درس ما بعد غزوة أحد
13 / 10 / 1974
(4)
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فقد كنا بالأمس نتحدث عن قوله الله تعالى ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين ) وقلنا إن الله سبحانه وتعالى أراد بهذا الكلام أن يقرر في أذهان المسلمين العقيدة الضخمة التي تدفع إلى اقتحام المخاطر وركوب الأهوال وعدم حساب العواقب في سبيل الله تعالى .
لكن خاتمة الآية تستدعي شيئاً من الالتفات ، لأنها تأتي كالنتيجة المرتبة على مقدماتها ( ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ) في الحقيقة حينما يعتقد الإنسان أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأنما أخطأه لم يكن ليصيبه وأن كل شيء عند ربك بأجلٍ ومقدار .. حينما يعتقد الإنسان هذه العقيدة يكون طبيعياً وواجباً عليه أن يتحرى في كل ما يعمل وما يترك رضوان الله ووجه الله تعالى ، ومع ذلك فالملاحظ أن الناس يتباينون في هذا ، وأن نياتهم تختلف في كل أعمالهم ، فالناس منهم من يتحرك ابتغاء رضوان الله ، ومنهم من يتحرك ابتغاء مغنمٍ أو مطمعٍ قريب أو ما أشبه ذلك من المحركات والدواعي . والله سبحانه وتعالى يذكر هنا أمراً تهدي إليه الفطرة ، ولكن كثرة ظهوره بين الناس يشوه دلالته وحقيقته ، بعض الناس ينظر فيما حوله فيرى الجبناء والشحيحين تكثر بين أيديهم الأموال والخيرات ، وربما ظنّ أن هذا نتيجة لتدبيرهم وحسابهم للعواقب ، بل لعلّ هذه هي الفكرة التي تجول في كثيرٍ من الرؤوس ، ولو أن الإنسان نظر نظرةً أدق لوجد أن الله سبحانه وتعالى ـ لهوان الدنيا عليه ـ جعلها بلاغاً يأخذ منها البر والفاجر والمؤمن والكافر .
كان إبراهيم عليه السلام يدعو الله تعالى فيقول ( وإذ قال إبراهيم ربِّ اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير ) فإبراهيم صلوات الله عليه دعا ربه أن يرزق المؤمنين فحسـب ، ولكن الله جلّ وعلا قال ( ومن كفر ) أيضاً ( فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلا عذاب النار وبئس المصير ) الدنيا إذاً مائدةٌ ممدودة تنالها يد البر كما تنالها يد الفاجر ، ويأكل منها المؤمن ويأكل منها الكافر الذي لا خلاق له ، بل لعلّ الذين يكفرون بالرحمن هم أدعى إلى أن يكونوا منعّمين في هذه الحياة ، لأنه لا شيء لهم عند الله يوم القيامة ، قال الله تعالى ( ولولا أن يكون الناس أمةً واحدةً ) يعني جماعةً واحدة مطبقةً على الكفر ( لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ) ثم ذكر بعد ذلك نماذج وأنواعاً من النعم ، لكن الإنسان قاصر العقل ضعيف الإدراك ، لو رأى أن الكفار يُنعَّمون ويُمتَّعون في هـذه الحياة الدنيا ورأى المؤمنين يصيبهم البلاء وينزل بهم البأس لقال : إن الكفار يُنعَّمون لفضل مزيةٍ لهم عند الله ، وأن المؤمنين يرون البأس لأنهم هيّنون على الله . لكي لا تقع في الأذهان هذه الأمور بيّن الله جلّ وعلا هذا .
والنبي صلى الله عليه وسلم يبيّن في كلامه التفرقة الحاسمة كما بينّها الله جلّ وعلا في هذه الآية ( ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤتها منها ) النبي عليه السلام يقول : كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها . معنى ( يغدو ) يخرج من بيته في الصباح ، بعد أن يستيقظ الإنسان ويتناول فطوره يخرج من بيته ليضطرب في وجوه الرزق ، فكل الناس يغدو ، كل إنسانٍ يخرج من بيته ، لا يقعد في البيت إلا الكسيح ، أما القادر على السعي والاضطراب والحركة فهو يخرج من بيته . هؤلاء الناس كلهم يخرجون ، يشتركون ويتفقون في صفة الخروج من البيوت ، لكنهم إذا خرجوا يختلفون ، حينما يخرج يبيع نفسه ، فإذا باع نفسه فإما بيع للرحمن وإما بيع للشيطان ، فبائع نفسه فمعتقها ، يعني مخلصها من الآثام إذا سعى فيما يرضي الله جلّ وعلا وعمل وفقاً لمقتضيات الشريعة وقواعدها . أو موبقها ، ومعنى ( موبقها ) يعني موقعها في الذل والهوان والقيد في نار جهنم . متى يقيد الإنسان نفسه في نار جهنم ؟ إذا سعى وتحرّك خلافاً لما يرضي الله جلّ وعلا وعمل بما يسخط الله تبارك وتعالى ، لكن هذا ينال وهذا ينال ، الكل ينال من الدنيا .
فهنا نعود إلى الآية بعد أن تبيّن المراد ، ينبغي أن يعلم المسلمون أن السعي والحركة والشجاعة والإقدام كل هذا لا يقرّب أجلاً ولا يمنع رزقاً ، والمطلوب ماذا ؟ المطلوب هو أن تتقرر هذه العقيدة في النفوس أن الأجل مقدورٌ قبل أن يولد الإنسان ، قبل أن يخرج إلـى الدنيا ، كتب الله له أجله ، وأن الرزق كذلك مقرر له ، وهو في كل حال لن يخرج من الدنيا قبل استيفاء أجله ، كما لن يخرج من الدنيا قبل استيفاء رزقه . فعلى الإنسان المؤمن أن لا يمنعه تقدير الأمور عن المبادرة والإقدام فيما يرضي الله جلّ وعلا ، لأن هذه المبادرة لن تغير من واقع الأمر شيئاً ، فما هو لك فهو لك لن يأخذه أحد من يدك بحال من الأحوال ، ربما كانت اللقمة المقدورة لك مرفوعةً إلى فم غيرك فيأذن الله جلّ وعلا بأن تنتقل إلى فمك رغماً عما كان يحدث .
إذاً ( ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤتها منها وسنجزي الشاكرين ) في هذا الكلام دقيقة أخرى غير تقرير العقيدة التي أردنا أو شرحناها آنفاً . في هذا الكلام دقيقة أخرى تشير إلى أن مدار الأمر كله الفلاح والنجاح وإرضاء الله وإغضابه ، مدار كل ذلك على النية وعلى الإرادة وعلى القصد ( ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ) الحركة الظاهرة واحدة ، تجد إنساناً في محله وإلى جواره إنسانٌ آخر في محله ، هذا لديه بضاعة وهذا لديه بضاعة من ذات النوع ، هذا يبيع وهذا يبيع ، ذات الحركة لا تختلف ، مع ذلك فما بينهما من حيث المنزلة كما بين السـماء والأرض ، إنسانٌ يخرج من بيته فيضطرب في الأسواق ويبيع ويشتري ، وفي ذهنه وفي نيته وفي إرادته أنه يريد أن يكفّ نفسه ويعفها عن سؤال الناس ، ويريد أن يؤمّن لنفسه ولعياله قوتاً يؤمّن لهم الطعام وستر العورة والقدرة على الوفاء بفرائض الله تعالى ، لا يخطر في باله الأشر ولا البطر ولا جمع الدنيا من أجل الاستطالة بها على أهلها ، فهذا من المتقين العابدين الذين أرادوا ما عند الله فآتاهم الله ما عنده . صاحبه وجاره إلى جنبه يعمل عمل رفيقه وجاره ، ولكن نيته تختلف ، هو يريد أن يجمع الدنيا لكي ينال بها مركزاً وجاهاً ، ولكي يكون أشراً وبطراً على عباد الله جلّ وعلا ، ولكي يجمعها قرشاً على قرش ودرهماً على درهم ، لا يرى أن لله عليه حقاً في هذه الأمور التي يجمعها . الفرق بينهما كالفرق بين نيتيهما ، واحد يريد ما عند الله ويريد الدار الآخرة فهي له ، وواحد يريد الدنيا ويريد أشياءها فهي له ، فمدار الأمر إذاً على النية ، في الصغير وفي الكبير ، في السلم وفي الحرب ، لا بد من تقديم النية الصالحة ، إذا انعدمت النية الصالحة انعدمت البركة وذهب كل شيء ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه . في هذا الحديث أو لهذا الحديث سبب ، الهجرة المقصودة هنا هي خروج المسلمين من مكة إلى المدينة مهاجر النبي ومهاجر المسلمين ، هل هناك فرق في الظاهر ؟ لا فرق أبداً ، كلهم خرجوا من دار الكفر إلى دار الإسلام ، مع ذلك هناك فرقٌ مَحَقَ البركة ومَحَقَ الأجر من شخص ، أحد المسلمين كان يهوى ويعشق امرأةً من المسلمات اسمها أم قيس ، فلما هاجرت هاجر من أجلها ، فكان المسلمون يسمونه مهاجر أم قيس ، الهجرة كانت إلى الله وإلى رسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا هاجر إلى امرأةٍ هويها وتعشقها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه .
هذه الحركة المتماثلة ، النية فرقت بين النتائج وباعدت فيما بينها ، اسحبوا هذه الظاهرة على ما نحن فيه ، وما نحن فيه حديث طويل ومتشعب عن القتال ، هذا زيد خرج فدخل المعركة ، وهذا عمرو خرج فدخل المعركة ، الحركة الظاهرة واحدة ، الخروج والتقدم واحد ، ولكن النية هي التي تعيّن الشهيدة من غير الشهيد وتعين المأجور من الموزور ، ليس كل من حمل السلاح ورفعه في وجه الأعداء نائل منزلة الشهداء عند الله جلّ وعلا ، قد ترى الرجل يبلي البلاء الحسن ويقاتل القتال المرّ وليس له عند الله إلا اللعنة وإلا المقت .
في المعركة التي نتحدث عنها ، في معركة أحد ، سأروي لكم قصة ، كان في الأنصار رجلٌ من مواليهم يسمى قزمان ، وكان رجلاً شجاعاً وبطلاً مجرّباً ، وحين خرج الناس للقتال في أُحد خرج فيمن خرج ، وما كان الناس يحسبون قزمان إلا من خيار الناس ، لم يكن ظهر عليه شيء قط ، ودخل المعركة فأنكى في العدو نكايةً شديدة وقتل من صناديد قريش ستةً أو سبعة ، فكانوا كلما قتل قزمان رجلاً جاؤوا فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ألم ترَ إلى ما فعل قزمان ؟ إنه قتل فلاناً وقتل فلاناً . فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : قزمان من أهل النار . وتدور رحى الحرب وتطحن الجماجم والأجساد ، ويزداد قزمان نكايةً في المشركين ، فيقولون للنبي صلى الله عليه وسلم ما فعل قزمان ، فلا يزيد عليه السلام إلا أن يقول : قزمان من أهل النار . وتنجلي المعركة ويقع قزمان جريحاً ويُحمَل فيمن حُمل إلى موضع الجرحى الذي يعالجون فيه ، فيقولون لقزمان حين يرون أنه في آلام الموت : هنيئاً لك الشهادة . فيقول : والله ما قاتلت إلا دفاعاً عن الأحساب ودفاعاً عن القوم . ثم يشتد به الألم فيأخذ حديدةً يقطع بها رواهشه فينزف ويموت . الرواهش العروق التي في الرسغ ، فيخبرون النبي صلى الله عليه وسلم عن عاقبة قزمان ، فيقول : أنا رسول الله قزمان من أهل النار . الحركة إذاً واحدة في الظاهر ، ومع ذلك فالدافع والنية والقصد هو الذي يغير الأمور ويقلب الموازين .
انتقلوا إلى الآية التي بعد هذه ، لتروا أن تحقيق النصر وكسب العز والسيادة يتوقف على رجالٍ أخلصوا قلوبهم لله تبارك وتعالى ، في معرض التدليل على القضية التي طرحتها الآيات من قبل يذكر الله جلّ وعلا حال الأنبياء وأتباعهم من قبل يقول الله تعالى ( وكأين من نبي قاتل معه ربّيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ) الرُبّيون هم المنسوبون إلى الرب جلّ وعلا ، تقول فلانٌ رُبّي ورباني بمعنى أن أعمالهم وأقوالهم ونياتهم خالصة كلها للرب تبارك وتعالى . ففي قول الله جلّ وعلا ( وكأين من نبي ) أي تفكر يا محمد أنت ومن معك بعدد من الأنبياء الذين جاؤوا من قبلك قاتل معهم أناسٌ أخلصوا ضمائرهم ونياتهم لله جلّ وعلا ، فما الذي كان من هؤلاء ؟ ماذا كانت ثمرة الإخلاص وعاقبة النية الصادقة ؟ كانت ثمرة ذلك أنهم ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ، يعني لم يدركهم الضعف والانهيار ( فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا ) الاستكانة هي أشد حالات الضعف والانهيار ، الاستكانة من المسكنة ، يعني أن الإنسان يلتصق بالأرض ، يصل به الذل إلى حالٍ لا يستطيع معها أن يتحرك ولا أن يذب عن نفسه أي أذى . الربيون الذين قاتلوا مع الأنبياء بما أن نواياهم كانت لله ومع الله جلّ وعلا ، بالرغم مما أصابهم في سبيل الله فهم لم يهنوا ولم يضعفوا ولم يستكينوا ( والله يحب الصابرين ) بل كان الصبر عدتهم في الثبات على أمر الله جلّ وعلا وفي وجه أعداء الله .
( وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) لاحظوا هذه اللفتة اللطيفة التي تفرّق بين الربي أو الرباني وبين الدنيوي ، الإنسان الرباني يذهب ليلاقي الموت وهو يعلم أن الشهادة كبرى المنازل عند الله وأعظم ما يتمناه المسلم على الله جلّ وعلا ، ومع ذلك فإن هذه المواجهة لا تصرفه عن تذكّر ما فرط منه ( وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) لا بد لمن يتقدم لملاقاة الموت في سبيل الله ويطلب الثبات على أمر الله من أن يتجرد من الذنب ، أن يستغفر الله لذنبه ، ولهذا كان قول الربانيين عند ساحة القتال وفي مواجهة الأعداء ( ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ) تصوروا الإنسان الذي يكون منسوباً إلى الرب ولا يعمل للرب ولا يترك إلا للرب ولا يفكر إلا بالرب ، يجد نفسه في مواجهة الموت ، يطلب من الله غفران الإسراف على نفسه ( وإسرافنا في أمرنا ) الإسراف في الأمر ماذا ؟ الإسراف في الأمر هو أن يكون منك أمور لا تكون نيتك حاضرةً فيها تماماً لله جلّ وعلا ، هنالك شيء من السهو ، هنالك شيء من الغفلة ، هنالك شيء من النسيان .
هذا الإنسان الرباني ما هي هذه الصغائر التي يرى نفسه مطالباً بالاستغفار عنها ؟ إنها أمورٌ لا نلتفت لها نحن ، أمور صغيرة جداً ، مع ذلك فأصحاب القلوب وأصحاب الحساسية يرون أنهم مطالبون بالاستغفار لهذه الأشياء الصغيرة ( وثبت أقدامنا ) تثبيت الأقدام في ساحة المعركة لا يكون إلا من الله ، الصبر شيء يصبه الله جلّ وعلا في قلوب المختارين المصطفين من عبادته ( وانصرنا على القوم الكافرين ) النصر دائماً من الله ، من شاء الله أن ينصره نصره ومن شاء أن يخذله خذله . هذا الإحساس أو هؤلاء الرجال الذين يتمتعون بهذه الحاسة تجاه الصغائر وتجاه الذنوب التافهة هم عدة النصر على الأعداء ، لأنهم فعلاً هم الذين استحقوا أن يوصفوا بأنهم ربيون وربانيون . اسمعوا ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتفرقة بين نماذج من الناس ؟ يقول الرسول عليه الصلاة والسلام : إن المؤمن يرى ذنبه كالجبل يريد أن ينقض عليه ، وإن المنافق يرى ذنبه كذبابة وقعت على رمشه فقال لها هكذا فطارت . فرق كبير بين الإحساس الإنساني المؤمن وإحساس المنافق والفاجر ، المؤمن موصول القلب والنية بالله جلّ وعلا ، يتحرك له ويسكن له ويقول له ويسكت له ، والمنافق مقطوع الصلة بالله جلّ وعلا ، فأي الفريقين أحق بالنصر وأحق بالعناية ؟ لا شك أنهم فريق الربانيين .
( وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا ولا استكانوا والله يحب الصابرين ) في معارك الصراع بين الحق والباطل قد يطول الشوط ، بل إن القاعدة هكذا ، القاعدة أن ترى الباطل يصول ويجول حتى ليقول من لا علم عنده ولا تدقيق ولا تحقيق : أن الأرض دانت للباطل . لكن الله جلّ وعلا حين يأذن يأتي بنيانه من القواعد ، في وسط هذه المعارك الطويلة وأمام المظاهر التي يراها الناس من تمرد الباطل وسيطرته وصولته التي لا تريد أن تقف عند حد قد يُدرك الضعف بعض النفوس ، لكن الإنسان دائماً عليه أن يتذرع وأن يلوذ بإيمانه وأن يعلم أن الله لا يخذل عباده المؤمنين وأن الدولة لهم وأن العاقبة للمتقين ، لا بد من الصبر ولا بد من عدم اللجاجة ، حين كان المسلمون في مكة كانوا يُعذّبون ألواناً من العذاب ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد سنين جالساً في ظل الكعبة مسنداً ظهره إلى جدارها ، والمسلمون من حوله ناكسو الرؤوس ، يرون إخوانهم يُعذَبون ولا يملكون لهم حيلةً ولا نصراً ، قال قائل منهم : يا رسول الله ألا تدعو الله لنا ، ألا تستنصر لنا ؟ وينظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى القوم الصف المهازيل الذين وهنت قواهم وهم يدافعون الباطل ويكافحون الكفر والضلال ، فلا يقول لهم إلا درس المعلم اللبيب ، يقول : إن من كان من قبلكم كان يؤتى بأحدهم فيربط إلى شجرة ثم يُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشقّ نصفين ، وكان يؤتى بأحدهم فيمشط ما دون لحمه وعظمه بأمشاط الحديد ما يصده ذلك عن دينه ، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون . النصر آتٍ لا ريب فيه ، ولكن لا بد من الصبر الطويل ، فالله جلّ وعلا يريد أن يوقع في أذهان المسلمين وهو يلقنهم هذا الدرس أن لا يتعجلوا الأمور وأن لا يتهاونوا في ذخيرة الصبر .
( وكأين من نبيٍ قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قوله إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصر على القوم الكافرين ) لاحظوا هذا الجندي الذي يقف أمام الموت خاشعاً متضرعاً متذللاً معترفاً بذنبه ملتجأً إلى الله متبرئاً من حوله وقوته ، هذا الإنسان الذي حينما يتقدم يتقدم لله وفي الله ، وحينما يضرب يضرب بقوة الله ، أهو عنصر دمار ؟ أهو عنصر تخريب ؟ أهو عنصر تسلطٍ وإرهاب ؟ أم هو عنصر مرحمةٍ ومحبة ؟ قارنوه بالصنف المقابل ، باللون الكريه الآخر ، اللون الذي يدخل ساحة المعركة ويخرج منها وقد لا يكون قاتل على الإطلاق ، فإذا جاء تبختر وتخايل في مشيته وطمح بأنفه إلى السماء ، وحق أنفه حذاء يطامن من كبريائه ، هذا الإنسان كيف يتأتى أن ينصره الله ؟ نصر الله مع الذل بين يديه ومع الخضوع لأمره ومع عدم الاستعلاء على عباد الله ومع عدم الأشر والبطر ، مواصفات وأوصاف وخصائص يجب أن تتمثل في الجيش كي ينال نصر الله والفتح ، فإذا عُدمت هذه الخصائص أو اختلّ نظامها وفسد اتساقها فإن هذا الجيش لن ينتصر على الإطلاق .
لاحظتم أن المسلمين انهزموا في أُحد لأمورٍ بسيطة وتافهة ، أخطاء صغيرة ، ومع ذلك فالله لا يحابي أحداً ، ومع أن الرسول عليه الصلاة والسلام موجود بين المسلمين فقد حلّت بهم الهزيمة لهذه الأخطاء الصغيرة ، وعلى المسلمين حين يلقّنون هذا الدرس أن يأخذوه حتى نهايته . الربيون المقاتلون مع الأنبياء هم النموذج الذي يجب أن يتحقق في كل مقاتلٍ في سبيل الله ، فإذا تحققت هذه الأوصاف كان النصر أمراً مؤكداً غير مشكوك فيه ، وإذا انعدمت فلا أمل في نصر ولا رجاء في فوز . هؤلاء الذين كان من شأنهم ما كان مع أنبيائهم بهذا الوصف الذي شرحناه ، ماذا فعل الله بهم ؟ خرجوا يطلبون الموت فما كانت العاقبة ؟ قال الله ( فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسـن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ) الناس الذين خرجوا ليموتوا أعطاهم الله ( ثواب الدنيا ) يعني عز الدنيا والنصر فيها والتمكين والظهور على الأعداء ( وحسن ثواب الآخرة ) نيل منزلة الشهداء وبقاء الذكر إلى أبد الآبدين ، وبالفعل فنحن بعد عشرات القرون ما زلنا نذكر بالخير ونشعر بأعظم الحنان وأعظم المحبة حينما نذكر الأبطال الذين سقطوا في معارك الإسلام ، نذكر خالداً وأبا عبيدة ونذكر علياً ونذكر أنس بن النضر ونذكر ونذكر ، نذكر هـذه النماذج الرائعة العالية فنعجب لأمر الله جلّ وعلا ، ونعجب أكثر من ذلك لغفلة هذا الإنسان . هؤلاء الذين ماتوا حتى لم يبقَ منهم على ظهر الأرض ظل ولا أثر ، ما زالوا أحياء في ذاكرة الأجيال ، وستزول الدنيا ويبقى لهؤلاء ذكر ، أي ثوابٍ من ثواب الدنيا خير من هذا الذكر الذي ينتقل مع الأجيال عطراً رائحته كرائحة المسك ؟ حينما تذكر حمزة أو تذكر الغسيل أو تذكر حمي الدهر أو تذكر أو تذكر ، فأنت تشعر أن قلبك يجيش عاطفةً ومحبةً وحباً وحناناً لهذه النماذج التي طلبت الموت فأعطاها الله الحياة في الدنيا والآخرة ، هم في الدنيا أحياء في ذاكرة الأجيال بعد آلاف السـنين ، وهم عند الله ( أحياء عند ربهم يرزقون ، فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن لا الله لا يضيع أجر المؤمنين ) .
إلى غدٍ أيها الإخوة نرجئ بقية الحديث راجين من الله العلي القدير أن يصوغ منا نماذج تقرّ بها عين رسوله صلى الله عليه وسلم ويعز بها دينه والله المسؤول أن يحقق الأمل ، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .