أصوات وأصداء
تداعيات موقف
نعماء محمد المجذوب
كلاهما يرتجفان في انفعال شديد، أيديهما تطرق على الأرقام فوق الورقة، يصحب الطرق أصواتهما بخشونة تمزق السكون وترتعد منه الأشياء، أصبحت أذناي كبهوين عميقين تتردد فيهما الأصوات والأصداء وتتصارع بعنف، لم أستوعب ما يقولان لتنافر الأصوات. كان يتسلق بعضها فوق بعض بلهجة ممزوجة بالهياج والصـياح حتى
صارت كجوقة موسيقية ذات إيقاعات مرعبة، تحمل كل شحنات النرفزة والنكارة، ولم تُجدِ توسلاتي في تهدئتهما، وتسارعت نبضات قلبي، وتردد صداها في صدري، واهتز منها جسدي كله.
- رجاء، هل تصغيان إليّ؟ ألا يمكن التفاهم بتأنٍّ وروية؟
- سبحان الله! لا أدرك من القضية المثارة شيئاً، وأنتما في هذه الحالة الشرسة من الجدال.
ويزداد النقاش حدّة وصخباً، ويشحن رأسي بالأصداء المرتعشة، وتتشابك الكلمات، وتضيع معالمها، ثم تترنح في مسارها لتهوي بعنف في أعماقي، وتتمزق أعصابي تحت الأنقاض.
هززت الاثنتين بيدي المرتجفتين:
- الساعة الآن الخامسة فجراً، والناس نيام، أخِّرا المناقشة إلى الغد.
تذكرت قولاً حكيماً كانت تردده جدتي فقلت:
- صدقتْ عندما كانت تقول: المال عدو للإنسان، يوقع الشحناء والبغضاء بين الناس، وقد يؤدي إلى الجريمة أحياناً.
لم أستطع إيقافهما، فارتأيت أن أنزوي بعيداً عنهما في غرفتي، وأخذت قرصاً منوّماً، حاولت الاسترخاء من خلال قراءتي لكتاب، ولآيات من القرآن الكريم، ولكن الأصوات كانت تلاحقني وتتشبث بي كالسيل المتدفق، فالجدال لم يزل على أشده، وأيديهما لم تزل تطرق فوق الأرقام، وجسدي يرتعد، وقلبي يصرخ ويستغيث بخفقات تكاد تقفز من صدري.
أوصدت الباب، وتهالكت فوق السرير الذي أخذ يئن من رعدة جسدي، إذ لم يباليا برجائي وإلحاحي، ولم يرحما ما بي من (سُكّر وضغط)، بل كان الموقف يزداد توهجاً وتأججاً.
كان في داخلي صوت مبحوح يستنجد من هول الصراع حتى انتابني الصداع، وضاق المكان بضجيج الأصوات، وحاصرتني فلم أستطع الانفكاك منها، وشعرت بضعف وتخاذل وأنا أستجدي بعض الهدوء والاسترخاء، علني أستعيد توازني، وخذلتني دموعي، وتحجرت في عيني، وشعرت بشدة حاجتي إلى شيء من الرأفة، وأمتثل في خاطري خيال أمي، فانتابني وهن طفولي رعيب حيال هذا الإعصار الهادر، مددت يدي إلى خيالها عسى أن يحتويني بين ذراعيها، وتسكب علي من حنانها، فقد أبى عليّ كبريائي التخاذل أكثر أمام هذين الرجلين الفظين.
في لحظة الانكسار الخفية، لامست يدي بطريقة عفوية، قاعدة المروحة المعدنية بجانبي، كانت باردة كالجليد، سرت البرودة في أوصالي، وقتئذ أحسست بحنين يغمرني، وارتياح يبدد الضغط المكتوم في نفسي وجسدي، ضممتها بكلتا ذراعي، وقبلتها بانعتاق.
- آه: جماد يسرّي عني، ويمنحني الأمان والحنان، ويهدئ من روعي وشجني!! والإنسان الزوج والابن يصدانني بقسوة، بلا أدنى شفقة أو رحمة!!
وتمثلت الآية الكريمة وهي تصف القلوب القاسية:
(... فهي كالحجارة أو أشد قسوة، وإنّ من الحجارة لمّا يتفجّر منه الأنهار، وإنّ منها لما يشقّق فيخرج منه الماء، وإنّ منها لما يهبط من خشية الله....) البقرة آية 74.
تراخت يداي عن الجماد البارد، ورحت في سبات عميق، ثم استيقظت على قرار في اتخاذ هرّة أليفة في البيت، أجد الأنس في موائها الرخيم، فلي معها ذكريات ومشاركات رقيقة.