درس ما بعد غزوة أحد 3

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :

فيوم أمس تكلمنا عن قول الله تعالى ( إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين ) ونتابع اليوم حديثنا عن هذه الآيات فيقول الله جل وعلا بعد هذا الكلام ( وليمحص الذين آمنوا ويمحق الكافرين ) فالله جل وعلا في هذه الآية الكريمة يشير إلى حكمةٍ أخرى ، إلى المواقع التي يخوضها المسلمون في سبيل الله ، فقد أبان الله تعالى في الآية السابقة أن هذه الآلام التي يتعرض لها المؤمنون أثناء خوضهم المعارك هي كشيء مشترك بين أطراف القتال ، فآلام القتل وآلام الجرح ومتاعب القتال شيء ترك بين كل الذين يخوضون هذه المعارك . وفي هذه الآية يُظهر الله جلّ وعلا ما يريد من وقوف المسلمين في وجه الكافرين ( وليمحّص الذين آمنوا ويمحق الكافرين ) فهاتان غايتان نصت عليهما الآية الكريمة بصراحة ، أولى الغايتين تمحيص المؤمنين ، والتمحيص في لغة العرب هو التطهير ، ويريد الله جلّ وعلا بذلك أن يطهّر المؤمنين ويغفر لهم ذنوبهم ويرفع درجاتهم بهذه الآلام التي تصبيهم من جراء القتال . والإنسان المسلم كما نعلم إنسان يسـتجيب له الله جلّ وعلا إذا دعا بالتوبة والمغفرة بشرائطها المعروفة ، وسر ذلك أن الداعي يصدّق الله جلّ وعلا ويطيعه ، فلو لم يصدّق الله أنه يسمع دعاء الداعين ويجيب دعاء المضطرين ما رفع كفه إلى الله تعالى . فالتصديق إذاً سر الاستجابة ، لأن الله جلّ وعلا يقول في الحديث القدسي أن عند حسن ظن عبدي بي . فأنت إذا دعوت الله وفي قلبك أن الله يسمع لك وأنه سيجيب دعاءك فالله جلّ وعلا عند ظنك به ، أي أنه تعالى سوف يجيب دعاءك . ولكنك إن دعوته من قلبٍ غافلٍ لاهٍ ساهٍ وأنت على شك من الإجابة فإن الله جلّ وعلا لن يمنحك سؤلك ولن يأذن لدعائك ، فالتصديق إذاً هو سر الإجابة التي يلاقيها المسلم من ربه تبارك وتعالى .

 فإذا كان الأمر كذلك فالذي يخرج من بيته مجاهداً في سبيل الله تعالى مصدقٌ لله مصدق بوعده ومصدق بوعيده ، فإذا عمَر التصديق قلبه كان تمحيصه وغفران ذنوبه والعفو عما مضى أقرب إليه من حبل الوريد . وليس في أعمال الناس عملٌ هو أدل على الثقة بالله والتصديق بكل ما جاء من عنده من خروج الإنسان إلى سوح القتال معرضاً مهجته ودمه للسفك في سبيل الله تعالى ، فلهذا كان القتال في سبيل الله في معارك الجهاد التي يُقصد منها إعلاء كلمة الله وتنكيس راية الشرك وإبطال كلمة الكفر أعظم الأعمال وأكثرها تمحيصاً للمؤمنين . فالله جلّ وعلا يريد بهذه المعارك أن يطهر الذين آمنوا وأن يمحّصهم وأن يغفر لهم ذنوبهم ، وكذلك يريد الله جلّ وعلا شيئاً آخر ، يريد أن يمحق الكافرين ، فالكفر حقيقة قائمة في هذه الحياة ترونه من حولك وفي أمم كثيرةٍ منتشرةٍ على الأرض ، ولو شاء الله جلّ وعلا لها مَن من في الأرض كلهم جميعاً ، ولو شاء لهدى الناس أجمعين ، ولو شاء ما سمح لمخلوقٍ أن يكفر به ويتمرد عليه ، ولكنه قضى منذ الأزل أن يكون عباده فريقين ، فريق في الجنة وفريق في السعير ، أما أهل الجنة فأهل الصدق والوفاء والإيمان الصحيح ، وأما أهل النار فأهل الريب والتكذيب والشك .

 وهذا الكفر كما قلنا حقيقة قائمة على الأرض ، لو أراد الله أن يمحوها لمحاها في طرفة عين ، ولكنه وكل ذلك إلى المؤمنين ، فلقد سبقت كلمة الله جلّ وعلا أن يخرّ الكفر صريعاً تحت أقدام المؤمنين ، ولهذا كان لا بد للمؤمنين أن يدخلوا في صراعٍ طويل مع أعداء الله جلّ وعلا ، ولا سبيل إلى أن يُمحَق الكافرون إلا بأيدي المؤمنين ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشفي صدور قومٍ مؤمنين ) فالمؤمنون لا بد من أن يتحملوا نصبيهم المقدور لهم من الكفاح في وجه أعداء الله جلّ وعلا . فإذا قعد المؤمنون عن خوض المعارك فلم يقتحموها فمتى يُمحَق أعداء الله جلّ وعلا ؟ ومتى تُزلزل دعائم الشرك ؟ ومتى تدك صروح الكفر ؟ لا بد إذاً للأمرين اللذين ذكر الله أمرهما وشأنهما : تمحيص المؤمنين ومحق الكافرين ، من أن تكون هنالك معارك يتجرد لخوضها المؤمنون ، تتجلى عن مغفرة وثواب ورفعةٍ في الدرجات للمؤمنين ، وعن محقٍ وإزهاق للكفر والكافرين .

 فهذه قضية شرحتها الآية كما ترون بوضوح ، قضية أخرى تعرضت لها آية أخرى ، وهي ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين آمنوا منكم ويعلم الصابرين ) الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل ، وهذا الإيمان الكامل الذي هو تصديق في القلب وعمل بالجوارح هو السبيل إلى دخول الجنة . وهذا الإيمان لا يظهر ولا يستعلم إلا على الصعيد العملي ، فأنت لا تستطيع أن تحكم بالإيمان بمن يترك الصلاة وبمن يفطر رمضان وبمن يجبن عن خوض معارك القتال ، ولكن الذي يقوم بهذه الفرائض ويؤدي هذه الواجبات فأنت تقدر على أن تحكم له بالإيمان ، إذاً لا بد لدخول الجنة من أن يثبت الإنسـان عملياً أنه لها أهل ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين آمنوا منكم ويعلم الصابرين ) فالجنة ثمنها غالٍ ، ومَن طلب ذوات الثمن الغالي فعليه أن يقدم بين يدي ذلك متاعب طوالاً . لا بد من أتعاب ولا بد من قتل وقتال ولا بد من جراح وكلوم ، حتى يثبت الإنسان أنه أهل لدخول الجنة ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين آمنوا منكم ويعلم الصابرين ) .

 ثم التفت السياق إلى واقعة وحال ظهر في المسلمين في فواتح الغزوة ، وقد ذكرنا لكم في فواتح الحديث عن غزوة أحد أن جدالاً عنيفاً قام بين المسلمين حول الخروج لملاقاة العدو وعدم الخروج ، وكان من رأي طائفة من المسلمين أن يذهبوا لملاقاة عدو الله خارج المدينة ، وجل هؤلاء كانوا من شباب المسلمين الذين سمعوا ما أكرم الله به إخوانهم الذين استشهدوا في غزوة بدر ، فاشتاقت نفوسهم على نيل مثل هذه المنزلة ، وكانوا خلال المدة الفاصلة بين بدر وأحد يتمنون موقعة يلقون فيها عدو الله وعدوهم ، ويتمنون أن يموتوا ويُقتلوا في سبيل الله ، فكانت غزوة أحد ، وقدّر الله جل وعلا أن يلتقي الجمعان ، ولقاء الجمعين ليس كلاماً ، ولكنه الموت الزؤام والشهادة التي تتراءى أمام الأعين ، فالله جل وعلا يستحيي في نفوس المؤمنين هذه المشاعر فيقول لهم ( ولقد كنتم ) أيها المؤمنون ( تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد لقيتموه وأنتم تنظرون ) هذا هو الموت الذي طلبتموه وتمنيتم لقاءه وقد حقق الله لكم أمنيتكم وجعلكم تقفون أمام الموت وجهاً لوجه ، فلا تجبنوا ولا تنكسوا ، وثقوا أنكم على موعد من الله جل وعلا ( قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن بتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ) وصدق الله العظيم ( إن تكونوا تألمون ) أيها المؤمنون ( فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ) الألم واقعة مشتركة بينكم وبين عدوكم ، ولكن الرجاء مختلف ، أنتم ترجون من الله جنة عرضها السماوات والأرض ، وترجون منازل الشهداء في دار الكرامة عند الله جل وعلا ، وأما أعداؤكم فلا يرجون بعثاً ولا نشوراً ، ولا يرجون عاقبة ولا معاداً ، ومَن كان منهم على بينة من كفره وفسوقه فإنه يرجو ناراً تلظى ، لأنه يعرف أنه قادم على رب يأخذ الكافرين أخذ عزيز مقتدر .

 ( ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد لقيتموه وأنتم تنظرون ) هذا هو الموت الذي تمنيتموه فاصدقوا الله جل وعلا في هذا اللقاء ، فالآية الكريمة تحضيض للمؤمنين على الإبلاء في ذات الله وترغيب لهم بالموت في سبيل الله جلّ وعلا . ثم يلتفت السياق إلى واقعةٍ وقعت ، حينما اشتد القتال وانكشف المشركون ولم يبقَ بين المسلمين وبين النصر الكامل إلا أن يمدوا أيديهم ليقطفوا ثمرة هذا النصر ، حدثت الحركة المفاجئة التي غيّرت وجه المعركة وقلبت موازين القتال بعد إخلاء الثغر وتسرب المشركين من وراء ظهور المؤمنين حصل الاضطراب والفوضى بين المسلمين ، وكان من نتيجة ذلك أن كثُر القتل بين المسلمين ، وكان من نتيجة ذلك أن كثُر الجرح بين المسلمين ، وانكشف المسلمون انكشافاً ذريعاً ، وكُشف النبي صلى الله عليه وسلم في وجه العدو ، ولمّا أقبل المشركون يريدون القضاء على رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله قال النبي صلى الله عليه وسلم : من يشري لنا نفسه في سبيل الله ؟ فتقدم سبعة من الأنصار وأخذوا يقاتلون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقفوا دونه كالدرع البشري ، درعاً من اللحم والدم ، وكانوا يُقتلون واحداً وراء واحد ، كلما قُتل منهم رجل نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هل أعذرت يا رسول الله ؟ فيموت على قدم النبي صلى الله عليه وسلم ، هكذا حتى قُتل السبعة بين يدي رسول الله في وجه الهجمة القاسية التي قام بها المشركون لكي يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 فلما قُتل السابع قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما أنصَفَنا أصحابنا ، أو ما أنصفْنا أصحابنا . إن كانت الرواية ما أنصفَنا أصحابنا ، فمعنى ذلك أنه يريد أصحابه الذين فرّوا من ساحة المعركة ، أي أنهم لم يُنصفونا ، لأنهم هربوا وتركونا في وجه الأعداء ، وإن كانت الرواية ما أنصفْنا أصحابنا ، فالمراد بذلك ـ والله أعلم ـ السبعة الذين قُتلوا بين يديه صلى الله عليه وسلم ، أي أنهم ما أنصفوا هؤلاء الشهداء ولو أنصفوهم لقدموا غيرهم ولقدموا آخرين أيضاً . في وجه هذا الهجوم القاسي وانكشاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقدم حامل اللواء مصعب بن عُمير رضي الله عنه فوقف دون نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وكان مصعب رحمه الله تعالى قريب الشبه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل من المشركين اسمه عبد الله بن قمئة أو ابن قميئة فظن مصعباً رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فرماه فقتله ، فلما قتل مصعباً صاح بأعلى صوته : قد قتلتُ محمداً . وشـاع الكلام كالنار تسري في الهشيم بين المسلمين وبين المشركين ، أما المسلمون فقد ألقوا بأيديهم ، لم تبقَ لهم عزائم تدفع ، وجلسوا لا يدرون ماذا يفعلون ، والنبي صلى الله عليه وسلم في وسط هذه الغمرة الرهيبة كان أبو دجانة سماك بن خرشة رضي الله عنه يقيه بجسمه ويقول : يا رسول الله ظهري أمام ظهرك ونحري أمام نحرك ، وكان النبل يأتي من المشركين ليقع في ظهر أبي دجانة حتى إن ظهره رضي الله عنه أصبح كظهر القنفذ لكثرة ما نبت فيه من سهام المشركين .

 النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الهول الهائل ، والمسلمون هناك أوزاعاً وجماعاتٍ متفرقين ، ألقوا بأيديهم لا يدرون ماذا يفعلون ؟ جاء أنس بن النضر رضي الله عنه إلى جماعةٍ فيهم عمر وطلحة بن عبيد الله وهم جالسون قد خُيّم عليهم الحزن واليأس القاتل ، فقال لهم : ما بكم ؟ قالوا : قُتل رسول الله . قال : فما تصنعون بالحياة بعده ، قوموا فموتوا على مثل ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وذهب كالصاعقة فاستقبل القوم فقاتل حتى قُتل . لكن الكلمة كانت كلمةً مؤمنةً مشجعة فعلاً ، ماذا تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ صحبةٌ ملؤها المحبة والوفاء والتفاني والإخلاص ، عمرها سـتة عشر سنة ، منها ثلاث عشراً في مكة وثلاثٌ في المدينة ، قضيتموها تسمعون نبيكم يخبركم بوحي السماء ويربيكم ويزكيكم ويذهبكم ، أفإن مات تتركون كل شيء ؟ قوموا فموتوا على مثل ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . إن الدعوة لا تتأقّت بحملتها ، ولكنها تدوم ما دامت السماوات والأرض ، والأنبياء والمرسـلون والمصلحون أدوات ومبلغون ، لئن ماتوا أو قُتلوا فإن الله حي لا يموت ، وإن هذه الدعوة باقية ما بقيت السماوات والأرض .

 إذاً فقد تشتت عزائم المسلمين ، وقاموا ينضحون عدوهم ويحاولون دفعه ، لكن عوامل اليأس ما زالت تخيّم على نفوس الكثيرين منهم بل على نفوس معظمهم ، حتى نظر أحد المسلمون فإذا عين رسول الله صلى الله عليه وسلم تزهران تحت المذفر ، تشعان كأنهما نجمان ثاقبان ، فطار به الفرح وصاح : أبشروا معاشر المسلمين هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حي ، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن اصمت . وقام المسلمون حتى أجهضوا عدوهم وحتى أسندوا إلى الجبل فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصعد على صخرة فلم يقدر لِما به من ألم الجراح ، فوضع طلحة نفسه تحته ورقي النبي صلى الله عليه وسلم على ظهر طلحة ، فصعد الصخرة ، فصعدت عالية من المشركين في بعض الجبل ونظر النبي صلى الله عليه وسلم ـ لاحظوا الحساسية أين تبلغ ـ فإذا هم فوقه ، قال : اللهم لا ينبغي لهم أن يعلوا علينا ، لا ينبغي لمشرك أن يقف موقفاً هو فيه أعلى من المسلمين ، فتصدى عمر وبعض المسلمين لهم فقاتلوهم حتى أنزلوهم في أسفل الجبل .

 هذه الواقعة وما أثارت من عواطف وما جلبت على المسلمين من أحزان لما رأوا نبيهم صلى الله عليه وسلم يجثو ويصلى الظهر قاعداً ويصلي المسلمون خلفه قعوداً ، ولِما يشاع من قتله فتتسرب عوامل اليأس في القلوب هي التي أشارت إليها الآيات الكريمة ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) انظروا على المرسلين الذين خبّر الله عنهم ، أفترون أحداً منهم على الأرض ؟ كلهم ماتوا أو قُتلوا ، ومحمد واحد منهم ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) مضت قبله أنبياء ومرسلون ، ومصيره إلى الموت ، لم يعطه الله موثقاً أن لا يميته ، بل قال له ( إنك ميت وإنهم ميتون ) أخبره أن قدر الله في الموت سيجري عليه كما يجري على جميع أبناء آدم ( أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ) يريد الله جل وعلا أن حياة الدعوة لا تتوقف على حياة الداعي ، فإن قُتل أو مات فعلى الأتباع المؤمنين المصدقين بالدعوة أن يواصلوا الطريق وأن يموتوا على مثل ما مات عليه الأنبياء والمرسلون . ( أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ) يعني ارتددتم مشركين كما كنتم سابقاً ( ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً ) ملك الله واسع عريض لا ينقصه أن يكفر من في الأرض جميعاً ( قل إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله هو الغني الحميد ) .

 ( ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ) الذين يثبتون على قواعدهم وفي مواطنهم سيجزيهم الله خير الجزاء . وأراد الله تعالى أن يصحح مفهوماً من مفاهيم الجاهلية ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً ) كثير من الناس يظن أن الشـجاعة تقرب الأجل ، وأن الجبن يطيل العمر ، وهذا من أوهام الجاهلية وعقائدها الفاسدة . والحقيقة أن الأجل مقدور ومكتوب ، لن يتزحزح ابن آدم عن أجله قيد شعرة ، لن يستقدم ولن يستأخر ، وشجاعته وإقدامه لن يقرباه من الأجل ، وجبنه وانهزامه لن يباعد بينه وبين الموت ، فمسألة الموت والحياة في قاعدة الإيمان أمرها واضح ، الإنسان له أجل لا يعدوه ، وساعة لا يستقدم عنها ولا يستأخر ، فإذا كان الأمر كذلك فالجبن نقص في الإنسانية ونقص في الإيمان ، والشجاعة شهادة على تمام الإيمان في نفس المؤمن . إذا كنتَ أيها المؤمن تعتقد طبقاً وجزماً أنك لن تموت قبل لحظتك التي هي لك فعليك أن تقدم في ساحات القتال دون شعور بالرهبة أو الخوف ، أما إن شعرتَ بالخوف وخشعت نفسك وذلّ قلبك فذلك دليل على أن في إيمانك شيئاً يحتاج إلى إكمال ويحتاج إلى صقل ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً ) ذكر الله هذين الشـيئين ( بإذن الله ) ماذا يريد الله جل وعلا من هذا الكلام ؟ الله جل وعلا ركّب في الأشياء طبائع ، ركّب في الماء أنه قابل لقطع الظمأ في العادة ، وأن النار محرقة في العادة ، ولكن الله جل وعلا أنجى إبراهيم من نار الجبار وقال ( وقلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم ) فالآلة التي تحرق بطل عملها لأن الله تعالى لم يأذن لها بالعمل ، والسيف الذي يقطع ويفصل الرؤوس ويبتر الرقاب إن لم يإذن الله له بذلك فلا سبيل إلى أن يفعل شيئاً ، قد يصيبك منه جراح ولكنه لن يميتك ، وكم من الناس في الأحياء وفي الأموات دخلوا معارك وشاهدوا الموت عياناً فخرجوا لم يصابوا بجراح ولا بشيء من هذا القبيل ، وكم من أناس دخلوا المعارك فأصابتهم الجراح القاتلة ويئس منهم الأطباء ويئس منهم الأهل والأصحاب فأذن الله جل وعلا لهم بأن يحيوا من جديد ، وإذاً فالحياة والموت ليست بالآلات والأدوات ولكنها بإذن الله ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ) فهذه واحدة .

 والثانية أن هذا الموت كتاب ، يعني قدر مقدور من الله تعالى ، وقضاء مقضي منه تبارك وتعالى ( كتاباً مؤجلاً ) له أجل لا يعدوه ، فعلى المؤمن أن يصحح معتقده في هذا الباب ، وأن يرى أنه إن لم يأذن الله فلن يموت ، وإن لم يأتِ يوم فلن يموت ، وأن المعارك وما يصحبها من متالف ومخاوف لا تقرّب أجلاً ولا تدني ساعة ولا تحتم موتاً وأن كل أولئك بيد الله تعالى ، وسوف نرى في الآيات القادمة إن شاء الله تعالى مزيداً من الإلحاح على هذه النقطة وجلاء هذه القضية ، لأن الحقيقة الواقعة أنما معارك الإسلام الأولى كُسبت بتمام هذه العقيدة ، فالمسلمون الأولون كانوا على جانب من الشجاعة يظن الجهلاء معها أنهم قوم خرق لا يعقلون ولا يفكرون ولا يحسبون ، في إحدى المعارك مع الرومان أقسم رجل من المسلمين أن يخوض في العدو ذهاباً وإياباً ، تصوّروا جيشاً من مائة ألف أو مائتي ألف ، أقسم واحد من المسلمين أن يخترقهم ثم يعود إلى أصحابه . وفعلاً ركب فرسه وانتضى سلاحه وأمعن في الجيش وذهب حتى قطعه كله ثم عاد إلى قومه سالماً ، قال بعض المسلمين : يا سبحان الله هذا يلقي بيده إلى التهلكة ، فقال مَن عنده علم بحقائق التنزيل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقولوا ذلك ، فينا معاشر الأنصار نزلت هذه الآية حينما أعز الله نبيه ونصر جنده وأظهر دينه قلنا : لو أقمنا في أموالنا نصلحلها فأنزل الله تعالى ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) فكان الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة ترك جهاد العدو والقعود في الأموال ، على هذه العقيدة رُبّي المؤمنون أنهم لا يهابون الموت لثقتهم بأن لهم أجلاً هم بالغوه ، وبأنه إذا حُمّى القضاء وجاء الأجل فلن يستأخروا عنه ولن يستقدموا ، فكانت معاركهم جميعاً نصراً مؤزراً ، لأن الإيمان هو الذي كان يعمر قلوبهم .

 نسأل الله تعالى أن يحيي في قلوبنا وقلوبكم وقلوب المؤمنين دواعي الإيمان وعوامل اليقين ، وأن يرسّخ هذه العقائد العالية في ضمائرنا وقلوبنا ونفوسنا كي ننال من أعدائنا نيلاً يرضي الله عنا ويعز ديننا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .