرته   يغمر دمشق بأسرها  .. وهو يمد ذراعيه حولها بكل الحب  ويغمرها بحنانه الدافئ .. آثرت أن أكون اليوم من زوارك أيها الجبل العظيم .. يا قاسيون الحب .. يا ذكرى المحبة والوفاء  .. واخترت أقرب الطرق إليك .. وازدادت سعادتي وأنا  أخترق الشوارع الجميلة الفاتنة فتتناثر خفقات قلبي تناثر الأبنية حول الطرقات  مما يزيدها هيبة وجمالا ..  وهناك ...  عندما أعلن النهار الوداع .. و أقبل الليل بهدوء عميق يتسلل إلى الفؤاد فيتشربه رأيت ذلك الشيخ الجليل الذي قد جاوز التسعين من عمره .. وقد وضع كرسيه أمام دكانه المتواضع على سفح الجبل  .. وأشعل نورا خافتا فوق رأسه  وكأنما أضاء معه  قنديلا في جبهته وفي كل قسمات وجهه .. رأيته وقد أحنى ظهره وقرب كتابا من وجهه يقرؤه بتمعن وتمهل وتدبر .. ويهمس بآيات عذبة خرجت من صوته وكأنها قد أتت من زمن قديم أصيل عبق .. خرجت هادئة نقية نقاء تلك الروح الشفافة التي ضمته .. خرجت وكأنها قد بددت ضجيج السوق المكتظ بأهله من بين تاجر ينادي على بضاعته و آخر يساوم وثالث يسأل ويتحرى ويشتري من هذا وذاك ..  ولينسى مع نور هذا القنديل المسلط على الكتاب .. صخب الدنيا وجلبة الأصحاب .. مررت بقربه وقد تعمدت التمهل في الخطى  .. لأنعم بلحظات صفاء اشتقتها .. وصوت عذب حلقت روحي معه .. في فضاءات الإيمان ولحظات قصيرة من خشوع أحالت ظلمة الليل إلى نهار وضاح وصباح مشرق لا يمكن أن نمله أو  أن نكف عن سماعه .. إلا أن تلك اللحظات ولت مسرعة .. وانقضت .. مع أن بصري  ظل معلقا  للوراء ليستدعي روحي التي آثرت البقاء .. كي تراقب ذلك الشيخ الجليل الذي قد بدى في ظلام السوق كقنديل جميل .. وهو يرتل على سفحك يا قاسيون .. كتاب الله الكريم .. ويعيش في جنة قد اختارها لنفسه  .. كي تسكنها بسعادة بعد هذا العمر الطويل ..

ومع أنني قد صعدتك يا قاسيون حتى القمة  ورأيت أنوارك يا دمشق تتلألأ في كل
مكان .. تتنافس ألوانها في التألق والجمال .. ليغريني كل ضوء ساحر كي أتأمله .. و يحاول جاهدا كي أتغزل في حسنه .. و هو مدرك بأنه ينافس نجم السماء روعة وبهـاء .. إلا أنني منذ تلك اللحظة التي رأيت بها ذلك الشيخ  الجليل .. أدركت بأن لا جمال يفوق جمال روحه و أن لا أضواء في الكون  تنافس سحر ذلك القنديل المشع ولا روعته !!

هنيئـا لك يا شـام  ..... فمازلت أراك الأجمل .. بقناديلك المعلقة على أبوابك العتيقة .. على الدرب المؤدي إلى قمة الجبل العظيم ..