ذوو الأصول
ذوو الأصول
حارثة مجاهد ديرانية
قالت إلزبث بينيت[1] لأختها جين وهي تطيب خاطرها: إن شعورها بالخيبة من هذا العالم يزداد بمرور الأيام، وإن البشر هم من أكثر الكائنات تقلباً، فلا يحزنها ما رأته من بنغلي وصديقه وأختيه.
حينما مررت بهذه الجملة وأنا أقرأ رواية جين آوستن وضعت عليها علامة لإعجابي بها، ثم كنت أقولها لصديق عزيز من أصدقائي وأنا جالس معه منذ أيام بعد صلاة الجمعة بعدما حكى لي عن أذى أصابه من بعض معارفه منذ وقت قريب. صديقي هذا فتى ذو أخلاق نبيلة، وهو من النوع الذي يبالغ في إحسان الظن بالآخرين، حتى يجيء يوم يؤذونه فيه أذى يعجز معه أن يعذرهم فينأى بجنبه عنهم ويكاد أن يقطع علاقته بهم إلا من السلام حال اللقاء وغير ذلك من أدنى الواجبات حتى لا يقع في ذنب أن يقاطع مسلماً لأنه يعرف أن هذا من أعظم الذنوب في الإسلام. جلست معه يومها وذكرت له تلك الجملة التي قالتها إلزبث لأختها، ثم قلت له إن هذه الجملة فيها إجمال لما تراه من الناس أيها الصديق العزيز، تعاشر الناس فترى من عامتهم -إلا من عصم ربي- تقلباً عجيباً لا تكاد تقف له على تفسير مقنع، فتراهم محسنين ثم مسيئين، ويبدون تارة جيدين وأخرى سيئين، ثم تزداد قرباً فتنكشف لك الحقيقة المرة، وتدرك -وقد كنت من قبل تبحث عن حقيقة أولئك الناس- أن هؤلاء ناس قد تقلبوا لأنهم لا حقيقة لهم، إنهم ناس بلا أصول! ها هنا أدركت لماذا نقول عن الشخص النبيل إنه "ذو أصل" أو إنه "أصيل"، ويا لسخرية أن يكتشف المرء أنه كان يبحث عن شيء غير موجود لما كان يبحث لمعظم من يعرف عن "حقيقة"، أو دعنا نسمه "أصلاً". وذلك هو ما يفرق الرجل[2] النبيل عن الرجل الوضيع، فالرجل النبيل رجل له حقيقة وله أصل تعرفه بثباته عليه في السراء وحال البلاء، وحين يحسن الناس أو يسيؤون، فإنه على أصله الخير النبيل لا يتغير، وأما من لا أصل له فليست له حقيقة ثابتة، بل هو كالحرباء تتلون بلون ما يحيط بها، إنه يتشدق بالقيم النبيلة لما يكون في حلقة وعظ، ثم تراه قد حمل مع الناس لما هم حملوا على مظلوم بعد ذلك بأيام معدودات، وما أسهل أن يأتي من لا أصل له بالمتناقضات![3] ولكني قلت لكم إن الرجل النبيل ذو أصل وكاد أن يفوتني صنف آخر ذو أصل أيضاً، ولكنه أصل شرير وضيع! فهو ليس مع الناس يحسن إن أحسنوا ثم يسيء إن أساؤوا، ولكنه ثابت دائماً على أصله، أصله المظلم الشرير! فترى الناس على ذلك أقساماً ثلاثة: فمنهم من هو ذو أصل صالح طيب، ومنهم ذو الأصل ولكنه أصل سيء فاسد، وكلا هؤلاء وهؤلاء نادرون، وفاز بالأغلبية عديمو الأصول!
فهل أدركت الآن سر معاناتك أيها الصديق العزيز؟ لا تخدعنك وجوه جميلة قد تراها من الناس، فلعلها ألا تكون أتت من أصل جميل، بل ربما كانت تلوناً لونتها به الظروف فحسب. وأما أنا فإني مسرور بأني وجدتك أنت من بين الناس، لأنك -يا أيها الصديق- رجل أصيل!
[1]span> إلزبث بينيت هي بطلة رواية جين آوستن التي عربت إلى "كبرياء وهوى" (وهي ترجمة صعب أن تطابق أصلها الإنكليزي Pride and Prejudice مطابقة تامة). وفي الرواية يترك بنغلي جين (أخت إلزبث الكبرى) تركاً مفاجئاً ويهاجر من البلدة بعد ود كان ينبئ بزواج وشيك، تاركاً جين لأحزانها وحسراتها، ثم يستبين لإلزبث وجين في آخر الرواية أن بنغلي لم يصنع ما صنع عن سوء، بل لأنه رجل أصيل وكان بحسن نية، ولكن بسوء فهم (وهي رواية أصل فكرتها إساءة الفهم والحكم والتسرع بهما وما تفضيان إليه من أذى وشقاق).
[2]span> إني أستعمل لفظة "الرجل" هنا لتكون تعبيراً عاماً عن أي شخص آدمي ذكراً كان أو أنثى، فكلامي يشمل الذكور والإناث جميعاً بالطبع.
[3] قال رسول الله -ص-: الناس كإبل مئة لا تجد فيها راحلة.