يوميات من القاهرة

صباحكم أجمل/ عبق النيل

 "1"

زياد جيوسي

[email protected]

عضو لجنة العلاقات الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب

غادرت رام الله ولم تغادرني، رافقتني الى عمّان وشربت القهوة معي في الصباحات العمّانية الجميلة، وحين ودعتها متوجها للمدينة الحلم.. القاهرة، ابتسمت وهمست لي: سأكون في انتظارك بميناء القاهرة الجوي، فرام الله لا تترك من يعشقها، وابتسمت عمّان وقالت: سأكون معك أيضاً، فنحن نخشى من معشوقة جديدة تسرقك منا، فمن يستطيع أن يقاوم سحر القاهرة وجدائلها المنتشرة في كل أنحاء مصر، وبصوت واحد قالتا معا: وأنت الذي كنت تحلم بلقاء مصر، معانقة النيل والقاهرة، هل ستستطيع الصمود أمام سحرها الطاغي؟ سنرافقك في كل خطوة، فنحن نعشق القاهرة أيضاً.

كان الخميس الثاني عشر من أذار حين كنت أودع عمّان مساءً، أمتطي مركب الريح متمثلاً بالملكية الأردنية، ابتسامة طاقم الطائرة في المدخل، فهمست لنفسي: يا الله كم من الزمن مر دون ركوب طائرات الملكية الأردنية، فآخر رحلة جوية لي كانت من بغداد لعمّان قبل الحصار الذي لم يتوقف على العراق ، وبعدها بسنوات احتضنتني رام الله أحد عشر عاما متواصلة بدون فراق، حصار فرضه الاحتلال الاسرائيلي عليّ، ولم أتمكن من أن أحمل هوية وجواز سفر الا يوم الأرض من العام الفائت، فكان لقاء العاشق مع عمّان التي لم تفارقني كما طيفي سنوات أسري.

لعله من الطريف أن تكون رحلتي الأولى للمدينة الحلم/ القاهرة يوم ذكرى مولدي، فهل كان القدر يرسم لي حياة جديدة من خلال هذه الرحلة؟ سؤال دار في ذهني حين اقتربت الطائرة من أجواء القاهرة، فشعرت بقلبي يكاد يقفز من مكانه، شعرت بجسدي ويداي ترتج، فأغلقت كتاب إمرأة الرسالة للكاتبة الفلسطينية رجاء بكرية الذي كنت أحمله وأقرأ به وهمست: عذراً يا امرأة الرسالة، عذرا يا رجاء بكرية، دعي روحي تحلق مع القاهرة الحلم في هذه الليلة، مع الأضواء الجميلة التي غمرت روحي، مع عبق التاريخ والحضارة الذي حلق ولف الطائرة بالحب والحنان، طيبة أهلي في مصر وهي تغمر روحي قبل أن التقيهم.

حين هبطت الطائرة أرض المطار وودعت طاقم الطائرة الجميل على السلم بابتسامة وكلمة شكراً.. يعطيكم العافية، واتجهت للحافلة التي ستقودني الى بوابة المطار الداخلية، تمنيت أن أركض راقصاً بدلا من ركوب الحافلة، ولولا الخجل كنت سأحتضن الموظف في المدخل وهو يقول: أهلا وسهلا تفضلوا، نورتوا مصر، فأكتفيت بالقول له مساء الخير.. مصر منورة بأهلها.. وخلال دفائق كنت أنهي الدخول وأستلم حقيبتي وأغادر قاعة المطار للقاهرة، وما أن خرجت من القاعة الداخلية حتى كان الرائع خالد ينتظرني، فكان لقاء حاراً تغمره مشاعر المحبة والجمال، وحين ركبنا سيارته لم يتوقف عن الشرح عن الأماكن التي نمر بها، وكنت أنظر بدهشة إلى الشوارع المتسعة والمنارة جيداً، وسمعت همساً في المقعد الخلفي فنظرت، فرأيت رام الله وعمًان وطيفي يرافقوني الرحلة والجمال، فابتسمت وابتسموا، وقبل أن يوصلني الرائع خالد لمكان اقامتي الذي رتبه أصدقائي قبل الوصول، قمنا بجولة مطولة في شوارع القاهرة، وسهرت معه حتى بشائر الفجر، فالقاهرة مدينة لا تنام، كما حبي لها الذي لم يغفو يوماً.

ورغم كل السهر صحوت مبكراً كالعادة، فتحت النافذة وخرجت للشرفة، عانقت القاهرة في هذا الصباح الجميل والرائع، كنت في حي الدقي الهادئ وفي الطابق السادس من بناية هادئة، فأطللت على الشارع الهادئ المكتظ بالأشجار، فجهزت القهوة وشربتها وأنا أتأمل الشارع، فتذكرت أن اليوم جمعة وهو عطلة رسمية مما يساهم بالهدوء والجمال، وبقيت متأملاً الشارع، أحتسي القهوة مع طيفي ورام الله وعمّان، أجريت بعض الاتصالات الهاتفية، خرجت وتمشيت في الشوارع على غير هدى، يشدني الشوق والحنين، وانتظرت خالد وذهبنا سوياً إلى الغداء الطيب، وتجولنا في أحياء كثيرة، ثم التقينا العديد من الأصدقاء في عالم الكتابة والشعر والتحليق، وأنهينا الجولة في منتصف الليل باحتساء الشاي في مكان لطيف وجميل في شارع التحرير.

السبت كنت مبكراً برفقة خالد في ساحة مسجد الحسين، صليت هناك تحية المسجد وتأملت جماله وردهاته الواسعة وعبق الايمان المنتشر وضريح الحسين وخرجنا إلى خان الخليلي الجميل، وفي أزقته الجميلة ودروبه كنت أتنسم التاريخ وعبقه، جلسنا في مقهى الفيشاوي الذي طالما سمعت وقرأت عنه،أفطرنا بمطعم جميل، تسوقت بعض التذكارات من خان الخليلي، وحاصرنا الوقت فمررنا من أمام القلعة ولم أدخلها، وأجلنا زيارتها والمتحف والأزهر إلى موعد آخر، ومن هناك كنت أتجه الى النيل للقاء أخت عزيزة التقيها هنا بعد أن غادرت رام الله قبل عشرة سنوات مع أسرتها، والتي ربطتنا علاقة نضالية قديمة وعلاقة أسرية أروع، وفوجئت بلقاء الشابة الفنانة كنان الربيعي التي كانت طفلة حين رأيتها آخر مرة وأصبحت شابة فنانة وتكمل الدكتوراة في الفن، وتقدم رسالة الماجستير بتفوق في حقل شائك من الفن الا وهو الخط العربي، ورأيت في لوحاتها فنانة واعدة تحمل هم الوطن والحلم بالقادم الأجمل، فكان عبق النيل في الجلسة الجميلة ونسائمه المنعشة، وانضمت للجلسة الصديقة الكاتبة هدى والتي عرفتها من خلال الكتابة وخاصة الصباحات والترانيم، وبقينا حتى المساء ليكون لي جلسة أخرى مع الأصدقاء والأحبة امتدت الى ما بعد منتصف الليل، لأجد نفسي مرهقاً صبيحة الأحد فاكتفيت ببعض الزيارات الشخصية ولقاءات مع العديد من الكتاب والأصدقاء حتى المساء.

في المساء كنت أعانق الفن والجمال في قاعة جاليري الفن في الزمالك مع لوحات معرض اسطنبول للفنان القدير عبد الحفيظ فرغلي في معرضه اسطنبول، الذي حملني في رحلة روحية مازجت بين القاهرة الجميلة وأسطنبول روح الشرق، وسيكون لي قريبا دور في الحديث عن هذا المعرض والفنان المبدع واللطيف، وحقيقة لا بد أن اشير للاستقبال الجميل والدافئ من ادارة الصالة السيدة ناهدة الخوري، ولجمالية الصالة ورقيها بحيث أضافت للروح جمال آخر وأنا أجول في رحاب المعرض مع العزف الموسيقي على قيثارة أعادت للذاكرة تاريخ مصر وحضارتها العظيمة، ومن هناك إلى كلية الفنون ومعرض الفنان الفلسطيني الشاب ميسرة بارود بمعرضه فوسفور ابيض الذي حمل الهم الفلسطيني والمعاناة والأمل في العيون الغزية التي مثلت وطنا بأكمله من خلال عشرات اللوحات، فكتبت له كيف حملني في زيارتي الأولى للقاهرة وأعادني للوطن الذي لا يفارقني، ومن هناك الى ساقية عبد المنعم الصاوي وحضور معرضين، الأول للفنان الصيني يوسف شول، والذي أخذ بشغاف قلبي بلوحاته، ومعرضا للصديق نبيل عناني صديقي في رام الله بفنه المتميز ولوحاته الرائعة، فشعرت بروحه في لوحاته تمسك بيدي وتعيدني لرام الله.

في هذا الصباح أجلس للشرفة القاهرية الجميلة المشرفة، أكتب عن تحليق روحي، أحتسي القهوة ويرافقني طيفي، يهمس في أذني: ما أجمل القاهرة وما أجمل عبق النيل، وأشعر برام الله وعمّان ترقصان طربا وفيروز تشدو لنا:

"لم أدري ما طيب العناق على الهوى حتى ترفق ساعدي فطواك، و تأودت أعطاف بانك في يدي و أحمر من خفريهما خداك، و دخلت في ليلين فرعك و الدجى، و لثمت كالصبح المنور فاك، وتعطلت لغة الكلام و خاطبت عيني في لغة الهوى عيناك، لا أمس من عمر الزمان و لا غد جمع الزمان فكان يوم رضاك".

صباحكم أجمل