خواطر من الكون المجاور..الخاطرة 114 : البحث عن عالم أفضل

قبل حوالي ثلاثة قرون من الزمن تكلم الفيلسوف ديكارت ( 1596-1650) عن مبدأ ثنائية الحالة ، فحسب رأيه بأن اﻹنسان يوجد في حالة ثنائية (مادة - روح ) ، هذه الحالة لاتنطبق على الحيوانات ﻷن الحيوانات ليس لها روح ، فالروح حسب رأيه هي اﻹحساس الذهني وهذا اﻹحساس غير موجود في الحيوانات ، الفيلسوف ديكارت منذ ذلك الوقت حاول الفصل بين الوجود المادي (الحيواني ) والوجود الروحي ( اﻹنساني ) فخرج بقوله المأثور ( أنا أفكر إذا أنا موجود ) ،ولكن للأسف ظهور الفيلسوف المزيف كارل ماركس وتحول الفلسفة إلى فلسفة مزيفة وغياب الفلاسفة في العصر الحديث أدى إلى عدم فهم آراء فلاسفة العصور الماضية لتطويرها، فآراء ديكارت اليوم تدرس في كليات الفلسفة في جميع أنحاء العالم ولكن بطريقة سطحية لا علاقة لها نهائيا مع مضمون الفكرة التي كان يبحث عنها ديكارت. فحسب رأي ديكارت أن اﻹنسان هو فقط من الكائنات الحية الذي يملك روح ،فإذا أخدنا هذه الفكرة بمعناها الحرفي فهي خاطئة ،ولهذا السبب نجد أن الكثير من المفكرين وخاصة رجال الدين قد عارضوا هذه الفكرة ، ولكن إذا تمعنا جيدا في مضمون هذه الفكرة فسنجد أن ديكارت كان على حق فهو يقصد أن اﻹنسان هو الكائن الوحيد الذي يملك في تكوينه جزء من روح الله، هذا الجزء من روح الله هو الذي جعل اﻹنسان يعيش ويشعر بوجود قوانين تسيطر على مصير كل شيء، وهذه القوانين ذات حالة مزدوجة ( قوانين روحية - قوانين مادية ) وعدم اﻹحساس بهذه القوانين هو ما يجعل الكائنات الحية تعيش في كون ذو طبيعة مختلفة عن الكون الذي يعيش فيه اﻹنسان. فالحيوانات تعيش في كون مادي تسيطر عليه القوانين المادية وليس لها المقدرة على اﻹحساس بوجود الكون الروحي ، أما اﻹنسان فيعيش في كونين : كون مادي( واقعي) وكون روحي. ومن هنا ظهرت فكرة ( الشكل والمضمون) في إدراك اﻹنسان . فهذه اﻹزدواجية شكل ومضمون في الحقيقة هي الشكل المبسط لفكرة ثنائية الحالة ( روح- مادة ) وهي إحساس موجود فقط في عالم اﻹنسان .

على مبدأ ثنائية الحالة ( روح - مادة ) بدأ النشاط الفكري في اﻹنسانية منذ ولادتها لتجعل اﻹنسان يشق طريقا مختلفة نهائيا عن جميع الكائنات الحية اﻷخرى .

كل شيء في هذا الكون مهما كان ..يملك روحا ، بدون روح لا توجد مادة والوجود يصبح لا شيء ، فأصل الوجود هو الروح ، المادة ليست إلا ذاك الثوب الذي تصنعه الروح التي تكمن داخله لتعبر عن طبيعتها . وطالما أن شكل المادة يعبر عن درجة تطور الروح لذلك أصبح لدينا ثنائية الوجود (روح - مادة ) . حيث أن مبدأ ثنائية الحالة موجود بمفهومه البسيط أيضا في عالم الصغائر (ما تحت الذرة) ، حيث نجد أن الجسيمات في هذا العالم توجد في حالة ثنائية ( موجة - جسيم ) فالوجود على شكل موجة يرمز إلى الحالة الروحية أما الوجود كجسيم فيرمز لحالة المادة ، فاﻷلكترون مثلا يوجد في حالتين إما كجسيم ( مادة لها حجم ووزن ) أو كموجة ( بدون حجم أو وزن )، فمثلا إذا وضعنا هذا الإلكترون تحت المراقبة نجده دوما يظهر بصورة جسيم (مادة ) وكأن الألكترون نفسه هنا يراقبنا هو أيضا وطالما أننا ننظر إليه بأعيننا أي نظرة مادية لذلك يتحول إلى جسيم مرئي مادي، ﻷن وجوده كموجة يحتاج إلى نوع من الرؤية من نفس نوعية وجوده وهي الرؤية الروحية، فوجود الروح في جسيمات عالم الصغائر يجعل لها نوع من الوعي فهي تشعر بما في فكر العالم وهو يقوم بالتجربة فإذا شعرت أنه يراقب تصرفاتها تتحول إلى أجسام صلبة ذات حجم ووزن ، تصوروا مثلا جماعة تلعب كرة السلة و عندما يأتي أحدهم ليمسك بالكرة تتحول هذه الكرة إلى غيمة ضبابية ليس لها حجم ولا شكل ليستطيع الإمساك بها ، وفجأة يأتي لاعب آخر فتتحول هذه الغيمة إلى كرة سلة من جديد ، فتصوروا لو أن اﻷمور في عالمنا الواقعي يتبع قوانين عالم الصغائر ، وكرة السلة تارة تكون على شكل كرة وتارة على شكل غيمة ضبابية حسب مزاجها هي .

هذه الظاهرة في البداية لم يصدقها أحد ، فهل من المعقول هذا الجسيم الذي يتناهى في الصغر أن يتصرف كطفل صغير يتحول من شكل إلى آخر حسب مزاجه هو !؟... الجواب هو نعم ...فالتجارب أثبتت صحة هذا القانون! فعالم الصغائر إذا تمعنا في قوانينه سنجد أنه عالم يختلف عن عالمنا الواقعي وسيبدو لنا بأنه فعلا عالم عجيب، ﻷننا نظن أن الكائنات الحية هي فقط لها روح ،ولكن في الحقيقة الروح موجودة في كل شيء داخل هذا الكون ، فالجسيمات في عالم الصغائر هي عبارة عن كائنات حية ولكن طبيعة حياتها بسيطة جدا تختلف كثيرا عن معنى كلمة ( حي) المعروف، فهذه الجسيمات المتناهية الصغر داخل الذرة تملك صفة الوعي فتتصرف بسلوك معين تجعل من عالم الصغائر عالم عجيب ، و حيث فهم هذا العالم يساعدنا على فهم أشياء غامضة عن الكون الروحي .

جسيمات عالم الصغائر هي إحدى المراحل البدائية في تطور الروح وهي صلة الوصل بين العالم المادي والعالم الروحي ، ولكن صفة ثنائية الحالة أثناء تطور الروح تختفي مع دخول التطور في مرحلة تكوين المادة المركبة عن طريق إتحاد الذرات ، ف كرة الحديد مثلا ستبقى كرة ولن تتحول إلى غيمة ضبابية وكأنها خالية من الروح ولن يتغير سلوكها أمام اﻹنسان كما هو في اﻷلكترون. ولكن مع إستمرار تطور الروح نجد أن ظاهرة ثنائية الحالة تعود ثانية بشكلها البسيط مع تكوين الـ DNA حيث تكتسب عندها الروح صفة التكاثر، فهذه المرحلة هي مرحلة تطور مادي للروح لذلك الروح هنا لا تملك خصائصها الموجودة في عالم الصغائر ، ولكن مع ظهور اﻹنسان وبدء عملية الصفاء الروحي تكتسب الروح خصائصها الحقيقية ثانية تلك التي نراها فقط في عجائب عالم الصغائر، فنجد ظهور المعجزات في عالم اﻹنسان حيث أن هذه المعجزات جعلت من عالم اﻹنسان عالماً أرقى من أن تحكمه القوانين الطبيعية المادية .وكانت اﻷمور ستتطور أكثر بهذا اﻹتجاه ولكن للأسف ظهور نظرية داروين كان لها تأثير سلبي كبير على طريقة تفكير الإنسان المعاصر. فهذه النظرية صنعت نوع من اﻹنحطاط الفكري وجعلت اﻹنسان يخرج من الكون الروحي ليعيش بشكل مطلق في الكون الواقعي فجعلته يفكر بنفس المنطق الذي يفكر به القرد تماما، حيث يرى فقط الروابط المادية بين اﻷشياء ، أما الروابط الروحية فلا يعلم عنها شيئا لذلك لا يحسب لها أي حساب في أبحاثه.

فإذا نظرنا إلى جميع نظريات العصر الحديث وأهمها نظرية داروين، نجد بأن جميعها تنطبق على الكون الواقعي ، ولكن علم فيزياء الكم والذي يبحث في عالم الصغائر ، يقول لنا أنه هناك عالم آخر ضمن هذا العالم الذي نعيشه ،وهذا العالم له قوانين مختلفة نهائيا عن قوانين الكون الواقعي ، وهذا النوع من القوانين هي التي لعبت دورا كبيرا في تطور كل شيء في هذا الكون منذ بدايته وحتى اﻵن ، فمثلا خروج موسى عليه السلام مع قومه من مصر حدث إعتمادا على قوانين الكون الروحي حيث المعجزات التي صنعها موسى جعلت من فرعون شاء أم أبى رغم قوته الكبيرة أن يترك شعب إسرائيل الضعيف ليخرج من مصر.

أيضا معجزات عيسى عليه السلام إعتمدت على قوانين الكون الروحي ، فعيسى ظهر لمدة ثلاث سنوات فقط في منطقة تقع تحت سيطرة الإمبراطورية الرومانية والتي كانت من أقوى الإمبراطوريات في العالم في ذلك الوقت ورغم معارضة حكام هذه اﻷمبراطورية بمنع إنتشار الدين المسيحي ولكن بدلا من أن تنقرض الديانة المسيحية نجد أن المسيحية إنتصرت على الديانة الوثنية التي كانت تؤمن بها هذه اﻹمبراطورية ونجد أن اﻹمبراطورية بأكملها قد تحولت إلى إمبراطورية مسيحية دون إستخدام إي نوع من أنواع الأسلحة أو القوة الجسدية ليحدث هذا التغيير. هذا الحدث التاريخي يعتبر من أكبر المستحيلات في العالم الواقعي.

الفيلسوف أرسطو الذي يعتبر من أذكى المفكرين في تاريخ البشرية ،كان يدرس قوانين الكون الواقعي ،لذلك كان منطقه ذو مذهب مادي، فعندما سمع أن تلميذه إسكندر المقدوني الذي لا يتجاوز العشرين من العمر يعد جيشه ليحارب جيوش الفرس التي كانت في ذلك الوقت أقوى إمبراطورية في العالم ، إعتبر اﻹستاذ أرسطو أن سلوك تلميذه إسكندر ضرب من الجنون ، فجيش إسكندر كان لا يتجاوز الـ 35 ألف جندي بينما جيش الفرس كان أكثر من 250 الف جندي ، فذهب أرسطو إلى إسكندر وحاول إقناعه بأن سلوكه هذا غير منطقي وأنه سيخسر الحرب، ولكن إسكندر حمل جيشه وخلال سنوات قصيرة إنتصر على جيش الفرس وجميع الجيوش التي صادفها في طريقه حتى وصل إلى الهند، هنا أيضا نجد أن اﻷمور سارت بشكل مخالف نهائيا لقوانين الكون الواقعي وأنها إعتمدت قوانين الكون الروحي .هذا الحدث التاريخي هو إثبات بأن العالم الذي يعيشه اﻹنسان لا يتبع قوانين الكون الواقعي ولكن قوانين الكون الروحي.

هناك أمثلة عديدة عن سيطرة قوانين الكون الروحي التي يمكن رؤيتها ﻷنها حدثت في تاريخ اﻹنسانية ولعبت دوراً كبيراً في توجيه تطورها ، ولكن للأسف المنهج العلمي الحديث يعتمد على الرؤية المادية العاجزة عن اﻹحساس بقوانين الكون الروحي ، لذلك يجب النظر ثانية في جميع النظريات الحديثة لتصحيحها عن طريق إستخدام الرؤية الشاملة ، يجب على العلماء النظر إلى اﻷمور برؤية إنسانية تؤمن بقوانين راقية أرقى بكثير من تلك القوانين المادية التي يعتمد عليها الكون الواقعي ، فنظرية داروين لا يمكن إثبات إنحطاطها الفكري إلا عن طريق دراسة التطور الروحي للأشياء ، هذا النوع من الدراسة يستخدم قوانين الكون الروحي التي تتناسب مع تلك القوانين التي أثرت على مجرى تطور الحضارات ، فالجميع يعلم بأن نظرية داروين عاجزة عن تفسير الكثير من الظواهر، ومن يبحث في نشوء الحضارات وتطورها يجد أنها تخالف نهائيا مبادئ نظرية داروين ، فحسب نظرية داروين كان يجب أن يحدث إنقراض الديانة المسيحية ولكن هذا لم يحدث ،بل حدث العكس إنقرضت ديانة اﻹمبراطورية الرومانية. تماما كما حدث مع إنقراض الديناصورات .

ما يجب أن يعرفه شباب الشعوب الشرقية اليوم ، أن فكر علماء الدول الغربية قد دخل في مرحلة اﻹنحطاط وكل ما نراه اليوم من إختراعات هي البقايا الحسنة لحضارة عصر النهضة ، وأن اﻹنسانية اليوم تعيش مرحلة تغيير حضاري وأنه جاء دور الشعوب الشرقية لتحمل النور لتضيء الطريق أمام التطور الحضاري فما يحصل اليوم من إنحطاط روحي في معظم المجتمعات اﻹنسانية سببه ليس الشعوب الغربية فقط ولكن الشعوب الشرقية أيضا ، فعلماء عصر النهضة اﻷوروبية قاموا بدورهم في تطوير العلوم المادية على أكمل وجه ،وأتى اﻵن دور الشعوب الشرقية لتطوير هذه العلوم من الناحية الروحية ، فهدف الحضارة الجديدة هو تطوير القسم الروحي في العلوم. وهذا الدور هو من مهام الشعوب الشعوب الشرقية.

فليس من الصدفة أن الكتابة والتي تعتبر أهم إنجاز حققته اﻹنسانية ظهرت في الشعوب الشرقية ، لذلك نرى أن لغات الشعوب الشرقية بشكل عام تكتب من اليمين إلى اليسار ( أصحاب اليمين ) فهذا السلوك هو رمز روحي له معنى أن الشعوب الشرقية تبدأ بحثها من الروح ( الوجود اﻹلهي ) لتنتقل إلى دراسة المادة إعتمادا على قاعدة روحية. بينما الكتابة في الشعوب الغربية فجهتها من اليسار إلى اليمين أي أنها تعتمد قاعدة مادية ( أصحاب الشمال ) ، لذلك نرى أن الشعوب الغربية كان لها فضل كبير في تطوير العلوم المادية كما حدث في الحضارة اﻹغريقية والرومانية وعصر النهضة ، وكما هو معروف عنها أنها كانت حضارات فقيرة باﻹهتمامات الروحية ،بينما الشعوب الشرقية كانت إهتماماتها تعتمد بشكل أساسي على تقوية العلوم الروحية لذلك نجد أن جميع الديانات العالمية ظهرت في الشعوب الشرقية ومنها إنتقلت إلى جميع الشعوب الغربية لتحل بدلا من دياناتها القديمة.

فاﻹنسانية اليوم تعيش في مرحلة تغيير المجرى الحضاري للإنسانية من حضارة مادية إلى حضارة روحية فعلماء عصر النهضة قاموا بدورهم في تطوير العلوم المادية على أكمل وجه وأتى اﻵن دور الشعوب الشرقية للتنقيب في خفايا هذه العلوم المادية وإستخدامها في تطوير القسم الروحي من المعارف اﻹنسانية والذي سيحقق تطور روحي جديد لها . لذلك يجب على شباب الشعوب الشرقية أن يثقوا بالله وبأنفسهم ويبتعدوا عن الاعتماد على تفسيرات علماء الغرب بشكل أعمى بدون تحليل أو تدقيق ، فمعظم تفسيرات علماء الغرب في العصر الحديث للسلوك الروحي للإنسان واﻷشياء التي تحدث في الكون هي خاطئة ، وتحتاج إلى تصحيح لنستطيع فهم مضمون اﻷشياء واﻷحداث،وأفضل إثبات على ذلك، هو ما يحدث من تغييرات في مناخ الكرة اﻷرضية فرغم تطور التكنولوجيا والعلوم المادية نجد أنه بدلا من تحسن البيئة الطبيعية في الكرة اﻷرضية التي تعتبر بيت اﻹنسان، نجده قد وصل إلى مستوى مخيف دفع بعض العلماء إلى التفكير في بحث موضوع مدى إمكانية اﻹنسان في الهجرة إلى كوكب آخر.

من ينظر إلى ما يحدث في سوريا والعراق واليمن وليبيا وكثير من دول العالم وما يحصل من هجرات بشرية من مكان إلى آخر بحثا عن ظروف أمنية أو إقتصادية أو سياسية أفضل ، يعلم تماما بأن اﻹنسانية بهذا المنطق الذي كتبت به الكتب المدرسية قد وصلت إلى طريق مسدود ﻷنها وصلت إلى القاع ، وهي بحاجة إلى تغيير جذري في طريقة التفكير ليعود اﻹحساس الروحي بالأشياء واﻷحداث إلى فكر اﻹنسان ثانية وبدلا من أن يبحث الكبار في حلول عن طريق تهجير الناس من بلد إلى بلد آخر أو إلى كوكب آخر ليعيشوا فيه ، يجب عليهم أن يبحثوا عن مخرج يخرجون به من هذا العصر المنحط روحيا ليدخلوا في عصر جديد ملائم لهذا الكائن الذي يحوي داخله جزء من روح الله والذي يدعى " إنسان ".

وسوم: العدد 699