من تحت الركام

جمانة الجعبري

[email protected]

شممنا رائحة الموت عن بعد كانت دماءً طاهرة خضبت الأرض وأرواحاً حلقت في السماء إيذانا بميلاد أطيارٍ جديدة تحمل تلك الأرواح وتأوي إلى عرش الرحمن، كانت أشلاءً كثيرة قد تبعثرت، وآهات ضجت بين الخافقين، ودموع حرى حرقت قلوب الصبايا وما من معتصم!!! وولدان كبروا قبل الأوان، وشيوخ وعجائز ازدادوا هماً على هم وألماً على ألم وأضافوا لجعبة ذكرياتهم -التي امتلأت حتى فاضت بالأحزان- ذكريات دموية تمنوا معها لو انقضت أعمارهم منذ زمنٍ طويل... وفي المقابل شبابٌ حملوا أرواحهم على أكفهم وساروا في درب الردى واجهوا آلة الحرب بثبات الجبال، تحدوا المستحيل وصنعوا من الموت عزةً وحياة ... وهنا توقفت أتأمل كيف نسقي الأرض دماءنا ولا نعبأ بينما نراهم حريصون على الحياة، لو استطاعوا تعبئة الهواء في قوارير ما قصروا، ولو تمكنوا أن يخلدوا أنفسهم أو يزيدوا في أعمارهم ثانية لفعلوا وما تراجعوا.

وعلى الطرف الآخر أشخاص كثر حاولوا أن يصنعوا من ركام جراحاتنا أساسات لمستقبلهم ولكن دماءنا تأبى أن تنير الدرب إلا لشريف يقدر قيمتها ويفهم رسالتها ويحمل أمانة الثأر لها ...

مع حرب غزة هالنا حجم الدمار وألجمتنا الأشلاء والدماء والوجع الذي فرش أجنحته على قلبها وحاول تحطيم أسطورة صمودها، لقد اغتالت الحرب مشاعرنا وانخلعت قلوبنا وتجمدت الأفكار في عقولنا كلما حاولنا الانعتاق من ربقة هذا الألم ظهرت من جديد مشاهد أخرى وتكشفت حقائق جديدة تزيد الأمر تعقيداً كان من الصعب علينا أن نعيش الألم بعيداً عن كل حيثياته بعيداً عن أصوات القنابل والقذائف بعيداً عن رائحة الموت بعيداً عن كل مناظر الفزع والهلع، كان من الممكن أن يغير كل ذلك شيء من قناعاتنا اتجاه الموت والألم والخوف ولكننا كنا نتعامل مع الموت والألم بلا رائحة وبلا إحساس مباشر، كنا نزداد موتاً ونزداد ألماً بينما كانوا يزدادون في غزة حياة على حياة برغم الموت، ويزدادون ثباتاُ على ثبات برغم الخوف والفزع والهلع وفقد الأحبة وتدمير البيوت، ولكن دماء الشهداء أضاءت ظلمتهم بنورها وعطرت أجواءهم بعبير مسكها.

غزة خرجت من تحت ركامها كنست موتها واستعدت للحياة من جديد، ولونت الحياة بألوان النصر وكما يقال لا يأتي النصر إلا بعد العصر، وقد حاولوا عصرها بكل ما أوتوا من قوة ولكنها برغم كل الضغوطات التي مورست عليها ثبتت كالشجرة الراسخة في مهب الريح وألقمت كل الأفواه الناعقة بالخراب حجارة الحق المبين.

كان هذا هو حال غزة ونحن أما آن لنا أن نخرج من تحت ركام أنفسنا ومن دوامات آهاتنا ومدامعنا... فنبض الخافق في صدورنا يدل على أننا لا زلنا على قيد الحياة لم ترفع الأقلام عنا ولم تطوَ الصحف... أما آن لنا أن نتخذ الخطوة الصحيحة الثابتة في درب التغيير.

صحيح أن ركام نفوسنا الجريحة المبعثرة والمستنزفة أكبر من أن يزيله شخص ما وأكبر من أن تقوم بإعماره كل قوى الأرض ولكن تبقى العصا السحرية معلقة بالقلب النازف والعقل المرهق وتفقد قدرتها في يد من سواه، العصا السحرية لا تعمل إلا بيد صاحبها فقط إن أراد لنفسه إصلاحاً، ومتى أراد وعزم على ذلك تمت أموره على خير ما يحب، وإن تعلل فعلل أخرى ستصيبه ستستشري في جسده كالسرطان يغزو الجسد السليم...

أما آن لكل أعواد المشانق المنصوبة لأحلامنا أن تُحرق لتشرق شمسنا من جديد ويزهر ربيعنا بالفرح وتفوح رياحين أرواحنا بأريج الحياة، أما آن لنا أن نتعالى على كل هاتيك الجراح النازفة وأن نسرج من دمائنا قناديل العزة ونمضي ونكن شمعة في درب الحيارى، أما آن أن نبحث عن الحياة من تحت ركام الموت وننطلق... لقد آن وحان.