الكفار المستكشفون
حارثة مجاهد ديرانية
[email protected]
لقد قلت لكم في حاشية المقالة السابقة
إن لي عودة وتعليقاً على كلام سائق سيارة التكسي، فهذه القصة الصغيرة كانت بذرة
للكثير من الأفكار التي تبعتها، فالنفسية المستكشفة لها تبعات ولها أسباب، والحق
أنني سمعت القصة في وقت ملائم لأن ذهني كان يشغله في تلك الأيام -من بين ما يشغله-
التفكير في الإبداع في بلاد الغرب، ثم التفكير الحزين في أن بلادنا عدمت الإبداع
حتى في عصورنا الذهبية التي نفخر بها. نعم، إن لنا لتاريخاً نفاخر به الأمم، ولكن
الغريب (والمؤسف كذلك) أن الأمة المسلمة افتقرت حتى في أعظم مراحلها إلى مهارتين
اثنتين، فأما الأولى فعمل الجماعة، وأما الثانية فالإبداع (والثانية هي موضوع
حديثنا الآن). ونحن نعرف أنّا أمة تفتقر إلى الإبداع ولهذا كثر حديثنا عنه، وصار
كثير منا يتوق إلى صنع التغيير وأن ينشئ جيلاً من المبدعين، لكني لما نظرت رأيت أن
الاهتمام قد صب كله على الإبداع نفسه بشكل مباشر، فصار تفكير المربين منحصراً في
الطريقة التي سيغرسون فيها مهارة الإبداع في نفوس أبنائهم. ولكني الآن أتساءل: هل
مهارة الإبداع هي حقاً مهارة يجب أن تعلم بهذه الطريقة "المباشرة جداً"، أم أنها
وليدة تلد من تلقاء نفسها، تلدها "نفسية" ما قد فقدناها ففقدنا الإبداع تباعاً
بالضرورة؟ ماذا لو كان الإبداع هو وليد نفسية "مستكشفة"، لا تعتبر ما نراه ونعالجه
في هذه الحياة المعقدة الغنية مسلمات انتهينا منها وليس ينبغي علينا أن نفكر بها
وندرسها؟ أنى للمربين أن ينجحوا في غرس الإبداع في نفوس صغارهم طالما أن في نفوسهم
ما يحول دونه؟ إني أظن الآن أن هذه النفسية التي أتحدث عنها أصل للخير الذي نريد[1]،
فلنعد إلى الأصل إذن بدلاً من أن نضيع جهودنا في فروع قد لا تثمر من غير أصل صالح
يدعمها، وهذا الأصل الصالح نراه عند أهل الغرب الذين تقدموا علينا في القرون
الأخيرة.[2]
نعم، لما نظرت إلى السياح الأجانب في ماليزيا كيف يصنعون، ثم رأيت كيف صور العلماء
البريطانيون الشباب البرنامج الوثائقي الذي يحبه أصغر إخوتي حين عدت إلى بلادي،
ولما رأيتهم في المقابلات على شاشة الرائي وكيف يصنعون مع سائر أعمالهم، لما
أبصرتهم في ذلك كله رأيتني وأنا أرى فيه شيئاً مشتركاً: إن ما يعتبره أولئك
الغربيون في قائمة "المسلمات التي فرغنا منها" هو -بلا ريب- أقل من الذي عندنا نحن
بكثير،[3]
وهذا هو مما جعلهم "مستكشفين". ولكن من يدري لماذا كان الغربيون ناساً مستكشفين
وكان غيرهم من القانعين الخاملين؟ فإن كانت هذه الخصلة تحمل معها الخير (ولعل منه
أن تكون أساساً مهماً للإبداع يصعب أن يولد من غيرها)[4]
أفليس من الصواب إذن أن نصرف بعض الجهد والوقت لكي نفهم سبب تيقظها عند قوم ونومها
عند آخرين؟ فليكن ذلك إذن موضوع المقال القادم إن شاء الله.
[1]
وقد لا تكون الأساس الوحيد لتربة صالحة للإبداع.
[2]
ولعلهم أن يكونوا قد بلغوا القمة منذ عهد قريب لأن بعض
أمارات الشيخوخة قد بدأت تظهر على الأمة الغربية المتفوقة، ولكن أعمار
الأمم طويلة جداً بالقياس إلى أعمار الأفراد، ومن أجل ذلك قد لا يتسنى
لأحياء اليوم أ يشهدوا نهاية تفوق الغرب، غير أن الضعف بعد القوة واقع لا
محالة، فتلك سنة الله في الأرض ولن تجد لسنة الله تحويلاً.
[3] والعبارة الإنكليزية معبرة جداً لمن يحسنون الإنكليزية منكم: إننا نعتبر كثيراً من الأمور "taken for granted"، بغير حق.
[4] ولا يعني حديثي عن الإبداع بالذات أنه النتيجة الحسنة الوحيدة للنفسية المستكشفة، إذ يحضرني الآن أن هذه النفسية شرط مهم لعقول أوسع أفقاً ونفوس أكثر تفهماً وتقبلاً للآخرين، أقول هذا على سبيل المثال لا الحصر.