خواطر من الكون المجاور..الخاطرة 90 : شيء عن الضمير
تناقلت وسائل اﻹعلام اليوناني هذه اﻷيام خبر وفاة الممثلة اليونانية ( يورغيا أبوستولو Gewrgia Apostolou) عن عمر يناهز 43 عاما ، وما دفعني للكتابة عن هذه الممثلة - رحمها الله- في مقالة اليوم هو أنني قبل شهر رمضان بأيام قليلة كنت أفكر أن أكتب عن هذه الممثلة ولكن قدوم شهر رمضان وكذلك بسبب عدم تذكري إسمها جعلني أؤجل الموضوع ﻷكتب بدلا منه مقالة مناسبة لشهر رمضان المبارك فكانت المقالة عن فلسفة صيام رمضان ، ولكن هكذا شاءت اﻷقدار أن أرى في هذه اﻷيام معظم وسائل اﻹعلام اليونانية تتكلم عن هذه الممثلة لذلك رأيت أنه من المناسب جدا أن يكون موضوع مقالة اليوم يشرح بعض اﻷشياء عن حياة هذه المرأة التي وللأسف لم تتطرق لها أي من وسائل الاعلام ليعلم الناس حقيقة طبيعة هذه المرأة وحقيقة ما كان يحدث في عالمها الروحي .
قبل حوالي 15 عشر سنة رأيت هذه الممثلة في شاشات التلفزيون وهي تلعب أدوار البطولة في المسلسلات. كانت فتاة جميلة إلى درجة أنها تصلح أن تكون عارضة أزياء كذلك، ولكن بالنسبة لي كان هناك شيء آخر جذب إنتباهي في هذه الفتاة وهو تعارض نوعية الشخصيات التي تلعبها في المسلسلات مع نوعية ملامح وجهها ، فكانت أدوارها بشكل عام فتاة لعوب تبحث عن العشق الجسدي ولكن ملامح وجهها كانت مناقضة تماما مع هذه اﻷدوار السلبية فملامح وجهها كانت تدل على البراءة والطهارة. فمثل هذه الفتاة حسب إحساسي كانت تصلح لتؤدي أدوار الفتاة المثالية التي تجابه مشاكل المجتمع الحديث المملوء بالفساد والأنانية وتحقيق الشهوات وليس المشاركة بهذه السلبيات وكأنها هي سبب كل هذه الصفات المنحطة في المجتمع ، هذا التناقض بين شكل الفتاة وأدوراها كان يجعلني أتساءل لماذا المخرجون أو منتجي المسلسلات يختارون هذه الفتاة بالذات لتلعب تلك اﻷدوار المناقضة لتعابير وجهها ؟ لماذا لا يكتبون سيناريو يحمل موضوع يناسب براءة ملامحها ؟
مثل هذا النوع من اﻷخطاء اعتقد بأنها في عصرنا الحاضر لا تحدث عن عبث ولكن عن خطة مقصودة ولها هدف محدد وهو محاولة تدنيس معاني الطهارة والبراءة في مخيلة الشباب لتجعل الرجل وهو ينظر إلى المرأة لا يشعر نهائيا بتلك الروح التي تكمن في داخلها والتي تجاهد بقوة للمحافظة على طهارتها ، فهذه الخطة الخبيثة هدفها أن تجعل الرجل يرى المرأة كجسد وكجسد فقط لتحرك داخله الغرائز الحيوانية بأبشع صورها، تماما كما حصل مع الممثلة اﻷمريكية مارلين مونرو والتي كانت هي أيضا من هذا النوع النساء ولكن المنتجين والمخرجين في ذلك الوقت إستغلوا ضعفها وأجبروها ان تصبح نجمة اﻹغراء رغم أن ملامح وجهها ونبرة صوتها كانت لا تصلح لهذه الأدوار نهائيا فكانت نتيجة هذا التناقض الروحي في داخلها ....الإنتحار.
في عام 2005 سمعت في وسائل اﻹعلام أن الممثلة ( جورجيا أبوستولو ) تعتزل فجأة التمثيل وتهجر جميع ملذات الحياة وتذهب إلى الدير لتتابع حياتها هناك كراهبة. طبعا هذا الخبر وقع كالقنبلة في المجتمع الفني ، فحسب منطق هذا المجتمع أن الفنان يقوم بمثل هذا العمل عندما يشعر بالفشل فليس من المعقول أن تعتزل هذه الفتاة الفن وهي في قمة مجدها ففي تلك الفترة كان عشرات المخرجين والمنتجين يركضون وراءها للتعاقد معها لتلعب دور البطولة في مسلسل جديد أو مسرحية جديدة. ولكن يبدو أن جميع أقذار المجتمع الفني كما وصل إليه اليوم لم تستطع أن تمسح من روح تلك الفتاة ذلك الجزء الطاهر الذي كان يعطي وجهها تلك البراءة ، وهكذا فجأة إنتصر هذه الجزء من روحها على جميع مغريات الحياة ليجعلها تستيقظ من سكرتها فجأة لترى تلك القذارة من حولها على كامل حقيقتها ، فرأت أن الحل الوحيد هو أن تبتعد وتتوجه إلى الله عز وجل ليتوب عليها و لتبدأ حياة جديدة نظيفة .
اﻹنقلاب الجذري الذي حصل في حياة هذه الفتاة لم يأتي صدفة طبعا ، ولكن القدر نفسه أيضا لعب دوره ، ففي تلك الفترة توفي شريك حياتها فجأة وهو نائم ، هذه الحادثة كان لها تأثير كبير على مجرى حياتها وهي التي جعلتها تستيقظ وتتخذ قرار إعتزال الفن ، ولكن شدة تأثر هذه الفتاة بوفاة شريك حياتها يدل على مدى صدق حبها له. ويدل أيضا على مدى سمو عواطفها النبيلة ، فاﻹنسان المادي قد يحزن ويتأثر على وفاة شريك حياته ولكن بسبب الإنحطاط الروحي الذي يعيشه سرعان ما ينسى أحزانه ويتابع حياته من جديد بدون أن يغير شيء من إعتقاداته.
الممثلة ( جورجيا ابوستولو ) بقيت في الدير بضع سنوات ولكن بسبب إلحاح أهلها لتترك الرهبنة عادت إلى بيتها لتبدأ حياتها الجديدة في مساعدة الفقراء والمحتاجين بعيدا نهائيا عن المجتمع الفني وأضواء وسائل اﻹعلام . وشاءت اﻷقدار أن تفارق الحياة هي أيضا بشكل فجائي كما حصل مع شريك حياتها وهي في 43 من عمرها.
هناك حالة أخرى أيضا مشابهة ، حيث ممثلة يونانية شابة جميلة ( ناتاليا ليوناكي ) منذ بداية ظهورها على الشاشة وبسبب جمالها وموهبتها راحت تنهال عليها عقود العمل في المسلسلات والمسرحيات ، ولكن هي أيضا رأت نفسها مجبرة لتلعب أدوارا مخلة بالأخلاق بعيدة جدا عن طموحاتها ، فشعرت شيئا فشيء وكأن أدوارها في المسلسلات تريد أن تمحي من داخلها كل شيء طاهر ومقدس ويبدو أن ضميرها كان يقلقها بإستمرار على نوعية اﻷعمال التي تشارك بها وبعد سنوات قليلة في عام 2009 وهي في قمة مجدها بعمر 32 عام ، فجأة هجرت كل ملذات الحياة ودخلت الدير لتعيش هناك كراهبة ، وبقيت عدة سنوات في الدير ولكن بناء على توسلات إمها تركت الرهبنة وعادت لتعيش مع أمها ولتشارك في اﻷعمال الخيرية بعيدا نهائيا عن أضواء الفن والمجتمع الفني .
ممثلة أخرى تدعى (الكساندرياني سيكيليانو ) هي أيضا في قمة مجدها ولنفس اﻷسباب في عام 2011 تركت العمل فجأة في الاستوديوهات وهاجرت بدون أن تخبر أحد إلى القدس لتعيش هناك في دير الراهبات لتقدم خدماتها للحجاج المسيحيين.
للأسف غياب الفلاسفة في عصرنا الحاضر وكذلك تحول مادة الفلسفة إلى نشاط فكري عشوائي ليس له علاقة لا من قريب ولا من بعيد بعلوم الفلسفة الحقيقية والتي دورها دراسة اﻷشياء واﻷحداث من جميع زواياه لتصل إلى مضمون هذه اﻷشياء واﻷحداث، نتيجة ذلك أدى إلى تحول الفن إلى شيء عشوائي بدون تعريف واضح فسمحت الظروف لكل معقد نفسي أو محتال أو دجال أو مهووس جنسيا بأن يمسك الريشة أو القلم أو اﻵلة الموسيقية أو عدسة التصوير ليقوم بالسرقة من أعمال فنية أخرى مجهولة في بلده ليعدلها ويضيف إليها جزء من روحه القذرة ليعمل منها عمل فني - أغنية أو لوحة أو قصيدة أو فيلم سينمائي. .. - يعبر فيها عن مستوى روحه المنحطة ، هذه الحرية المطلقة في التعبير جعلت الفن الحديث بجميع أنواعه يخرج من إطاره الحضاري ليتحول إلى بؤرة من الفساد ،فجميع مواضيع اﻷعمال الفنية الحديثة اليوم تعتمد على صفتين فقط عنف وجنس، وللأسف الظروف اليوم تحاول أن تفرض على الشباب وخاصة الفتيات أن يعتقدن أن العمل في السينما يحتاج منهن التضحية بكل ما له علاقة بالشرف والطهارة ، وأن الفن الحديث أرقى من تلك الكلمات الساذجة ،طهارة ،شرف ، أخلاق....
في المجتمعات الغربية الظروف فرضت على الممثلات منذ بداية دخولهم العمل في تقبل جميع اﻷدوار وأن كل ما تفعله الفتاة أمام الكميرا هو فن ، لذلك معظم الفتيات لا يجدن في البداية أي مانع لقبول كل ما يعرض عليهن حتى ولو كانت اللقطات تخل باﻵداب واﻷخلاق ، فيجدن أنفسهن يعملن بدون أي إحساس بالذنب ﻷن ما يفعلنه هو فن ، ولكن بعد فترة ينمو في داخلهن الشعور بالتناقض فيبدأ عندها تأنيب الضمير ، فتأتي عندها ردة الفعل ، قد تكون ردة الفعل هذه سلبية أو إيجابية ، فبعض الفتيات يهجرن الفن كما رأينا مع الفتيات اللواتي تحدثنا عنهن أعلاه. ولكن بعضهن قد يتجه إلى الخمر أو المخدرات كطريقة لمنع الشعور بتأنيب الضمير، وكثير منهن يصلن إلى حالات اﻹنتحار كما حصل مع مارلين مونرو . للأسف وسائل اﻹعلام لا تذكر بعمق مثل هذه النتائج الوخيمة التي تحصل في مجتمع الفن ولكن دوما تحاول أن تظهره وكأنه جنة من السعادة والمجد والمال والنجاح.
والسؤال هنا إلى متى يمكن أن يبقى ضمير اﻹنسان حيا ليعاتب صاحبه على أخطائه ؟ فللأسف فإن عملية غسيل الدماغ التي تحصل للإنسان منذ ولادته تقوى يوما بعد يوم وإذا لم يتم إيقاف هذا الدجل الذي يحصل على جميع أنواع النشاطات الفكرية في اﻹنسان ربما سنصل إلى يوم سيتم فيه قتل ضمير اﻹنسان في مرحلة مبكرة جدا أي قبل أن يعرف أو يشعر اﻹنسان بوجود شيء إسمه...الضمير
ولكن مهما يكن فالله موجود وهو يمهل ولا يهمل وإن يوم الفرج لناظره لقريب بإذن الله
وسوم: العدد 674