العشق الخالد

بقلم : نور جندلي

لفرط عشقي للأماكن القديمة الهادئة .. أتيت إليك يا حمص كي أتذوق طعم الماضي ونكهة الأصالة المتخفية في مبانيك القديمة وشوارعك الغامضة غموض الليل الذي يكتنفه السكون ..

تكاد تخلو ساحاتك يا حمص من المارة فتبكي الميادين وتنتحب السواقي من وحدة تظللها كل يوم وتبحث عن تائه مثلي يهيم على وجهه وهو مسحور بروعة المكان مبهور بتلك الرائحة التي تنبعث من هذه الأحياء التي قد أكل عليها الزمان إنها رائحة الأصالة رائحة العشق ورائحة الحنين .. لك يا حبيبتي .. لك يا حمص .

لا أدري منذ متى و أنا أمشي في ليلك الخلاب .. ولا أدري الآن أين أنا ؟.. فكل الطرق متشابهة وكل المباني متلاصقة كأحبة يوم الفراق ..

رغم ضيق الشوارع .. إلا أنني أشعر أنني قد مشيتها من قبل في طفولتي .. هنا كنت ألعب مع صديقتي .. ومن هذا البائع كنت أشتري الحلوى اللذيذة .. و في هذه الحديقة الصغيرة كنت أذهب مع والدي لنمضي ليلة ساحرة نتشارك بها الفرح مع أهلك الطيبين .. و نتجاذب معهم أطراف الحديث ...

مازلت أمشي في الأزقة وبين البيوت القديمة .. لكنني أسمع صوتاً حزيناً وبكاء مريراً خلف أبوابك العتيقة يا حمص .. لم أستطع الصمود أمام ذلك الصوت الحزين المنهك ..
طرقت الباب بخفة .. ظهر لي جسد نحيل.. فتح الباب ورحب بي ..لا بد أنه شبح شاعرك الباكي ( ديك الجن الحمصي ).. أجلسني في حديقة منزله المكللة بالخضرة و الجمال .. كانت تتمايل فيها كل أنواع الأزهار .. وتتدلى على سورها شجرة يا سمين .. كانت الطبيعة تبكي وهي تسمع أشعاره .. التي انسابت بخفة على روحي كهوائك المنعش الندي يا حمص .. تذكرت قصته المأساوية .. عشقه لزوجته .. سماعه لوشاية عنها .. قتله لها.. ثم معرفته ببراءتها ... وبكاءه المرير عليها ...........مازالت جدران المكان تبكي معه .. وتئن أغصان الأشجار .. وتبكي الورود و الرياحين .. فلا نجد له ولا لهم صبراً و لا احتساباً .. ما أصعب جرحه ... مازال يدمي حتى  الآن !! ودعته ولي رغبة بالبقاء لأسمع منه المزيد.. لكن شعوراً غامضا ًقد جذبني لأمشي في أزقتك و أطارد خيالات الماضي و أصافح الأرواح الطيبة المنتشرة في كل مكان ..

في حمص تنسى غربتك .. وتشعر أنك دائماً في بيتك .. الوجوه مألوفة .. و البسمات واضحة وضوح الشمس في أفق السماء .. و الميزة الرائعة فيك يا حمص أن كل أهلك يعرفون بعضهم البعض فلا يوجد غرباء و الجميع يرتبطون ببعضهم بصلات قرابة تزيد المودة و الأنس في أجوائك الساحرة ..

انتصف الليل وما زلت هائمة على وجهي أتتبع سحرك الأصيل .. تعبت الأقدام .. وهذا مقعد عجوز ينتظرني كي أستريح عليه ولكن ...ما هذا الصوت ؟؟

يبدو لي أنه صوت ساحر لرجل قوي .. تتبدى الجدية من خلال رنينه الخلاب  فيجذبك إليه دون حول لك ولا قوة ...ها أنا أسير نحوه بكل هدوء ...  يا إلهي ما أجمله من مسجد !! بناء رائع مهيب زاده سكون الليل روعة ومهابة ..

إنه مسجد خالد بن الوليد لكن الصوت !!!! أيكون صوته هو ؟؟؟ أيعقل أن يصرخ خالد في قبره وينتفض .. أيعقل أن تعود له الحياة أم تراني مازلت أتيه في خيالات الماضي و أوهامه ...لك الله يا خالد يا تاج حمص وكنزها الباهر أيعقل أنني واقفة أمام هذا البطل ؟؟ ذلك الذي جيش الجيوش وفتح الأمصار و أرعب الفرس والروم على السواء أيعقل أني أمام أسد الله
إيه يا خالد  أين أنت الآن  ليتك تخرج في جولة تطلع على آثارك  أرض المسلمين صوب نهري دجلة و الفرات التي فتحتها قد اغتصبها الفرس وعاثوا بها فسادا ً و أرض الإسراء باتت تئن تحت وطأة الجبابرة و المستبدين .. أين أنت يا خالد .. كي ترعبهم بصوتك القوي وتهز الأرض من تحت أقدامهم  أين أنت .. كي توقظ النائمين  كي تكتب في تاريخنا هذا تحريراً عظيماً  لقد مت يا خالد و أنت تشتهي الشهادة  وهاهم يموتون ولم يحدثوا أنفسهم بشهادة فلترقد حيث أنت بسلام ولأودعك بحزن دفين يعتصر القلب و يبكي المقل وداعاً ياخالد سأزورك كثيراً ... وسأكون أول من يزف إليك بشارات التحرير..  وسأكمل جولتي بعد أن عبقت بتواجدك فيها ..

يكاد الليل يلفظ أنفاسه الأخيرة .. وهاهو الأذان يعلو شامخا ًمن أفواه المآذن العتيقة .. ومازلت  أمضي في جولتي مسحورة ..إلى أين ستقودني الأقدام أين سأذهب يا حمص هل أزور مسجد عمر بن عبد العزيز .. هل أشكوه مظلمتي .. هل أطالبه بعدالة الكون ؟؟  أم تراني سأتأمل الساقية الحسناء وهي تختال بغرور بين البساتين لتصب في النهر الكبير .. نهر العاصي .. ذلك النهر العنيد الذي أبى إلا أن يتجه عكس غيره في مجراه ... أم سأستقبل الشمس الضحوك و أخبرها عن ليلة سرقت فيها روحي في متاهات السنين ...

لله درك يا حمص ما أجملك !! وما أعظم أسرارك .. وما أروع غموضك و ما أكبر هيبتك وسحرك ... طلع النهار وغابت ليلتي  فمتى اللقـاء يا حمص متى تعدينني بجولة أستعيد بها ذاكرتي  و أخترق أكناف الزمان ؟؟؟ سأزور ليلك ثانية .. و سأشرب من ماء العاصي .. وستجري مياهك مجرى دمي .. كي يخفق القلب حباً .. كلما ذكرتك يا حمص ..