زمن المليون مستشار

د. شهلا العجيلي

كاتبة وأستاذة جامعية من سورية

لعلّ من الظواهر اللاّفتة في حياتنا العربيّة ظاهرة انتشار المستشارين، فما لفتني في الآونة الأخيرة أنّني كلّما تعرّفت إلى شخص اكتشفت أنّه مستشار لجهة ما، أو لشخصيّة ما، فهذا مستشار سياسيّ، وهذه مستشارة ثقافيّة، وذاك مستشار اقتصاديّ، والآخر ماليّ، وهكذا... ليس وجود المستشار بشيء جديد على الأدبيّات السياسيّة، لكنّ المحيّر هو كثرة المستشارين، في الوزارات، والأمانات العامّة، والسفارات، والمراكز الثقافيّة الهامّة، والمراكز العلميّة، والقانونيّة، والدينيّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والأمنيّة، إذ لم يعد الأمر يقتصر على مستشارَين أو ثلاثة لكلّ مركز، بل هناك مستشار للمركز أو للوزارة أو للرئاسة أو للقصر، ومستشارون غيرهم لرئيس المركز شخصيّاً، أو الوزير شخصيّاً، أو الرئيس شخصيّاً، بحيث يمكن أن يؤّلف المستشارون جمعيّة، بل نقابة على غرار نقابة المهندسين أو الأطباء. قد يكون المستشارون من الكفاءات الوطنيّة أو القوميّة، كما قد يكونون أجانب من دول أخرى، ويدفع لهم بالعملة الصعبة. أنا، شخصيّاً، عرفت مستشارين لا أحد يستشيرهم في شيء، بل يقيمون في دول أخرى بعيداً عن الدوائر التي هم مستشارون فيها، وربّما يقتصر الأمر على الاستشارات الهاتفيّة أو الإلكترونيّة، ومع ذلك يتقاضى أولئك المستشارون عشرات الألوف من الدولارات رواتب شهريّة، بل قد يتجاوز الأمر ذلك إلى وجود مستشارين وهميين! تشير التجربة التاريخيّة إلى أنّ حضور المستشارين حاجة ملحّة، إذ يُروى عن الخليفة عمر بن عبد العزيز، الذي كان من أحرص الناس على أموال المسلمين العامّة، أنّه قال:

'والله إنّي لأشتري المحادثة من عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود بألف دينار من بيت مال المسلمين.

فقيل: يا أمير المؤمنين، أتقول هذا مع تحرّيك وشدّة تحفّظك وتنزّهك؟

فقال: أين يُذهب بكم؟ والله إني لأعود برأيه ونصحه وهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف دنانير!'

يبدو أنّ الوصف الوظيفيّ لعمل المستشار قد طرأ عليه تغيير انقلابيّ، ففي حين كان يدفع له ليستفاد من مشورته في زيادة العائدات الماديّة للخزينة، صار مساهماً رئيساً في إفلاس الخزينة، بشكل غير مقصود طبعاً، فبدا حضوره شكلاً من أشكال الفساد الذي يلفّ أنساق البنية الاجتماعيّة- الثقافيّة برمّتها. يحمل مستشارونا شهادات بدرجات علميّة رفيعة، وقد خدموا طويلاً في أجهزة مرموقة، وتقاعدوا، أو لم يخدموا، ولكنهم خبرات عتيقة، لها تجارب في الخارج، لكنّ المشكلة تكمن في أنّ ديون تلك الجهات التي تطلب استشاراتهم تزداد باطراد، إذ نجد المراكز البحثية والعلمية والثقافية، مفلسة دائماً، والدوائر الاقتصادية في أزمات مالية، والثقافة تتهافت بمعدّلات مخيفة، وهكذا... ولا يبدو الحلّ إلاّ بتعيين مستشارين جدد مع الاحتفاظ بالخبرات القديمة! من نوادر المستشارين الذين عرفتهم الثقافة غير العالمة، أو الثقافة الشعبيّة السوريّة (مدبّر سلقين)، أي مستشار (سلقين)، و(سلقين) هذه بلدة في شمال سورية تابعة لمحافظة إدلب.

لقد طلب الأهالي مشورة هذا المدبّر في بقرة أرادت أن تشرب الماء من جرّة فخّار، فدخل رأسها في الجرّة، وعلق، وعجزوا عن استخراجه، فما كان من المستشار إلاّ أن أشار عليهم بأن يقطعوا رأس البقرة، وهذا ما كان!