أمنةً نعاساً
تداعيات موقف
أمنةً نعاساً
نعماء محمد المجذوب
خبا إشراق الدنيا في ناظري، وانتشرت الكآبة في نفسي، وأقضّ الأرق مضجعي، فأرخى ظله الثقيل على صدري، وأنا أتذكر أبنائي الذين تفرقوا في القارات البعيدة، هرباً من ظروف قاهرة، بعد أن قضيت شبابي في رعايتهم صغاراً، وغمرتهم بحبي وحناني، إلى أن استوت أعوادهم واشتدّت، وخلفوا برحيلهم خواء مروعاً في كياني، فلم تعد
عيناي تأنسان بمرآهم، ولا يداي ترتاحان بلمسهم، وحلت الأوهام في ذهني ببعدهم، وأصبحت أتحسر على برهة تسعدني بلقياهم، ثم عشت على صدى أصواتهم عبر الأثير.
كانت صِلاتهم بي متقاربة، متزاحمة، تشعرني بالاطمئنان، وهم يلامسون خفايا نفسي، ويخففون من ألم البعاد، ثم أخذت تتباعد شيئاً فشيئاً مما يزيد من قلقي وتلهفي، ويكثر اكتئابي وتفكيري، ويقل نومي، ويشتد بي الكرب، وأوشك على الانهيار.
كنت حين يجفوني النوم ألجأ إلى الصلاة في جوف الليل، متضرعة إلى العليّ القدير أن يحفظهم في بلاد الغربة، وأواسي نفسي وأنا أتصور كثرة الأبناء المهاجرين من أحضان أوطانهم، وما تعانيه الأمهات من الخواء والفزع، فأدعو لي ولهن بالصبر.
ما أصعب الصراع بين النوم والأرق!
النوم نعمة من الله، كما جاء في قوله تعالى: (وجعلنا نومكم سباتاً) فيه ينقطع تفكير العباد بأمور الحياة، ويهمد نشاط إدراكهم وانشغالهم بالهموم، وهو يتسلل إلى أجسادهم المتعبة، وأعصابهم المكدودة، ويجعلهم في حالة لا هي بالموت، ولا هي بالحياة، ويريحها من عناء التفكر والتوتر.
النوم يتم بطريقة عجيبة، لا إرادة للحيّ فيها، تأخذ به إلى عالم لا منغصات فيه ولا نصب، وتقطع صلته بما حوله، فيستسلم في دعة وأمان إلى ما يشبه الوفاة، كما قال تعالى: (وهو الذي يتوفاكم في الليل ويعلم ما جرحتم في النهار).
سر عجيب أودعه الله تعالى في تكوين الحيّ.
سر لا يعلمه إلا هو، يجعل حياته متوقفة عليه.
ماذا يحصل لو أرغم الحيّ بدوافع خارجة عن إرادته كي يظل مستيقظاً، ألا يكون في ذلك هلاكه؟
كان التفكير في اغتراب أبنائي يضغط على مشاعري، ويشحن جسدي بالانفعال والاضطراب، وما كان الهاتف ليروي ظمأ نفسي، قد تكون الدموع وسيلة لتخفيف لهيب الشوق، ولكني كثيراً ما تحرن وتستعصي، فأتحرق، ويعتصرني الضيق والأسى، وتعاف نفسي لذة الحياة ومتعتها، فإذا روحي مثقل، وأعصابي منهكة، وقلبي مروع، ويستدعيني الخيال ليرحل بي إلى مواقع الذكريات، في بعد مضيء مع أطفالي وهم صغار، يلعبون حولي ويمرحون، ويستنجدون بي ويحتمون، ويتلذذون بما أطعمهم ويسعدون، كنت محورهم الذي حوله يدورون ويئوبون، ونحلق معاً بأجنحة شفافة، ويتنافسون في التقرب مني، وأنا أفرغ من جعبتي الحكايات في أذهانهم.
ويكبر الأبناء، ويعتمدون على ذواتهم، ثم تقرهم الظروف والأحداث، فيفرون من العرين الذي كان يجمعهم، ويأوي كل منهم إلى ركن قصي.
وأنا، أنا أمهم أبقى وحيدة، أعيش على زاد ذكرياتي معه، وألعق مرارة الغربة.
زاد أساي، وجفاني دمعي، وخذلني أمني.
في إحدى حالاتي هذه، أويت إلى ركن قرب المدفأة، وأطلقت عنان التفكر والخيال، وغصت في أعماقي أجري بلذة وراء السراب، وما لبث الحزن والانقباض أن سيطرا علي، وساء حالي.
تسلل الدفْء برقة إلى حواسي، فارتخت يداي إلى جنبي، وألقيت سلاح التفكر برضى مني أو بغير رضاي، وألم بأجفاني النعاس، واستسلمت لفترة من السلام، سلام احتاجته روحي، فصارت في هدنة مع صراع التفكير العنيف، إذ كانت حاجتي له شديدة كحاجتي إلى الطعام والشراب.
لم يتجاوز النعاس هذا الزائر اللطيف سوى لحظات يسيرة، قلب كياني، وجدد قواي، وإذا أنا بعد أن صحوت مخلوق آخر جديد، فأعصابي المكدودة قد استرخت، ونفسي المكروبة قد هدأت، وقلبي المروع قد أمن، وعاد إلى ذهني نشاطه وصفاؤه، ونظرت إلى أمور الحياة بشكل أكثر واقعية ورضى، لحظات نعاس أراحت أجهزة جسدي كله.
كل ذلك تم بطريقة عجيبة، لا دور لإرادتي فيها، ولا يمكنني أن أعرف كيف تمت.
شُغِل تفكيري بظاهرة النوم، وبأسرارها العجيبة، كالانقطاع عن الإدراك الذي هو ضروري من ضرورات تكوين الحيّ، والانتقال من حال إلى حال، والأبعد من ذلك، فالنوم سر من أسرار القدرة الخالقة المبدعة جعله الله رحمة منه في مخلوقاته.
النوم معجزة إلهية.
تعود بنا الذكرى إلى واقع المسلمين المنهكين، المجهدين في غزوة بدر، وغزوة أحد، حيث امتن الله عليهم، وهو يقول:
(إذ يغشيكم النعاس أمنة منه).
(ثم أنزل عليكم بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم)
ياله من تعبير بديع رائع، يلقي في نفوس المؤمنين ظلال التأمل، ويثير فيهم التدبر، والتأثر، والخشوع، ويريهم عظمة السر الإلهي في تكوينهم الجسدي، والنفسي.
سبحان الخالق العظيم.