خواطر من الكون المجاور.. الخاطرة 83 : سوريا الرمز

عندما نشرت مقالة الأسبوع الماضي أخبرني أحد اﻷصدقاء أن الوضع في حلب سيء جدا وأنه هناك مئات القتلى والجرحى وأن مستشفيات وجوامع وكنائس وأبنية كثيرة قد تدمرت نتيجة القذائف الغزيرة التي سقطت بشكل عشوائي في جميع أنحاء مناطق المدينة. وهكذا شاءت الظروف أن تجعلني لا أسمع شيئا عن تلك اﻷحداث التي كانت تعيشها حلب في تلك اﻷيام على الرغم من أني كنت أتابع نشرات اﻷخبار المسائية التي تعرض في محطات التلفزيون اليوناني فطوال أيام اﻷسبوع لم أرى أية قناة تلفزيونية تذكر شيئا عما يجري من دمار ومجازر في حلب. ولم يسألني أي أحد من معارفي في اليونان عما يجري في حلب وكأن الجميع لم يسمع شيئًا يتعلق بأحداث حلب. 

 ما أريد أن أشير إليه هو أن ما حدث معي في أيام ذلك الأسبوع يحدث اﻵن مع معظم سكان العالم حيث أن موضوع مآساة حلب وأهاليها أو بشكل عام موضوع مأساة سوريا وشعبها لم يعد يتكلم عنها أحد وكأنها أصبحت ظاهرة عادية لا تجذب إنتباه الآخرين ، وكما هو معروف اليوم فكل شيء لا يجذب إنتباه الناس لا مكان له في وسائل اﻹعلام.

 من يركز جيدا في نشرات وسائل اﻹعلام التي يملكها كل طرف من اﻷطراف المتنازعة في داخل سوريا أو على المستوى العالمي سيجد أنه يتهم اﻵخر بالوحشية ، وبأن الطرف اﻷخر لديه خطة خبيثة في سوريا، بينما هم أصحاب الحق وأنهم يقاتلون ويناضلون من أجل مصلحة الشعب السوري، وللأسف اﻹثباتات التي يأتي بها كل طرف كافية تماما ﻹقناع أتباعه إقناعا تاما بأنه على حق وأنه سينتصر أخيرا ليحرر سوريا من أولئك الذين يريدون تدميرها والقضاء على شعبها. وللأسف رغم مرور أكثر من خمسة أعوام على اﻷزمة السورية نجد أن اﻷمور لا تزال تسير من السيء إلى الأسوأ والسلوك الوحشي يزداد في جميع اﻷطراف. فمعظم الشعب السوري أصبح متشردا سواء في داخل سوريا أو خارجها ، عدد الضحايا وصل إلى مئات الآلاف، 70% من المنازل واﻷبنية قد تم تدميرها ، 70% من المدارس و المراكز الصحية لم تعد صالحة لتقوم بدورها. سوريا اليوم وبفضل علاقة العداوة والبغضاء بين اﻷطراف المتنازعة أصبحت دولة تعاني من لعنة شيطانية ﻷن جميع هذه اﻷطراف يستخدمون كلمة ( الله ) في تبرير سلوكهم ، رغم أن سلوكهم جميعا معاكس تماما لتعاليم جميع الديانات ، فما هو الغرض من تدمير المدارس مثلا؟ ..وما هو الغرض من تدمير المستشفيات ؟ .... وما هو الغرض من تدمير اﻷماكن اﻷثرية التي تتحدث عن الحضارات التي مرت فيها هذه البلاد عبر تاريخها العريق ؟ ما هو الغرض من تدمير الجوامع والكنائس ؟ ما هو الغرض من قتل اﻷطفال ؟...لا شيء سوى زيادة الدمار ، فللأسف اليوم أصبحت جميع اﻷطراف تعتمد سياسة اﻷرض المحروقة ، لذلك تحولت حلب اليوم إلى مدينة نسبة الدمار فيها وصل إلى أكثر من 80% من مناطقها ، حيث منظمة اليونسكو تعتبرها اليوم بأنها ثاني مدينة بعد هيروشيما في تاريخ البشرية من حيث حجم الدمار الذي أصابها خلال هذه الخمس السنوات.

 من يتابع أخبار أوضاع اﻷزمة في سوريا جيدا يجد أن وحشية اﻷطراف المتنازعة تصل إلى قمتها في الأيام الدينية المقدسة ، وكأن بسلوكهم هذا يريدون من أهالي سوريا أن يلعنوا هذه اﻷيام وهذه اﻷعياد الدينية ، بمعنى آخر وكأنهم يجبرون الشعب السوري بأن يحقد على كل شيء له علاقة بالدين واﻹيمان. قبل أسبوعين مثلا كان ( اﻷسبوع الكبير ) آخر أسبوع من الصيام والذي أيامه تعتبر من أقدس أيام العام في المذهب المسيحي الأورثوذوكسي حيث في نهايته يأتي عيد الفصح المجيد ، ولﻷسف بدلا أن تكون أيام هذا اﻷسبوع المقدس ايام محبة وسلام وتسامح كانت بالنسبة لأهالي حلب أيام قتل وإنتقام وحشي ورعب ودمار وإنتهاك جميع حقوق اﻹنسان. 

 من يتمعن بعمق في حقيقة ما يحدث في مدينة حلب ، سيشعر وكأن الشيطان نفسه يثأر من هذه البلاد التي تعتبر بلاد مقدسة ﻷنها بلاد اﻷنبياء ، وكأن الشيطان نفسه يقول لجميع سكان العالم " كتبكم المقدسة تذكر أن ربكم أرسل ملائكته و دمروا سدوم وعمورة وأنا أيضا أملك هذه القوة و أستطيع تدمير بلاد اﻷنبياء "، والمؤسف هنا أن جميع اﻷطراف داخل سوريا وخارجها أصبحوا جنودا لهذا الشيطان ليحققوا أهدافه في تدمير مدن سوريا وخاصة حلب وهؤلاء جميعا اليوم يقومون بواجبهم الشيطاني على أكمل وجه . 

 للأسف حتى اﻵن يبدو أن جميع الكبار عالميا وهنا لا أقصد فقط كبار رجال السياسة ولكن كل إنسان له دور وله كلمة تؤثر على مجرى اﻷحداث في سوريا سواء كان محلل سياسي أو صحفي أو عالم دين أو فنان . .إلخ.، جميع هؤلاء حتى اﻵن لم يفهموا البعد الروحي لما يحدث في سوريا ، ﻷنهم ينظرون إليها نظرة مادية لا تستطيع توحيدها مع ما يحدث في مناطق أخرى في العالم.

 حتى نستطيع فهم البعد الروحي لما يحدث في سوريا يجب دمجها مع ما يحدث في اليونان ، فبلاد اليونان ولدت فيها الحضارة اﻹغريقية والتي لعبت دورا كبيرا في تطور العلوم المادية ، اليوم نجد أن هذه البلاد قد أصبحت على المستوى العالمي رمزا للدمار اﻹقتصادي. والدمار اﻹقتصادي الذي تعيشه اليونان اليوم يعني بمعناه الرمزي فشل جميع العلوم المادية (كما وصلت إليها اﻵن) في تحقيق الحاجات المادية للإنسانية.

 أما سوريا فهي البلاد التي ولد فيها اﻷنبياء فهي رمز ولادة العلوم الروحية ، ولكن اليوم تحولت هذه البلاد على المستوى العالمي رمزا لفشل العلوم الروحية والديانات (كما وصلت إليها اﻵن) في تحقيق الحاجات الروحية للإنسانية.

 لا يمكن فصل اﻷزمة السورية عن اﻷزمة اليونانية ﻷن كلاهما معا تشكلان الرمز المعاكس لسدوم وعمورة وتعبران تماما عن حقيقة القاعدة الفكرية في العصر الحديث ، فالقاعدة الفكرية التي يعتمدها اﻹنسان المعاصر هي قاعدة هشة هدفها تدمير الضمير واﻷخلاق والقيم السامية وإذا استمرت هذه القاعدة الفكرية على ما هي عليه بدون تصحيح فإنها ستدفع باﻹنسانية في المستقبل القريب إلى الدمار الكامل كما يحدث في اليونان وسوريا. حيث جميع اﻷطراف المتناقضة تعتقد أن سلوكها هي الصحيح وأنها هي فقط على حق رغم أن كل شيء حولها يسير من السيء إلى الأسوأ وبإستمرار نحو الدمار الكامل.

 قبل فترة أحد قراء صفحة عين الروح أرسل لي رسالة خاصة ليعبر عن إعجابه بمقالات ( خواطر من الكون المجاور) وفي هذه الرسالة سألني ( من أنصار من أنت؟ ) وقصده أي طرف أُؤيِّدُ من اﻷطراف المتنازعة في سوريا. ..جيش النظام. ..جيش الحر. ... داعش...وغيرهم. ... فأجبته ( أنا من أنصار جميع أطفال العالم بغض النظر عن عرقهم أو دينهم أو لغتهم ) ..هؤلاء الكائنات البريئة التي ولدت وفي داخلها جزء من روح الله والتي ليس لها ذنب ولا علم بما يحدث حولها. .هذه الكائنات البريئة من حقها أن تنمو في بيئة يسودها المحبة والسلام لتستطيع أن تنظر إلى شعوب العالم على أن جميعها تنتمي إلى عائلة واحدة تسمى ( اﻹنسانية ) لتتابع تطهير الروح الإنسانية من جميع الشوائب الشيطانية لتصل إلى الكمال المطلق.

 حق هؤلاء اﻷطفال فوق جميع حقوق الكبار وحقهم في الشعور باﻹنتماء إلى العائلة اﻹنسانية فوق جميع اﻹنتماءات اﻷخرى العرقية والدينية والسياسية . .. وتحقيق حق اﻷطفال هذا يقع على عاتق كل كبير يحترم نفسه ودينه وعرقه .

 أقول هذه الكلمات رغم أني أعلم تماما بأن كلامي لن يصل إلى آذان المسؤولين عن اﻷزمة ﻷن كثير منهم اليوم لا يسمع سوى صوت نفسه فقط ، ولا يعطي أي أهمية لتلك اﻵراء المعارضة ﻵرائه. ولكن مهما حاولت القوى الشيطانية العالمية فإن سوريا واليونان لن تتحولا إلى سدوم وعمورة ﻷن الله موجود وسنته ستسير كما يريد هو وليس أحد غيره بإذن الله. فصبرا يا أطفال سوريا ﻷن الله يمهل ولا يهمل والعدالة اﻹلهية هي التي دوما تنتصر في نهاية الحرب.

وسوم: العدد 667