الجزء الرابع من العقد الفريد مفقود
عبد اللطيف الحسيني
إنه ليس الكتاب الوحيد ـ الأهم ـ الذي يتدفأ به شتاء من أصابتهم حمى قراءة الكتب التراثية، ويبترد به صيفاً، الندماء في مدبنتي؛ لكنه لا يغادر سطحاً مشمعاً تحسبه برتقالياً لوهلة، لكن لا لون له حين تصافح عيناك، ذاك السطح لطاولة خشبية مصنوعة على عجل، وكأن الشيخ أرادها مهدودة، فرقعها النجار بعصبية تحت إلحاحه ذاك، ربما أنجزت الطاولة بساعة من عمل لا دقة فيه، لكنها صمدت لتنافس رأي النجار بأنها ستتداعى خلا ل أيام.
بعد مرور ثلاثين عاما (مذ رأيتها) قرأت أربعة وجوه، لأربعة أشخاص، يتجمهرون حولها، وكأنهم يقرؤون نصاً مطلسماً: الشيخ بشرحه وتعليقه على ما يقرأ مناوبة، والفقيه بتعليقه مناصراً الرأي السابق للشيخ ، والصوقي متغنياً بأبيات لا أحد يردّه إن أعجبه بيت من قصيدة صوفية بصوته المبحوح، ويشاركه الثلاثة باشارات الرضا بأفواههم، أو بعيونهم؛ غير أن الرابع الكفيف منهم يبقى صامتاً... حيادياً، لا يجيب إلا إذا سئل، وإن أجاب فيقول: "أنا أرى".
***
كانوا ثلاثة يقرؤون الجزء الرابع من العقد الفريد، وضاع في اليوم الثاني ـ الكتاب ـ حين أرادوا أن يتمموا ما انتهوا إليه في اليوم السابق.
ثمة شخص اخترق حجرة الشيخ المطلة على الشارع، فاستهواه تجليد الكتاب بدقته ولونه وغرابة اسم مؤلفه: "ابن عبد ربه الأندلسي"، فاختلسه، وكان مالك الكتاب يقول: إن الكتاب سيردّ إلى مكانه، ألا يقال من محتوى الكتاب حين قريء بأنه بضاعتنا وقد ردّت إلينا؟
لماذا لم تصب يد المختلس رعشة حين آثر أن يأخذ الكتاب، ألا يقال عن هذه الحجرة بأنها دار عبادة وعلم؟!.
كان بامكان الشيخ أن يصلّت ملائكة سوداء، لتجعله محنطاً حين مسّت يده الكتاب لسرقته.
في اليوم الذي ضاع الجزء الرابع ـ واسطة العقد- ، من الكتاب (الجزء الذي خصه مؤلفه عن الطرائق الآثمة لقتل آل البيت)، وكان الثلاثة يتفقدونه، جاء نبأ وفاة الرابع منهم، ذاك الذي شاركهم سنوات في القراءة والتغني بالقصائد الصوفية.
***
وفاة الفقيه أنست الثلاثة كلّ الكتب التي تدارسوا فيها معاً.
الجزء الربع من العقد الفريد كان يعرفه الفقيه مجرد أن تلامس يده الكتاب، وأيّ كتاب آخر، فكان الشيخ يمتحنه، فيحّمله كتاباً، فيقول الضرير: انه (حلية الأولياء) ويحمّله كتابا يشبه سابقه، فيقول الضرير: انه شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك.
نعي الثلاثة للضرير كان على شكل قول "للحسن البصري":
إن الموت لم يترك لذي لبّ فرحاً.