خواطر من الكون المجاور.. الخاطرة 94 : حقيقة طوفان نوح الجزء 2
قبل أن أشرح رموز قصة طوفان نوح عليه الصلاة والسلام ، أريد أن أشرح مبدأ هام من مبادئ تصميم القرآن الكريم ، فمن يقارن بين طبيعة سرد المواضيع في الكتب المقدسة سيجد أن القرآن الكريم يذكر وبصورة مختصرة أحداث قليلة جدا من سيرة حياة كل نبي ، لذلك عندما حاول علماء الدين اﻹسلامي كتابة قصة حياة كل نبي إضطروا إلى اﻹستعانة بقصص اﻷنبياء كما هي مذكورة في الكتب المقدسة في الديانتين اليهودية والمسيحية ، فذهب كل عالم وأخذ ما يراه هو مناسبا من تلك الكتب ،
لذلك إذا أخذنا جميع اﻷحداث التي ذكرها جميع علماء المسلمين عن قصة كل نبي ووضعناه في قصة واحدة سنجد أن قصة النبي تشابه كثيرا قصة النبي كما هي مذكورة في الكتب المقدسة اليهودية والمسيحية ( طبعا مع فروق بسيطة ) ، وللأسف بدلا من أن يذكر العالم المسلم المصدر الذي أخذ منه تلك اﻷحداث التي ذكرها في نسخته ، نراه يكتب العبارة المعروفة ( ويقال أن. ...) من هو القائل هنا غير معروف ولكن من يقرأ قصص اﻷنبياء في الكتب المقدسة اﻷخرى سيعلم بأن القائل هنا هي هذه الكتب المقدسة والتي لا يؤمن بها أولئك العلماء المسلمون بصحتها.
القرآن الكريم لم يذكر قصص اﻷنبياء بشكل مفصل لسبب واحد وهو ﻷن هذه القصص مذكورة وبشكل مفصل في الكتب المقدسة اﻷخرى ، ولكن حتى نفهم جوهر قصة كل نبي يجب علينا فهم تلك الرموز التي يستخدمها القرآن الكريم أثناء ذكر مقاطع من حياة اﻷنبياء ، فقصص اﻷنبياء ليست قصص إجتماعية بسيطة ، ولكن قصص تساهم في توضيح تطور الكون والحياة على سطح اﻷرض ، لذلك تعتبر الرموز المستخدمة في هذه القصص أهم من اﻷحداث نفسها ﻷن رؤية اﻷحداث فقط سيجعل منها قصص بسيطة لا تستطيع الصمود أمام التقدم العلمي الذي يحصل مع مرور الأجيال ﻷن معانيها ستبقى ثابتة بدون تجديد وتصبح في النهاية فقيرة في معانيها .
من هذه القصص التي قصدناها هي قصة طوفان نوح ، فكثير من العلماء المسلمين لا يعترفون بصحة هذه القصة كما هي مذكورة في سفر التكوين ، ﻷنها تذكر تفاصيل كثيرة عن أبعاد السفينة وعن تواريخ حدوث هذا الطوفان ، فهم يعترفون بها فقط كما هي مذكورة في القرآن الكريم ، ولكن القرآن الكريم لا يذكر شيئا يمكن أن يساعد العلماء في البحث عن حقيقة هذا الطوفان ، فحجم السفينة غير معروف ، حتى يتأكد الباحث إذا كان حقا هذه السفينة تتسع لجميع الحيوانات التي حملتهم داخلها ام لا ، وكذلك لا يذكر أي تاريخ ليتأكد الباحث عبر معلومات علم الجيولوجيا وعلم الحياة إذا كان فعلا قد حدث مثل هذا النوع من الطوفان أم لا ، لذلك فإذا إعتمدنا فقط على معلومات القرآن الكريم عندها ستتحول قصة طوفان نوح إلى قصة أدبية غير واقعية ﻷنها لا تسمح للعلماء بالقيام بأي نوع من المقارنات بين أحداث هذه القصة وعلاقتها بالواقع التاريخي والجيولوجي والحيوي على سطح اﻷرض. وهنا نتساءل هل من المعقول أن يتم تصميم القرآن بهذا الشكل الذي يفصل قصص اﻷنبياء عن جميع الأبحاث العلمية ؟ الجواب طبعا لا ولكن كما ذكرنا أعلاه القرآن يذكر بعض المقتطفات من القصة ولا يذكر اي تفاصيل عنها ﻷن تفاصيل اﻷحداث مذكورة في سفر التكوين ولا يوجد أي داعي لذكرها مرة أخرى ، لذلك نجد القرآن الكريم قد ذكر رقم له علاقة بقصة نوح وهو ( فلبث فيهم 1000 سنة إلا 50 عام ) أي 950 سنة وهذا الرقم نفسه مذكور في سفر التكوين ( فكانت كل أيام نوح 950 سنة ومات ) بهذه الطريقة يؤكد القرآن الكريم على صحة ما تم ذكره في قصة نوح في سفر التكوين. القرآن الكريم ذكر إثبات آخر ولكن بشكل لا يراه إلا من يعلم بعض مبادئ تصميمه ، فكما ذكرنا في مقالات سابقة بأن القرآن الكريم هو عبارة عن كتابين في كتاب واحد ،حيث الكتاب اﻷول يضم جميع السور التي تبدأ آياتها بشكل مفهوم ، أما الكتاب الثاني فهو يضم السور التي تبدأ بأحرف غامضة مثل ( ألم ، المص ، الر ، المر ، كهيعص، طه ،حم ،...) ، سورة نوح موجودة في الكتاب اﻷول والذي يبدأ بسورة الفاتحة ، إذا حسبنا عدد اﻵيات من بداية القرآن ( سورة الفاتحة ) وحتى آخر آية من سورة نوح سنجد مجموع اﻵيات يعادل 2705 وهو عام ولادة نوح قبل الميلاد كما تذكره الأرقام الموجودة في التوراة. قد يظن ويصر البعض على أن توافق اﻷرقام قد حدث بالصدفة ولكن لنذهب إلى الكتاب الثاني إلى سورة يوسف ، فحسب أرقام التوراة فإن عام تعيين يوسف كوزير لملك مصر هو عام 1533 قبل الميلاد ، فإذا حسبنا عدد الآيات من بداية ( سورة البقرة ) وحتى اﻵية اﻷخيرة من سورة يوسف سنجد أنها تعادل 1035 وإذا حسبنا مجموع القيم الحرفية لعناوين السور سنجد أنها تعادل 477 ، أما مجموع تراتيب السور فهو 21.
الخلاصة : الأرقام المذكورة في التوراة موجودة أيضا في القرآن ولكن بشكل آخر لتكون علامة لها معنى بأن هذه اﻷرقام هي أرقام رمزية لها معنى يختلف عن معناها الحرفي ، فمثلا حسب الرموز التي تتعلق بالنبي يوسف المذكورة في التوراة والقرآن الكريم فإن عام ولادة يوسف هو عام 3024 قبل الميلاد وليس عام 1564 كما تم حسابها من قبل علماء الدين اليهودي والمسيحي حيث نظروا إلى اﻷرقام المذكورة في التوراة بمعناها الحرفي. فجعلوا من قصة يوسف قصة خيالية خارج المكان والزمان.
كما ذكرنا أعلاه ، كثير من العلماء المسلمين يرفضون قصة نوح المذكورة في التوراة ﻷنها تذكر تفاصيل عديدة جعلها - حسب ظنهم - تتناقض مع المعلومات العلمية التي توصل إليها العلماء في الفترة اﻷخيرة ، لذلك يصر بعضهم على المعنى الحرفي كما هو مذكور في القرآن الكريم، لهذا سأذكر المثال عن ( كمية مياه الطوفان ) مرة أخرى الذي ذكرته في مقالة اﻹسبوع الماضي بشيء من التفصيل كإثبات على أن المعنى الحرفي لقصة طوفان نوح كما هو مذكور سواء في التوراة أو في القرآن يتناقض مع المعلومات العلمية التي توصل إليها العلماء في الفترة اﻷخيرة.
الطوفان يعتمد على ثلاث أنواع من مخازن المياه الموجودة في الكرة اﻷرضية وهذه المخازن هي :
1- مياه الغلاف الجوي الموجودة على شكل بخار ( غيوم ) وكميتها تعادل 13000 كم مكعب ، وهذه الكمية بأكملها إذا هطلت على شكل أمطار فهي ستغطي سطح اﻷرض بإرتفاع 2،5 سم تقريبا .
2-المياه الموجودة على شكل جليد في القطبين الشمالي والجنوبي وكذلك على قمم الجبال الشاهقة ، وكميتها تعادل 24064000 كم مكعب ، فإذا ذابت هذه المياه الجليدية بأكملها فإنها ستغطي سطح اﻷرض بإرتفاع 46،5 متر تقريبا.
3- المياه الجوفية ،الموجودة في باطن اﻷرض وكميتها تعادل 1053000 كم مكعب ، فإذا خرجت هذه المياه بأكملها على شكل ينابيع فإنها ستغطي سطح اﻷرض بإرتفاع 20،5 متر تقريبا .
أي أن كمية المياه الموجودة في الكرة اﻷرضية فعليا والتي سيتم إستخدامها في عملية الطوفان ستغمر سطح الكرة اﻷرضية بالمياه على إرتفاع يصل إلى 67 متر فقط ، بينما أعلى قمة جبلية على سطح اﻷرض يصل إرتفاعها إلى 8880 متر ، وهذا يعني أنه حتى يتم غمر جميع مناطق اليابسة على سطح الكرة اﻷرضية بالماء سيحتاج إلى كمية من المياه أكبر ب /132/ مرة من تلك الموجودة في الغلاف الجوي وباطن اﻷرض وتلك التي على شكل جليد في القطبين وفي قمم الجبال .
فإذا كان المقصود هو المعنى الحرفي لقصة طوفان نوح ، فمن أين أتت تلك الكميات الهائلة من المياه وكيف إختفت ؟ ولكن حتى إذا فرضنا أن هذه الكمية الهائلة من المياه قد أتت من الفضاء الخارجي ودخلت إلى كوكب اﻷرض لفترة قصيرة ثم خرجت ومع ذلك في هذه الحالة فهي ستترك أثرا يمكن للعلماء رؤيته وقياسه ، فدخول هذه الكمية الهائلة من المياه ستؤدي إلى إنحراف كبير في إتجاه محور الكرة اﻷرضية ، أيضا ستؤدي إلى تغيير في سرعة دوران اﻷرض حول نفسها ، ولكن مثل هذه التغيرات لم تحصل في زمن ظهور اﻹنسان ( العاقل ) على سطح اﻷرض وإلا لإستطاع العلماء معرفتها وقياسها.
علماء الجيولوجيا إعتمادا على موضوع كمية المياه المحتاجة لحدوث مثل هذا الطوفان سيرفضون قطعيا التفسير الحرفي لقصة الطوفان. وعدا عن علماء الجيولوجيا هناك علماء الحياة ،وعلماء اﻹنسان، وعلماء التاريخ ، وعلماء اﻵثار. ...إلخ ، جميع هؤلاء يجب أن يجدوا توافقا بين معلومات قصة الطوفان مع المعلومات التي حصلوا عليها في أبحاثهم ﻷن كل علم هدفه معرفة زاوية من زوايا رؤية الحدث ومن خلال إستخدام جميع العلوم يمكننا رؤية جميع زوايا الحدث وعندها فقط نصل إلى الحقيقة الكاملة له. وهكذا يجب ان ننظر إلى قصة طوفان نوح لنصل إلى حقيقته الكاملة.
يتبع في الأسبوع القادم...
ملاحظة : للمزيد من المعلومات عن الكتاب اﻷول والكتاب الثاني في القرآن الكريم يرجى العودة إلى الخاطرة 80 : اﻹعجاز الرقمي في الكتب المقدسة.
وسوم: العدد 679