الرؤية بعين الله

خواطر من الكون المجاور.. الخاطرة 73 

من يعيش في دولة أوربية وخاصة في اليونان يرى بأن القسم اﻷكبر من نشرات اﻷخبار في الصحف والقنوات التلفزيونية تتكلم عن مشكلة النازحين القادمين من الدول الفقيرة أو التي تعاني من حروب أهلية أو إقتصادية ، حيث نجد بأن بعض الصحفيين يعتقدون بأن أزمة النازحين قد تصبح سببا في إنهيار اﻷتحاد اﻷوربي.

 قبل أن أتكلم عن مشكلة اللاجئين في اﻹتحاد اﻷوربي سأحاول أن أبحث في مضمون المشكلة بشكل مختلف نهائيا عن المنطق الذي يستخدمه اﻵخرون في معالجة وتوضيح أسباب المشكلة .

 إذا تمعنا جيدا في مفهوم كلمة (إله - الله) حسب كل ديانة سنرى أن جميعها تشترك على صفة واحدة وهي الخالق الذي خلق كل شيء ،ولكن بعد ذلك تبدأ ظهور الإختلافات بينهم في مفهوم هذه الكلمة حسب كل ديانة ، فمثلا في سفر التكوين نقرأ أن الله نزل على إبراهيم عليه الصلاة والسلام وتكلم معه وأنبأه عن ولادة إبنه إسحاق ،أما في القرآن في اﻵية 51 من سورة الحجر فنقرأ (ونبئهم عن ضيف إبراهيم ) ففي القرآن لا يقول عنه أنه الله ولكن ضيف إبراهيم، من هو ضيف إبراهيم ؟ للأسف لا يمكن اﻵن توضيح هذه الفكرة بسهولة بحيث يتقبلها الجميع والسبب أن كل ما نعرفه عن الدين تم تفسيره إعتمادا على منطق مادي سطحي لذلك بدلا من ان تصل جميع الديانات إلى مفهوم شامل للشيء من جميع زواياه كما وجب أن يحصل، نجدها قد إبتعدت عن بعضها أكثر فأكثر، لذلك كل ما نستطيع أن نقوله كبداية هو أن الله الذي خلق آدم وحواء وكل شيء هو خارج هذا الكون ﻷن طبيعة هذا الكون فقيرة وعاجزة عن إحتوائه داخله ،لذلك فإن مفهوم كلمة (الله) يأخذ معنى مختلف في كل جملة، فهي أحيانا تعبر عن الخالق الذي خلق كل شيء وأحيانا تعبر عن تلك القوة أو الروح العالمية الموجودة داخل الكون والتي مهمتها إعادة تركيب وتصحيح ذلك الخلل أو الخطأ الذي حدث في الجنة وأدى إلى طرد اﻹنسان من الجنة و دخوله إلى هذا السجن (الكون ) والذي بفضل هذه الروح العالمية حدث تطور الكون إلى أن وصل إلى شكله الحالي بكامل ما فيه من مادة جامدة وحية.لذلك حتى نستطيع فهم ما يحدث داخلنا وحولنا وفي كل مناطق هذا الكون لا بد أولا من فهم طبيعة هذه الروح العالمية.

 أهم معلومة يجب أن يؤمن بها اﻹنسان هي أنه هناك قوتان كونيتان في هذا الكون ، اﻷولى هي روح البناء العالمية (الخير) ، والثانية هي روح التدمير العالمية (السوء) . والصراع الذي يحدث بينهما في الحقيقة لا يحدث بين الله والشيطان كما يعتقد معظم الناس، ﻷنه من المستحيل أن ينشأ صراع بين خالق ومخلوق، فالمخلوق هو كائن ذو طبيعة مختلفة تماما عن طبيعة الخالق ، لذلك هذه الفكرة مرفوضة نهائيا ومن جميع النواحي، فالصراع الذي يحصل داخل الكون هو بين مخلوق ومخلوق،أي بين روح الشيطان من طرف و ذلك الجزء من روح الله الذي نفخه الله في آدم والذي بعد ذلك إنقسم إلى قسمين وشكل روح آدم وروح حواء. فهذه الروح وهي متحدة تشكل روح الله داخل هذا الكون الشاسع والذي عندما بدأ في تشكله عن طريق ظاهرة اﻹنفجار الكبير كان عبارة عن نقطة سوداء حجمها أصغر بكثير من ثقب اﻹبرة.

 المقصود من مصطلح (الله) كروح عالمية تكمن داخل هذا الكون، هو تلك القوى الكونية التي تقوم بعملية البناء عن طريق توحيد الجسيمات الصغيرة بشكل متناسق ومنسجم لتأخذ شكلا أرقى بحيث تستطيع هذه المركبات الجديدة اﻹتحاد ثانية مع بعضها البعض بشكل متناسق لتكوين أشكالا أرقى وأكثر تعقيدا بحيث يسمح لها اﻹتحاد مع بعضها البعض ثالثة ثم رابعة ثم خامسة...و .و..وهكذا حتى يصل هذا الاتحاد إلى شكل فائق التركيب والتعقيد بحيث تصل الروح في النهاية إلى مستوى يعبر عن معناها الحقيقي الذي بدأت به وهي تكوين روح خالقة ،أي ولادة اﻹنسان. ...فاﻹنسان هو في الحقيقة كائن مختلف كل اﻹختلاف عن الكائنات الحية اﻷخرى ﻷنه ليس مخلوق فقط ولكنه خالق أيضا فهو الكائن الوحيد الذي يحوي في روحه جزء من روح الله، هذه الروح هي التي خلقت العلوم والحضارات وجعلت من اﻹنسان كائن لا يمكن مقارنته بأي كائن آخر لوجود إختلاف كامل بطبيعة وماهية الروح بينهما، لذلك مع ولادة اﻹنسان ككائن حي (اﻹنسان الكروماني) قبل بضع آلاف السنين نجده يحول الحجارة ذات الشكل العشوائي إلى شكل أشياء ( تماثيل ) مشابهة لتلك اﻷشياء الحية مثل شكل إمرأة أو حصان أو بطة أو فيل.....فظهور هذا النوع من السلوك وﻷول مرة على سطح اﻷرض لم يكن صدفة ولكن كان تعبير روحي يدل على ظهور ذلك الجزء من روح الله في داخل هذا الكائن الحي الذي يدعى إنسان.

 أما مفهوم معنى مصطلح ( الشيطان) فهو تلك القوة العالمية التي تحاول عرقلة المخطط اﻹلهي في توحيد وتطور اﻷشياء وذلك عن طريق توحيد اﻷشياء بشكل عشوائي بحيث تجعلها لا تستطيع الاتحاد مع أي شيء آخر بسبب التناقض الكبير فيما بينها، وحسب القانون العام للكون فإن أي شيء لا يتجدد يموت لذلك تبدأ العملية العكسية في التطور لتلك المركبات التي لا تستطيع اﻹتحاد مع غيرها فتبدأ باﻹنقسام إلى عدة أقسام عشوائية وهذه اﻷقسام وبسبب عشوائيتها هي اﻷخرى لا تستطيع اﻹتحاد مع غيرها فتنقسم هي الآخر وهكذا إلى أن تصل إلى مستوى حيث الروح فيه تفقد كل ماديتها ثم تموت هي اﻷخرى. لذلك عندما أذكر في مقالاتي كلمة (شيطان) أو روح السوء العالمية وكذلك كلمة (الله) أو روح الخير العالمية أو المخطط اﻹلهي ، يجب أن لاينظر إليها القارئ كما ينظر إليها علماء الغرب وكأنها مصطلحات دينية خرافية من القرون الوسطى ولكن على انها مصطلحات فلسفية ذات معاني غنية جدا.

 إن جهة تطور اﻹنسانية أيضا يتوقف على هاتين القوتين العالميتين ( الخير والسوء ) ، ويمكن تشبيههما بطبيعة نمو الشجرة ، فكما هو معروف الشجرة لها قوتين تتحكمان في نمو الشجرة ، اﻷولى موجودة في قمة القسم الخضري والثانية في قمة القسم الجذري. قوى الخير العالمية تكمن في قمة القسم الخضري والذي يجعل الشجرة تنمو إلى اﻷعلى باحثة عن الضوء ، أما قوى السوء العالمية فهي تمثل قمة القسم الجذري والذي يجعل الشجرة تنمو نحو اﻷسفل داخل التربة باحثة عن الظلام.

 منذ ولادة اﻹنسانية كان فكر الكبار ( أي كبار العلماء وكبارالفنانين وكبار رجال الدين وكبار السياسيين ) ينتمي إلى قمة الجزء الخضري في شجرة اﻹنسانية ، ورغم أن الحضارات مع مرور الزمن كانت تدخل في مرحلة اﻹنحطاط ولكن مع ذلك كانت شجرة اﻹنسانية تتابع نموها نحو اﻷعلى بسبب إنتقال السيطرة على النمو من شعب إلى شعب آخر لتولد به حضارة جديدة تزيد في تكامل الحضارات السابقة ، والسبب هو أن اﻹنسانية تعمل دوما كوحدة متكاملة لذلك نجد ولادة حضارات متنوعة في مناطق مختلفة عبر تاريخ اﻹنسانية. أما اليوم فنجد وﻷول مرة في تاريخ البشرية ، دخول حضارة عصر النهضة في مرحلة اﻹنحطاط دون أن تظهر حضارة جديدة في إي منطقة أخرى ، حيث نجد وﻷول مرة في تاريخ البشرية أن فكر الكبار ( العلماء والفنانين والسياسيين ورجال الدين وأصحاب رؤوس اﻷموال) ينتمي إلى قمة القسم الجذري في شجرة اﻹنسانية ليجعل نموها يسير نحو اﻷسفل نحو الظلام ليجعل من الكرة اﻷرضية كرة مظلمة خالية من نور الله.

 مشكلة اﻹنسانية في العصر الحاضر هي أن المنهج العلمي الحديث فرض على اﻹنسان نموذج محدد يجب أن يتبعه سواء شاء أو أبى ، وهذا النموذج نفسه يدفع اﻹنسان دون أن يدري إلى اﻹنضمام إلى قوى السوء العالمية ليزيد من سرعة إنهيار النظام العالمي الذي حاولت اﻹنسانية تأسيسه عبر آلاف السنين.

 لتوضيح هذه الفكرة سنعطي مثالا بسيطا على ذلك : مشكلة اﻹغتصاب تعتبر من المشاكل التي تعاني منها الكثير من النساء في مختلف بلدان العالم ، وهناك مئات اﻷفلام السينمائية التي تطرقت لهذه المشكلة ولكن نجد أن هذه اﻷفلام بدلا من أن تساهم في حل مشكلة اﻹغتصاب نراها قد ساعدت على تقويتها، والسبب هو أن كاتب قصة الفيلم نظر إلى المشكلة بعين المغتصب وليس بعين الضحية ، والشيء نفسه أيضا تم إخراج الفيلم و التمثيل والموسيقى التصويرية والديكور ، فنجد أن المخرج بدلا من أن يختار ممثلة لها ملامح تعبر عن ملامح إمرأة ستصبح يوما ما أم مليئة بالعواطف الدافئة من حنان وطيبة وبراءة تجعل من المشاهد ( الرجل ) يشعر نحوها بشيء من الرأفة والعطف واﻷحترام ، نجده يختار إمرأة مثيرة أشبه بالغانية، وفي مقطع اﻹغتصاب نجده يعرض مفاتنها بطريقة مثيرة جنسيا تجعل المشاهد( الرجل ) ينسى عذاب المرأة المغتصبة ويتذكر فقط تلك المتعة الجنسية التي عاشها المغتصب في تلك اللحظات ، لذلك نجد أن عدد المغتصبين بدلا من أن يقل مع إزدياد عدد هذه اﻷفلام نرى إزدياد حالات الإغتصاب يوما بعد يوم.

 ما يحصل في أفلام اﻹغتصاب ،يحصل في جميع الأفلام والمسلسلات واﻷغاني والبرامج التلفزيونية ،وكذلك في نشرات اﻷخبار في التلفزيون والصحف ، وكذلك طريقة كتابة المعلومات في كتب المدارس ، حتى علماء العلوم المادية هم أنفسهم أيضا اليوم ينظرون إلى المادة بعين شيطان ، وهناك قسيسين يلقون موعظة صلاة يوم اﻷحد في الكنائس بعين شيطان ، هناك شيوخ يلقون خطبة صلاة الجمعة في المساجد بعين شيطان.

 للأسف كبار اليوم معظمهم ينظرون حولهم بعين شيطان بعضهم يعلمون تماما ما يفعلون والبعض اﻵخر يظنون أنهم يساهمون في حل المشاكل التي تعاني منها اﻹنسانية ولكن بدلا من حلها نجد أنه قد حدث العكس مثلما يحدث تماما في أفلام اﻹغتصاب . لذلك من الطبيعي أن يسير كل شيء من السيء إلى اﻷسوأ.

 اليوم بهذه العين - عين الشيطان - يحاولون أيضا حل مشكلة اﻷزمة السورية التي بدأت منذ خمس سنوات ولا تزال اﻷمور تسير من السيء إلى اﻷسوأ ،ورغم محاولات الدول العظمى لحل المشكلة نجد أن المشكلة بسبب مئات آلاف النازحين قد إنتقلت لتخلق مشاكل في مناطق عديدة ،حيث نجد دول البلقان تهدد بإغلاق حدودها مع اليونان بسبب كثرة اللاجئين الذين يعبرون بلادهم عن طريق اليونان بهدف الوصول إلى دول أوربا الشمالية ( ألمانيا ، سويد، نرويج. ...) حيث كل شخص يريد الهجرة إلى دول أوربا الشمالية نجده بمجرد دخوله اليونان يمزق جواز سفره ويدعي بأنه سوري ، وهذا ما جعل اﻷمور تتعقد جدا ، خاصة بسبب خوف هذه الحكومات وسكان هذه البلدان من إحتمال وجود إرهابيين من ضمن هؤلاء النازحين. وهذا ما جعل كل دولة تتهم الدولة اﻷخرى لهذا الحشد الكبير من المهاجرين الذين يعبرون بلادهم، دول البلقان راحت تتهم اليونان واليونان تتهم تركيا وتركيا تتهم سوريا وفي داخل سوريا كل طرف من اﻷطراف المتنازعة يتهم الطرف اﻷخر ، فوضى تسيطر على الجميع ، حيث نجد المفوض الأوربي المسؤول عن شؤون الهجرة ديمتريس أفراموبولوس يحذر في اجتماع وزراء الداخلية لدول أعضاء اﻹتحاد اﻷوربي بأنه إذا لم يتم إيجاد حل يحقق نتائج إيجابية لهذه المشكلة خلال العشر أيام القادمة فهناك إحتمال إنهيار النظام بأكمله. فللأسف سيطرة الرؤية الشيطانية على الوضع العام جعل كل دولة في اﻹتحاد اﻷوربي تنظر فقط إلى مصلحتها الخاصة ، ولا يهمها شيء آخر، فكثير من سكان دول البلقان بعد دخولهم في اﻹتحاد اﻷوربي هم أنفسهم يحاولون الهجرة إلى بلدان أوربا الشمالية للعمل هناك لذلك فهم ينظرون إلى النازحين وكأنهم يأخذون عملهم في تلك البلدان ،لهذا السبب وﻷسباب عديدة أخرى نجد إنقسام دول اﻹتحاد اﻷوربي إلى مجموعات كل مجموعة لها رأي يعارض رأي المجموعات اﻷخرى.

 في هذا الوضع العشوائي الذي تتحكم به روح السوء العالمية ، نجد أن اﻷطفال، هذه الكائنات البريئة الضعيفة التي عقولها لا تزال غير نامية لتستطيع أن تستوعب حقيقة ما يحدث، نجد كل طفل يحمل على ظهره حاجاته ليسير يوميا عشرات الكيلومترات سيرا على اﻷقدام لينام في العراء تحت المطر والبرد بسبب إغلاق حدود الدولة المجاورة ، ينتظر من المنظمات اﻹنسانية أن تأتي له بلقمة خبز يأكلها لتمده بالقوة ليتابع طريقه إلى أين ؟ لا يعلم......فشيء واحد يرى أنه يجب أن يفعله هو أن يتابع سيره مع أهله.

 حسب إحصائيات جهاز الشرطة في اﻹتحاد اﻷوربي ( اليوروبول ) هناك أكثر من 10 آلاف طفل لاجئ لا يرفقهم ذووهم، اختفوا بعد دخولهم في أوربا.

 يوميا تقريبا نشرات اﻷخبار اليونانية تذكر حادثة غرق نازحين في بحر إيجة كثير منهم أطفال ﻷنهم لا يعرفون السباحة وأجسادهم الضعيفة لا تستطيع تحمل ظروف مياه بحر إيجة الباردة في الشتاء.

 اليوم أصبحت الرؤية بعين الشيطان هي التي تسيطر على مجرى اﻷحداث حيث أن الظروف تجعل من كل إنسان يفكر في نفسه فقط ولديه حسب رأيه حجج قوية تبرر سلوكه ، ولكن هؤلاء اﻷطفال الذين لا حول لهم ولا قوة، هل هناك قوة إنسانية تفكر بشكل فعلي وليس شكلي في مصلحتهم ليصبحوا في المستقبل أفراد نافعين للمجتمع ؟ من يتمعن جيدا فيما يحدث عالميا سيؤمن تماما بأن هؤلاء اﻷطفال وبعد خمسة آلاف عام من تطور حضاري ، اليوم ليس لهم من نصير في المجتمعات اﻹنسانية. وكأن كل تلك المعارف التي إكتسبتها اﻹنسانية في تطورها عبر آلاف السنين أصبح اﻹنسان يستخدمها ضد اﻹنسانية نفسها.

 ولكن الله موجود وهو يمهل ولا يهمل. وإن مخططه سيسير كما يشاء هو، هو فقط بإذن الله.

وسوم: العدد 657