حسّ الفنان لحظة (ترانس)

سميح الجعبري - القدس الشريف

[email protected]

كثيرة هي المرّات التي تساءلت فيها، وقليلة هي المرّات التي كنت أجد فيها ضالتي المنشودة. ليس لشيء قليل، فحس الفنان هو المبتغى.

كيف يرى الفنان جمالية عمله بينما أمر أنا عليه مرور الكرام ؟ لذا، كنت أتقصد تصفّح كتاب أو مجلة في مجال الفنون أو الأدب، كي تتبلور عندي فكرة ولو كليّة.

 وبالحديث عن حس الفنان، فلنرسم سوية مشهداً بسيطاً من حياتك اليومية، علّنا نفهم شيئاً :

 - مشهد ليلي : أنت تجلس أمام التلفاز وأطفالك يتقافزون أمامك على السجادة المغطاة بحرام، في مربح حدّدت مساحتة مقاعد غرفة الجلوس. يتمايل الصغير ليسقط، فتمد يدك لتسبق رأسه إلى الأرض. انتهى المشهد.

 لعل مشهداً كهذا يتكرر مرّات في اليوم الواحد، لكنك لم تلقِ له بالاً، ولم تفكّر في وضع نقطة أو علامة على تلك اللحظة من الزمن.

بينما هناك من يرى أبعد من ذلك... في لحظة (ترانس). ولعل بعضنا لا يعرف معنى الكلمة، وبعضنا الآخر قد يعرف معناها ويجهل روحها.

بداية، الـ (ترانس) تعني ما وراء، وتطلق على نشوة درويش الصوفية الذي يدور ويدور عالمه معه، وتعني أيضاً نوعاً معيناً من الموسيقى الغربية، تُعزف بتكرار نفس النغمة مع إدخال مؤثرات موسيقية خارجية، وهي الموسيقى المفضلة لدى المنتشين بالدخان الأزرق، لتنقلهم إلى الـ (ترانس)... إلى ما وراء الموسيقى.

 وأنا أطلق هذه الاسم على لحظة إلهام الفنان

 عوداً على بدء، إلى مشهد "أطفالك يتقافزون أمام التلفاز" ولكن من رؤية الفنان. ولكن لنكن واضحين، فالفنان لا يختار إلهامه، بل إلهامه يختاره. وإن اختاره إلهامه في تلك اللحظة : فهو أولاً يلغي الزمان والمكان ثم يركز على الشخصية الرئيسية. وهنا السرّ... كيف يلغي الزمان والمكان ؟ والجواب جدّ بسيط، هذا هو حس الفنان، فهو يصنع للمشهد مجسّماً ثلاثي الأبعاد، ولنتخيّل مجسم المجموعة الشمسية أمامنا، تكون فيه الشخصية الرئيسية في المركز وتدور حولها باقي عناصر المشهد، وهنا يتلخص دور الفنان في تخّيل علاقات مفترضة بين العناصر، أو إضافتها أو حذفها أو التركيز على أحداها. وهو يُدوّر المجسم بمحتوياته كيف يشاء. 

هل كان هذه الجواب شافياً ؟

 في تلك اللحظة يكون الفنان في لحظة ترانس، يفقد فيها إحساسه بالأبعاد الأربعة، المكان بأبعاده الثلاثة، والزمن هو البعد الرابع كما اعتبره أينشتاين. علماً أن العلماء يقدرون أن في الكون ستة عشر بعداً، أترك لك الخيار بتخيل تفاسير لظواهر ووجود مخلوقات، لم يصل البشر بعد إلى تفسيرها.

 على كل حال، فإن فقدان الإحساس بالمكان والزمان هو ما يجمع الدرويش والمنتشي والفنان.

 فالفنان يخرج من المشهد، وها هو ينظر إلى المجسم الواقف أمامه... في اللامكان... واللازمان... معلق في الفضاء. فيختار ما يرغب من الوقت ويختار ما يعجبه من مكان، لينسج مشهداً فنياً على أساس مشهد حقيقي. فهو يعيش على هذه الأرض أولاً وأخيراً.

 أمّا أنا، ولست أدّعي الفن ولكني شخص يكتب خاطرة، فكنت لأضيف نفسي إلى المشهد وأقفز جيلاً إلى الوراء، فأكون أنا (الصغير المتمايل) ويكون أبي بشخصيتي في المشهد. أمّا خارج المشهد، أنا أشاهدني أُلاعبني... فأستمع لإلهامي... فأكتب.

 باختصار، في لحظة ترانس، يرى الفنان الأشياء وكأنه ينظر إلى كوكب تدور حوله أقماره، بينما أنت تعيش على ذلك الكوكب.