مشكلة ذاكرة اللوحة المركبة
مشكلة ذاكرة اللوحة المركبة
حارثة مجاهد ديرانية
عرضت لي من مدة صورة باهتة في خيالي لرحلة قديمة قامت بها عائلتنا إلى الطائف ونحن صغار أوائل ما وعيت أنا وأولاد خالاتي هذه الدنيا، كانت صورة باهتة مشوشة، وحين حاولت أن أقرب المنظار وأرى تفاصيل ذلك اليوم رأيتها تتفلت من بين يدي وكأنها السراب، ثم لما أردت أن أعود إلى صورة الذكرى الكبيرة شعرت بها تموج وتضطرب وكأنها لا أساس لها، حتى اضطررت أن أسلم بأن ما بقي في ذهني منها لم يكن غير نسخة ممسوخة مشوهة عن رحلتنا الحقيقية، وأن استرجاع أصلها من أعماق ذاكرتي بات أقرب إلى المستحيل. عندها خطرت ببالي فكرة لوحة الصورة المركبة. تصوروا -أيها القراء- أن أمامكم لوحة مركبة عدد قطعها خمسمئة قطعة، تُصوِّر غرفة من بيت خشبي ريفي قديم وفي وسطها مدفأة وفيها أشياء أخرى، ثم تصوروا أن خمس قطع من قطعكم الخمسمئة -وقد انتخبت عشوائياً- تختفي كل ثانية واحدة، ثم أنتم تأتون هذه الفجوات الخمس التي خلفتها قطعنا الراحلة وتحاولون أن تعيدوا رسم ما كان فيها معتمدين على ترونه الآن حولها من بقية الصورة (أي مفترضين أنكم لا تذكرون البتة ما كان فيها من قبل)، فتصوروا أنكم قد بدأتم لعبتنا هذه في الصباح وأن خمس قطع تختفي كل ثانية فتعيدون رسم ما كان مكانها لا يرشدكم إلا ما يحيط بها من بقية الصورة، فإنه لا يأتي عليكم المساء حتى تكونوا وأمامكم صورة مركبة لغرفة خشبية وفيها مدفأة، ما بقي فيها قطعة واحدة من الصورة الأصلية، وإنما هي كلها نسخة عن نسخة عن نسخة، إلى مرات كثيرة لا يحصيها عد! أحضروا الآن الصورة الأصلية ثم ضعوها عن يمين لوحتكم الجديدة، فإنكم تجدون في هذه غرفة خشبية وفي تلك غرفة خشبية، وترون في هذه مدفأة وفي تلك مدفأة، ولكني أضمن لكم أنكم ستعجبون من أن اللوحة الجديدة كانت في أصلها تلك التي عن يمينها، وسوف تجدون اختلافاً كثيراً. أثار الاختلاف بين اللوحتين عندئذ فضولي وفضول من حولي، فتحلقنا من حولهما ونحن نحدق إليهما في ذهول واهتمام، ثم كان أول ما شغل بالي بعدها اختفاء بعض التفاصيل اختفاءً تاماً، فلقد كان على الطاولة الكبيرة في الصورة الأصلية علبة كبريت وهي الآن مفقودة في اللوحة اليسرى (أي التي أصابها التغيير)، وسرعان ما أتاني الجواب على هذه المسألة، ذلك أن علبة الكبريت كانت صغيرة إلى درجة أنها لم تدخل في نسيج أي قطع أخرى من حولها، بل كانت تفصيلاً عائماً وحده، فلما فقدت قطعتها في إحدى التقلبات لم يدر الرسام أن لها وجوداً وهو يعيد ترقيع القطعة وهو مسترشد بما حولها مما بقي له من اللوحة، ففقدت، وفي مقابل ذلك رأيت أن بعض التفاصيل قد ولدت ولم تكن، فمن نافذة الشباك صرت أرى زهوراً مشرقة لم تكن في النسخة الأصلية من الصورة، وعرفت أن هذا كان من خيال المرقع لما رقع القطع المتطايرة. ثم ابتعدت بناظري حتى أحطت ببصري اللوحة كلها، فوجدت أن نسيج العناصر الكبيرة والمهمة في اللوحة كان متيناً إلى درجة أنها حافظت على أصلها؛ فالمدفأة ظلت مدفأة ولم تتغير إلى سيارة، والغرفة بقيت غرفة وما رأينا مكانها صحراء أو غابة استوائية، ورغم ذلك الثبات ما ملكت إلا أن أعجب مما طرأ على روح اللوحة من انقلاب عجيب، فلقد كانت اللوحة الأصلية تصور غرفة قاتمة كئيبة تغم القلوب، ثم هي الآن قد أصبحت غرفة مشرقة بهية وكأنها اقتطعت من عالم جنان الخلد، فخمنت -مرة أخرى- أن هذا من عمل خيال المرقع كلما عمل على ترقيع قطعة من صورة الذكرى، فهو لا يملك أن يعمل عمله إلا إن هو أدخل فيه شيئاً من خياله ولا يقدر على التجرد التام، فكلما رقع قطعة رأيته أضفى عليها مسحة من الإشراق المزيف لم تكن في سلفها الكئيب، حتى تجيء بعد سنين فتجد صاحبنا يحن إلى أيامه السود، لا لشيء إلا لأن لونها قد استحال في ذاكرته إلى البياض!
تلك هي مشكلة ذاكرة اللوحة المركبة، وهي فكرة في بالي منذ سنوات ولكنها لم تقيد في كلمات إلا منذ أيام، جعلني أعود إليها كلام سمعته من أستاذنا عارف، إذ قال لنا عارف إنه سيحدثنا عن بعض هواياته، وهي هواية "البحث العمودي"، فما هو البحث العمودي؟ قال إنك تذهب إلى الموسوعة لتجمع معلومات عن الحيوانات، فتأتي بكتاب عن الثدييات وآخر عن الزواحف وثالث عن الفيل وهلم جراً، فذلك بحث يميل أن يكون أفقياً، فما البحث العمودي إذن؟ إن العمودي مثله أن تريد النظر فيما نشر عن أبي بكر الرازي، فتفتح موسوعة إسلامية، ثم تنظر في دائرة المعارف البريطانية التي نشرت هذه السنة، ثم التي نشرت سنة خمس وثمانين، إلى آخر ذلك من مصادر أخرى تختلف في أصولها وتواريخها. قال لنا عارف إنه لما فعل ذلك رأى عجباً؛ رأى أن المعلومات التي يقرؤها تتغير تغيراً تدريجياً كلما تقدم إلى كتابات أحدث عهداً! عندها انتبهت أن مشكلة ذاكرة اللوحة ليست مشكلة تصيب ذاكرة الآدميين فحسب ولكنها خطر يهدد ذاكرة التاريخ أيضاً! من أجل ذلك ينبغي أن نحفظ الأصول القديمة لكي نعود إليها فتعيد ضبط معاييرنا لتقارب الحقيقة، وأما أن نأخذ نسخة عن نسخة عن نسخة، فذلك مآله إلى التشوه والخراب لا محالة.
وذات المشكلة ظاهرة في هواية عامة الناس في تناقل الأخبار، ولكن الاختلاف هنا أن الناس غالباً ما يبدلون لا خمس قطع من قطع اللوحة الخمسمئة كل مرة وهم يتناقلون نوادرهم وحكاياتهم، بل ربما أبدل أحدهم من قطعها مئة وخمسين! فلا تكاد الحكاية تبلغ الناقل الخامس أو السادس حتى تعجز أن تكتشف من تلقاء نفسك أن ما يحدث به الرجل إنما هو ذات القصة التي حدث بها الناقل الأصلي الأول!
هذه هي مشكلة ذاكرة اللوحة المركبة، فاسمحوا لي أن أستأذنكم في الذهاب الآن وقد تركت المشكلة بين أيديكم، ولكم أن تستمتعوا وأنتم تقلبونها في أذهانكم.