الرَّغبةُ والغُربةُ

سليم ساعد المقعي السلمي

[email protected]

بحثتُ عن الرغبةِ والغُربة في مُعجمِ المقاييس في اللغة فوجدتُ التعريف ينصُ بقولهِ: الإرادةُ وطلبُ الشيء والحصول عليه، بينما عن الغربةِ وجدتُ التعريف ينص بقولهِ: البُعد عن الوطن، وأنا لستُ جاهلاً بهذين التعريفين من قبل، وإنما كانت في مُخيلتي قبل النظر في هذا المُعجم، وعندما بحثتُ عنها وجدتُ هذا المُعجم ينص على ما في جُعبتي من كلماتٍ مرصوفةٍ فيه؛ لذلك عرفتُ بأن حدوث الحدث أو الشيء هو الذي يُحدث الإبداع، ومعرفة الأحداث قبل وقوعِها.

ومن هُنا لا شك أن الرغبة والغربة لهما صلة ببعضهما، وبينهما عداوة كبيرة، تعتدي بها الغربة على أُختِها الكبرى، ولكن الرغبة تحمل التواضع والحب والاستقرار والطمأنينة، بينما الغربة تحمل العدوانية والمشقة والوحشية والكآبة، فكلُّ مُتغربٍ عن أهلهِ ووطنهِ يُقاسي متاعب الحياة البعيدة، التي لا ترحم هذا الإنسان المُتعذب في المكان البعيد عن الوطن، ومن عداوة الغربة إنها لا تتجاوب معي حينما أسألها، بل تعاديني ولا تتركني في حالي، وإن  جاءت بالإجابة فهي في تمردٍ واستهتارٍ وتهكمٍ وسخريةٍ، قائلتاً: لماذا تترك بلدَك الذي نشأت فيه؟ ألم تعرف بأنني عنيدة بكلِّ صراحةٍ؟ هذا من طبعي الدائم الشريف الذي أعمل به، ألستُ عارفاً بهذا الأمر؟ فقلت: أتيتُ عن طريق الرغبة وهي أُختك الكبرى . فقالت: إذن أصبر وصابر على أذى المتمردة العدوانية الأخت الصغرى المسماه (بالغربة)، فقلت لها: تباً لكِ يا حمقاء، ومن ثَّم عدتُ فسألت الرغبة قائلاً: لماذا أُختك الصُغري تعاديني هكذا بدون سبب؟ فقالتْ: تحمل هذه المشقة حتى تنال ما لأجلِهِ أتيت، فقلت: نعم وهو كذلك. فهذه إجابة المتواضع.

فلذلك أنا جمعت بين الرغبةِ والغربةِ، فالرغبة هي التي أنبتت في قلبي  البعد عن الوطن لنيل العلم، والغربة هي التي تعاديني في ذلك المكان الذي اتخذته مستقراً لطلب العلم، فإحداهما تُرحب والأخرى تعادي، فقلت: يا شعر ما رأيُك في هذا الأمر فقال على لسان الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ:

مَـا  فِـي الـمَقَام لِذِي عَقْلٍ وَذِي iiأدبٍ
سَـافـر تَـجِـد عِـوضـاً عَمْ تُفَارِقُهُ
إنِّـي رأيـتُ وُقـوف الـمـاء iiيُفسدُهُ
والأسدُ  لو لا فراقُ الأرضِ ما iiافترست
والـشـمسُ  لو وَقفت  في الفُلكِ iiدَائمةً
والـتِّـبرُ(2)كالتُّراب  مُلقى في iiأماكِنِهِ
فـإن تَـعَـرَّبَ هـذا عَـزَّ مَـطـلَبُهُ






مِـنْ  رَاحَـةِ فَـدَعِ الأَوْطَانَ iiوَاغتَرب
وانصب فأن لذيذ العيشِ في النَّصبِ(1)
إن سَـاح طـاب وإن لم يَجرِ لم iiيَطبِ
والـسـهُمُ لو لا فراقُ القوسِ لم iiتُصِبِ
لَـمَـلَّـها النَّاسُ من عُجم ٍ ومن iiعربِ
والـعُـودُ  في أرضِهِ نوعٌ من iiالحَطبِ
وإن  تَـغـربَ هـذا عَـزَّ iiكَـالذَّهبِ

              

(1) ـ  النصب:  هنا المقصود به التعب ، وهو خلاف النصب والاحتيال والغش.

(2) ـ التِّبر: فتاب الذهب أو الفضة قبل أن يصاعا.