ماذا تعلمنا غزة
فاطمة عبد المقصود
مهما كانت صعوبة الأحداث ورغم ما تخلفه من آلام ومشاعر حزن متدفقة إلا أن ديننا يرسم لنا منهجا فريدا فى التعامل مع تلك المصائب التى تنتاب أمة الإسلام فى كل وقت وحين، هذا النهج هو أخذ العبرة واستلهام المعانى التى توجهنا نحو تصحيح الأخطاء ومراجعة الخطوات، وقد بدا هذا جليا لنا فى تعقيب القرآن على غزة أحد والتى نزلت فيها إحدى سور القرآن" آل عمران" لتكون مرجعا ودليلا للمسلمين على مر الأزمان وتعاقب الدهور..
ومحرقة غزة الأخيرة كانت هى الأصعب والأقسى مما نعانى، فمن منا لم يبك غزة ويحزن ويتضرع لأجلها فى كل صلاة ودعاء، غزة التى أوجعتنا كثيرا تأتى لتذكرنا بأنها جزء من أرض محتلة، تلك الأرض التى نسيها البعض وظنوا أنها قد صارت خالصة لليهود الذين قدموا من بقاع شتى فى الأرض ليستوطنوا أرضا لم تكن لهم يوما ولن تكون مهما طال بقاؤهم فيها..
غزة تأتى لتقول بملء الصوت بل بدماء الشهداء الأطهار أنها جزء من قضية كبرى لا يجب أن نغفلها أبدا أو تأخذنا صراعات الحياة بعيدا عنها... كيف نكون أحرارا إذا خذلنا أصحاب الحق وكيف نكون شرفاء إذا تعاملنا مع الأعداء سفاكى الدماء ومددنا لهم الأيدى.. وكيف نكون أصحاب لغة واحدة وعرق واحد ونحن نضيع حقوق الأهل، وكيف يصح تسميتنا بمسلمين دون بذل الغالى والرخيص من أجل دماء إخواننا ، والله قد جعل المسلمين فى كل بقاع الأرض إخوة ورسولنا الكريم جعل حرمة الدم المسلم أشد حرمة من البيت الحرام، كيف نقف إلى الله فى كل صلاة ونخن لا نسعى لنصرة قبلة المسلمين الأولى... هذه صفعات تصفعنا بها دماء أطفال ونساء وشيوخ وشباب فى غزة لم يكن لهم ذنب يوما إلا بغض بنى يهود الحاقدين لهم.. فعل فقهنا درس غزة وهل قررنا ألا ننسى وأن تكون فلسطين أرض الرباط ومعقل الأحرار جزء من حياتنا نتوحد من أجلها ونمضى فى تخطيط متقن وعمل مخلص لنصرتها؟....
ثم يأتى من غزة درس جديد كدنا أن نتناساه فى زمن الانتصارات الزائفة والربح الرخيص... إنه درس الصمود والثبات رغم تخاذل الجميع، إن الكثير منا سرعان ما يستسلم للضغوط التى تعترض طريقه فلا يكمل متعللا بأن الاستمرار فوق طاقته، بل يبدل مبادئه ويغير من قناعاته إذا لم يجد معينا وناصرا، والكثير منا يتراجع ويفقد حماسته وتضيع أولوياته فى تدافع الصراعات والطرقات الشديدة من كل جانب.. هنا تأتى غزة لتقول لنا، اثبتوا يا أهل التوحيد فنحن ثابتون، كونوا مع الحق وإن خذله الناس جميعا، لا تتراجعوا عن نصرة مبادئكم خوفا وقهرا.. بل موتوا فداء للحق والعدل والخير الذى تؤمنون به.. إنه نداء من جوف النار ومن رحم المأسأة.. نداء يرسم لنا ملامح النصر الصادق ويبرز لنا معالم الهزيمة الأكيدة... فالنصر ليس إلا صبر ساعة... الثبات فى الميدان على ما نوقن أنه حق وصدق.. والسقوط المدوى هو سقوط الأخلاق والقيم التى حملناها زمنا ثم بعناها بأثمان بخيسة..
فهل سندرك حجم خسائرنا من الآن ونعيد تقييم حسابات المعركة كى نظفر مثل أبطال
الثبات فى غزة بنصر حقيقى تتعلم منه الأجيال؟
ومن أنهار الدماء التى سالت هناك يصرخ الحق فينا أن أقيموا دولتى وأسمعوا العالم صوتى... إن الحق لا يضيع طالما حمله الرجال وماتوا من أجله، يحتاج الحق إلى قوة ترافقه وتردع المجرمين الذين يتطالون عليه، أما إذا تمدد الخوف فى شراييننا ورسم العجز ملامحه على وجوهنا فهيهات أن يراعى الغاصب لنا حق أو يؤدى لنا عهد...
لقد تنازلنا لعدونا منذ ذلك الزمن البعيد عن كل أسباب قوتنا، وسمحنا لأنفسنا أن نكون الأضعف واكتفينا بأن نردد أننا أصحاب حق، وهل يسترد الحق إلا بقوة قادرة على إرهاب المعتدى الغاصب؟ وهل عهدنا سارقا يرد غنيمته دون خوف من عقاب أو قانون
وبالأحرى إذا كان لصا لا خلاق له ولا دين؟
فليكن درسنا الآخر من ملحمة غزة أن يتلمس كل منا أسباب قوته ويشرع فى إطلاقها بعيدا عن مفردات العجز والهوان قبل أن تفاجئنا غزة جديدة فيكون كل حالنا بكاء مر ودعوات للسماء..
لأن الحق عزيز فلن يعود بغير التضحيات الكبرى والدماء المتوقدة وإلا فسيطول البكاء ويطول الانتظار، أما إذا أردنا أن نلتحق بركب الصادقين فلنشرع من الآن فى إعداد أسباب القوة التى تناصر الحق وتحميه.
فى غزة الصامدة دروس ومعانى لا تنتهى فلنبدأ من الآن فى استجلائها لنكون أقدر على استكمال معارك الحياة والانطلاق نحو تحرير للانسان والأوطان.