دروس عن غزوة أُحد
6 / 10 / 1974
( 1 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فقد استعرضنا نهار البارحة فواتح الآيات الكريمة التي تذكر أحداث غزوة أحد ، وسمعنا الله جل وعلا يستحيي هذا المشهد الحي فيخاطب نبيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فيقول ( إذ غدوت من أهلك تبوّء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم ، إذا همّت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المتوكلون ) ثم يلتفت الخطاب إلى جماعة المؤمنين ، الذين اختلفوا في شأن الخروج للقاء العدو ، فأشارت أكثريتهم بالخروج إلى أُحد ولقاء العدو هناك ، وأشار الباقون بالبقاء في المدينة وانتظار العدو داخلها .. وكان الخلاف كما شرحت الآيات خلافاً لا معنى له ، لأن الأمر لا يعدو أن يكون بالنسبة للمسلمين أمر بذلٍ للطاقة والوسع ، وبعد ذلك فالله يفعل ما يشاء .
عقبت الآيات على هذا الخلاف الذي استحرّ بين المسلمين قبل الخروج إلى أحد بتذكيرهم بأنه سبحانه نصرهم ببدرٍ ولم يكونوا في مقاييس الدنيا يستحقون النصر ( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون ) لو كان الأمر أمر عدد لعدد وأمر سلاحٍ لسلاح وأمر احتياطاتٍ وما أشبه ذلك فلقد كان المسلمون في بدر أقل الفئتين استحقاقاً للنصر ، لأنهم الجانب الأضعف عدداً وعدة ومالاً ، خرجوا على قلة في المال وقلة في السلاح وقلة في الظهر ، ومع ذلك فإن الله جلّ وعلا نصرهم في بدر النصر المبين على خلاف كل المقاييس التي يقيسها الناس في الحروب . لهذا ذكّرهم الله جلّ وعلا بهذا الدرس ( ولقد نصركم الله ببدرٍ وأنتم أذلة ) استعمال لفظ ( الأذلة ) ها هنا قلنا عنه بالأمس أنه جاء ليس بمعنى الذل الذي يسكن النفوس ، وإنما هو بمنعى القلة وبمعنى الحاجة ، وفعلاً كان المسلمون في قلة من العدد والعُدد وفي حاجة أيضاً .
لكني أريد أن ألفت النظر إلى حكمة استعمال هذا اللفظ هنا ، فالذل في كلام الناس وهن وجبن واستخذاء يصيب النفوس ، هذا ما تعارف عليه الناس ، حين يقولون : فلانٌ ذليل ، يريدون بذلك أنه جبان مهين . والمسلمون بالطبع ما كانوا كذلك بل كانوا أعزةًً بالله تبارك وتعالى ، وكانوا يحملون بين جنباتهم أنفساً شوامخ كالجبال لا تعنو ولا تستخذي ولا تذل . ولكن المسلمين في أحد يوم تجاذبوا أطراف الحديث : أنخرج أم لا نخرج ؟ أي الخطتين أحزم وأحكم ؟ وحصل حول ذلك جدل ونقاش ، واسـتُكره النبي صلى الله عليه وسلم من أجل ذلك على الخروج ، وانخذل رأس النفاق بثلث الجيش ، وهمت طائفتان من المؤمنين أن تفشلا ..
حينما ظهرت كل هذه البوادر كان ظهورها إيذاناً منذ فاتحة الأمر بأن وضع المسلمين ليس الوضع المرضي عند الله بالكامل ، هناك أشياء من أشياء الدنيا دخلت في الصف ، وما دام المسلمون بدأوا يتجاذبون أطراف الحديث ويتناقشون على طريقة أبناء الدنيا فليكن الخطاب معهم أيضاً على طريقة أبناء الدنيا .. من أجل ذلك ـ والله أعلم ـ قال لهم ( ولقد نصركم الله ببدرٍ وأنتم أذلة ) يعني في مقاييس الناس لا تستحقون في هذه المقاييس نصراً ( فاتقوا الله لعلكم تشكرون ) أي أقلعوا عن هذه النفسية التي ظهرت وهذه الاتجاهات والنوازع التي برزت ، لعلكم تتقون الله فتشكرونه على ما أولاكم من النعم وفي رأسها النصر ، فتقبلون على معارككم وأنتم تسيرون وفقاً للقوانين الإسلام ، لا وفقاً لقوانين أهل الدنيا .
( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون ) هذه الآية أيضاً شرحناه نهار البارحة . ثم يقول الله تعالى للمؤمنين للنبي عليه الصلاة والسلام مذكراً ( إذ تقول للمؤمنين ألم يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ، بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فوركم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسّومين ، وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ، ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ، ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ، ولله ما في السموات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم ) كل هذه الآيات بقية من استحياء ذكريات بدر التي لم يكن قد مضى عليها سوى عامٍ وشهر فقط . في ذلك الوقت وكما تحدد لنا سورة الأنفال وهي السورة التي ذكرت شأن بدر بتفصيل ، حين شهد المسلمون جحافل العدو وكتائب قريش ، وارتدوا بأبصارهم إلى أنفسهم ، فرأوا ما هم فيه من قلة وما هم فيه من ضعف الأبدان وما هم فيه من عري الأجسام وما هم فيه من قلة الزاد والعتاد وما هم فيه من قلة الخيل والإبل .. لجأوا إلى الله تبارك وتعالى يطلبون منه العون . كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجلس في العريش والقوم نيام ليلة المعركة ، وكان أبو بكر يقف وراءه والنبي عليه الصلاة والسلام يرفع كفيه الطاهرتين إلى السماء داعياً مستغيثاً : اللهم إن هذه قريش جاءت بخيلها ورجلها تحادّك وتقاتل نبيك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني ، اللهم إن شئت لا تُعبد بعد اليوم على الأرض أبداً . وكان رداؤه يسقط ، وكان أبو بكر رضوان الله تعالى عليه يتناول الرداء فيضعه على الكتفين الشريفتين ويقول : بعض مناشدتك ربك يا نبي الله ، فإن الله منجز لك ما وعدك . وكان المؤمنون كذلك ، يمدون الأكف داعين ضارعين ، وقص الله علينا في الأنفال نبأ ذلك ، قال الله تعالى ( إذ تستغيثون ربكم ) يعني في بدر ( فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) فالإمداد حاصل هناك ، والنص على الإمداد كان بألف ، ولعل من القراء للقرآن من يستشكل هذه الآية مضمومة إلـى الآية التي في آل عمران والتي تلوناها الآن ( إذ تقول للمؤمنين ألم يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ) في الأنفال ألف وفي آل عمران ثلاثة آلاف ، فما التوفيق بين هذا وهذا ؟ هل هنالك تضارب في آيات الله ؟ معاذ الله ، لكن بعض قصار النظر من المفسرين أعياهم أن يخرّجوا هذه القضية فعملوا الألف على غزوة بدر ، وحملوا الثلاثة الآلاف على غزوة أحد ، وهذا لا يستقيم ، فالله جلّ وعلا يقول ( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ) ويقول ( إذ تقول للمؤمنين ألم يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ) و( إذ ) كما يعرف كل قارئ لكلام العرب ونحوها ظرف يتعلق بما قبله ، وما قبله حديث عن بدر ، فالكلام متعلق ببدر قطعاً ولا داعي إلى أن يُحمَل على أنه متعلق بغزوة أُحد . بقي أن نتساءل عن صيغة التوفيق ، كل قارئ للقرآن يضيع إذا حاول أن يمزق آيات القرآن ، لا بد أن يُفهم القرآن في ضوء القرآن ، لاحظوا أولاً : أن الله جلّ وعلا قال في الأنفال ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنني ممدكم بثلاثة آلاف من الملائكة مردفين ) هذه هي القراءة المشتهرة ، مردفين بكسر الدال ، ومعنى ( مردِفين ) أي يرادف بعضهم بعضاً ويتبع بعضهم بعضاً ، على هذه القراءة يكون معنى الكلام : أن مدد الله بالألف يأتي ملك وراء ملك أو جماعة من الملائكة وراء جماعة حتى يستكملوا عدتهم ألفاً وحسب ، لكن هناك قراءة أخرى وهي ( مردَفين ) بفتح الدال لا بالكسر ، ومعنى ( مردفين ) أن هذه الألف يردفها ويتبعها مثلها ومثلها ومثلها إلى ما شاء الله ، فالثلاثة الآف التي في آل عمران يمكن أن تأوّل أنها ألف الأنفال أُردفت بألفين ألفاً وراء ألف ، هذا وجه من وجوه التوفيق ز
وجه آخر ، الملائكة يا إخوة هل رآهم أحد في معركة من المعارك ؟ بين يدينا الآثار والأخبار الواردة عن السلف رحمهم الله تعالى ، لا يذكر خبر أنه رأى ملكاً في المعركة ، وإنما بين أيدينا أخبار ، منها ما يذكر أنه سمع في الجو نداءً أو صوتاً أو ما أشبه ذلك ، ومنها ما يذكر أنهم رأوا رأس عدو يطير قبل أن يصله سيف المسلم ، ومنها ما يذكر أنهم رأوا سيماء خاصة في القتلى تشبه الحروق على أطراف الأصابع ، إلى أشياء من هذا القبيل ، يضاف إلى ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم حين همّ بالخروج إلى المعركة : أبشر يا أبا بكر هذا جبريل جاءك يقود فرسه على النطع ـ يعني على الغبار ـ . هذه الأخبار تذكر حضور الملائكة بالمعارك ، لكنها لا تذكر أن أحداً حتى الرسول صلوات الله عليه شهد الملائكة في معركة من المعارك ، وهذا واضح . فلو أن ألفاً من الملائكة صُوّروا رجالاً ودخلوا المعركة مع المؤمنين في بدر لكانت العدة ألفاً وثلاثمائة ، وهذا العدد الهائل يمكن أن يُرى ، وفي المعارك يعرف الزميل زميله ، ويعرف القرين قرينه ، وليس من المعقول أن يتلفت المسلمون فيروا الملائكة مصوّرين بصور الأهل والصحب والأقارب ، فالملائكة لم تُرَ ، لأن حقيقتها لا تُعرف ، إذاً ما هي الملائكة بل ما عمل الملائكة ؟ الله جلّ وعلا يقول ( وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به ) فهو بشرى للمؤمنين يرون من خلالها خاتمة المعركة قبل بدايتها ، وهو تطمين لقلوب المؤمنين كي لا تطير شعاعاً ، ولنفوسهم كي لا تتفرق من هول الفزع الذي يرونه أمام أعينهم ، وهم أيضاً للتثبيت ( إذ يوحي ربك للملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ) يثبتون قلوبهم ويعدونهم بالنصر ، والله جلّ وعلا تكفّل بأن يضعضع صف المشركين ( سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ) إذا كان الأمر كذلك وكان حضور الملائكة حضوراً على صعيد المعنى لا على صعيد المادة ، وعلى حضور الروح لا على صعيد الجسد ، فيمكن لنا أن نحلّ الإشكال من خلال كلام الله جلّ وعلا أيضاً .
الله سبحانه وتعالى قال للمؤمنين ( إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا ) ما النسبة بين المؤمنين وبين الكافرين ؟ النسبة واحد إلى عشرة ، فإذا عرفنا أن المؤمنين كانوا في بدرٍ ثلاثمائة ، وعرفنا أنه من المفروض أن تكون قوة كل مؤمن موازية لقوة عشرة من الكافرين .. عرفنا أنهم في الحساب الأخير يساون ثلاثة آلاف لا ثلاث مائة مقاتل . الملائكة تثبت الذين آمنوا ، أين أنهم يُوحون إلى المؤمنين من حيث لا يشعر المؤمنون بالثبات وبرباطة الجأش حتى ترتفع قواهم وترتفع معنوياتهم ويصبحوا قادرين الواحد منهم على ملاقاة عشرة ، فهم بملائكة الله جلّ وعلا ثلاثة آلاف ، وبهذا يُحل الإشكال ولا داعي لأن نقول هؤلاء الآيات في معركة كذا وهؤلاء في معركة كذا ، لأن المقطوع به سياقاً ولغةً أن الخطاب متعلق بغزوة بدر لا بغزوة أحد .
( إذ تقول للمؤمنين ألم يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ) يعني ينزلهم الله جلّ وعلا من علياء سمائه ( بلى إن تصبروا وتتقوا ) وإن حرف شرط يتعلق ما بعده بتحقيقه ( بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فوركم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ) والمسومون هم الذين يضعون على أنفسهم علامات يُعرفون بها ، لأن العلامة هي السيماء والسيماء هي العلامة . لكي يتضح معنى الآية نذكر أنه في بدر حين كان المشركون في الطريق إلى بدر لقيهم أحد رؤساء القبائل المشركة وهو كرز بن جابر ، فوعدهم بأن يُمدهم بجموعٍ كثيفة ، وسمع المسلمون بما وعد المشرك أصحابه فداخلهم الخوف ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم ( بل إن تصبروا ) على لقاء العدو ( وتتقوا ) فتنفذوا أمر الله بالصبر والثبات ( ويأتوكم من فوركم هـذا ) يعني يأتيكم المدد الذي وُعد به المشـركون ( من فورهم هذا ) حالاً ومن هـذا الوجه حينئذٍ ( يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ) لكن كرز بن جابر قبل أن تتحرك قواته سمع بأن الهزيمة لحقت قريشاً فلم يمدهم بشيء ، وعلى هذا لم يمدّ الله بالخمسة آلاف من الملائكة مسومين ، فهو وعد لو تحقق صبر المسلمين وتقاهم وجاء المدد للمشـركين لأمد الله المؤمنين بخمسة آلاف من الملائكة مسومين .
قال ( وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله ) هؤلاء الملائكة وأنتم ، لا شأن لكم في تحقيق النصر أو عدم تحقيقه ، لأن النصر ليس بكم ولا بالملائكة ، وإنما من عند الله جلّ وعلا ، ولكن الله يستخدم جنوده كيف يشاء ( ولله جنود السماوات والأرض ) ولله جنود هي الرعب الذي يسكن النفوس في صفوف الأعداء فتنهزم ، ولله جنود هي الثبات والبصيرة والسكينة التي تسكن قلوب عباده المؤمنين فتثبت وتنتصر ( ولله جنود السماوات والأرض ) ولكن المدد بالملائكة والتثبيت والتطمين هـو بشرى واطمئنان للمؤمنين ، والنصر شيء وراء ذلك ( وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ) لماذا يأتي هذا النصر ؟ قال ( ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ) بعض الناس قليلو الصبر ، قصيرو النفَس ، ضيقو الصدر ، لو تصورنا أن مُلك الله جلّ وعلا بلدة ( الميادين ) أو هذا الحضور في المسجد ، لكن هيناً أن تُحلّ الأمور بدقائق ، لأن أموراً تتعلق بعدد محصور يمكن أن تحلّ بسـرعة وبيسر ، لكن كون الله عريض وأقدار الله متشعبة ، وما الناس في هذه الأرض إلا أقل جند الله جلّ وعلا وأقل مخلوقاته ، وما هذه الأرض في كون الله الفسيح إلا ذرةٌ سابحة في الفضاء غير المتناهي ، ووراء ذلك من الأكوان ما لا يعلمه إلا الله جلّ وعلا ، وقدر الله محيط بهذا كله . وابن آدم مداركه وصبره وثباته وملكاته كلها من معطيات بيئته ومحيطه ، ومحيطه ضيق ، من أجل هذا كان ضيق الصدر قليل الصبر . الله جلّ وعلا دعاه إبراهيم عليه السلام قال ( ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ) واستجاب الله لإبراهيم الخليل ببعثة محمد الحبيب ، متى ؟ بعد ألفي سنة ، بعد ألفين من السنين استجاب الله جلّ وعلا لخليله إبراهيم .. بعض الناس يرى الشر مستشرياً في الأرض والفساد يعربد وكأن الدنيا خلت له وكأن القوى سلمت جميعاً لقهره وسلطانه ، فيضيق بذلك صدره ، وما نستنكر ذلك ، فقد ضاق صدر محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى ( وإنا لنعلم أنه ليضيق صدرك بما يقولون ) فعلى الإنسان حين يضيق صدره أن يذكر قدرة الله جلّ وعلا على أنه لو شاء لهدى الناس جميعاً ، ولو شاء لهدى الناس جميعاً ، يعني ما هدى الناس جميعاً ، لاحظوا الفرق ، لو قلنا : لو شاء لهدى جميع الناس ، لكان معنى الكلام أن جميع الناس لو أراد الله أن يهديهم لهداهم ، ولكن متى ؟ في يوم في شهر في سنة في قرن في ألف سنة في أكثر لا يهم ، لكن الله يقول ( لو شاء لهدى الناس جميعاً ) يعني لهداهم كلهم في لحظةٍ واحدة ، ولكنه لم يشأ ذلك لأنه خلاف تصاريفه وخلاف أقداره ، قدر الله جلّ وعلا مضى في الأولين والآخرين أن نجاح الحق يعتمد شيئين يتقابلان ، أولهما أن يستنفد معسكر الفساد والباطل كل إمكانية للبقاء ، أي أن يتمحض كفراً وفساداً وضيقاً وشُحاً وباطلاً وما أشبه ذلك ، ولا يبقى في جسمه مغرز إبرةٍ واحدة للصلاح . والثاني أن يتمحض معسكر الخير بتقوى الله جلّ وعلا والسمع والطاعة لأوامر هذه الشريعة ، إذا تحقق الأمران حق نصر الله جلّ وعلا للمؤمنين ، وخذلان الله جلّ وعلا للكافرين المبطلين . فالقضية ليست قضية حسابات وليست قضية سنين ، وإنما هي قضية أحوالٍ وأوضاع . إذا كان الشر قائماً ، وهو قائم في الأرض ما انقطع إلا من بعض الجهات التي يهزمها الحق فيها ، فهذا الباطل يجب أن يظهر بوجهه الكريه الكادح ، لا يبقى له مجال ولا يبقى بين يديه أي قناع يضعه على وجهه ليدعي الصلاح والخير والطيبة ، يقابل ذلك أن معسكر المؤمنين يجب أن يلتزم بدقة وبحرفية أمر الله جلّ وعلا ، ومتى وُجد هذا اشتعلت شرارة المعركة بين الطرفين ، معركة لا يتسلى فيها الباطل بالحق ، لا ، وإنما هي معركة يرى الباطل فيها مصيره من البداية ، ويرى فيها الحق عاقبة النصر مـن البداية أيضاً ، لأنها المعركة التي يحكمها الجد ، جد المؤمنين في تنفيذ أمر الله ، وجد الباطل في الدفاع عن نفسه ، في معركة حياةٍ أو موت .
الله جلّ وعلا ليس من سنته أن يترك الباطل يتبجح ، ولا أن يترك الكفر والضلال يعربد في الأرض أبداً ، ولكنه يمد له . في معسكر الباطل أخي وأخوك وابني وابنك وصديقي وصديقك ، لو التقينا من غير تمحيص ومن غير صهر في بوتقة الإيمان فربما أخذتك الشفقة وأخذتني في الولد والوالد وبالصديق وبالقريب ، لقد لبث المسلمون يا إخوة في مكة ثلاثة عشر عاماً كان الله جلّ وعلا يقدر ـ وهو القادر ـ أن يبتعث نبيه فيهاجر من أول يوم وأن ينجو من هذا البلاء الواصل ، وأن يفر بأصحابه من وجه قريش ومن رعوناتها ومن عدوانها ، ولكن الله أراد أن يعرف المسلمون على الطبيعة أن ما بينهم من قرابات ومن علاقات ومن مودات لن تنفعهم شيئاً ، وفعلاً حين التقى المسلمون في بدر لقي القريب قريبه ولقي ابن العم ابن عمه ولقي الابن أباه ولقي الأب ابنه ، وبدا أن الأرحام التي كانت تربط بين الناس لا شأن لها ولا قيمة ، متى كان ذلك ؟ بعد أن ظهر جليلاً أن الأب لا يتورع عن تعذيب ابنه لأنه آمن بالله ، وأن القريب لا يتورع عن الفتك بقريبه لأنه آمن بالله ، وقنع المسلمون تماماً أن أمر الله فوق القرابات وفوق الصداقات وفوق المصالح وفوق العلائق ، وأنه الأمر ولا أمر بعده .. حينئذٍ دخلوا المعركة وانتصروا .
فالله جلّ علا حين يملي للباطل وحين يملي للكفر والضلال وحين يسمح له بأن يسرح ويمرح لا عجزاً عنه ، ولكن امتحاناً للمؤمنين واختباراً لصبرهم من جهة ، وبياناً لهم من خلال الحوادث ومن خلال المعاناة أن كل علاقة لهم بمعسكر الباطل ، من علاقة الدم إلى علاقة الصهر إلى علاقة القربى إلى علاقة المال إلى علاقة التبعية ، يجب أن تزول ولا تبقى إلا العلاقة في الله جلّّ وعلا ، مَن كان معها فهو معنا ، ومَن كان ضدها فهو ضدنا ، إن كان أباً أو كان أخاً أو كان عماً أو كان خالاً .. فكذلك الله جلّ وعلا يملي بالباطل ، ولكن حينما يتأذن الله جلّ وعلا ببروز قاعدة الإسلام والإيمان يكون قد آن الأوان أن يقطع الله بأيدي المؤمنين طرفاً من الذين كفروا ، أن يقتل رؤوس الكافرين أو يكبتهم ، ومعنى كبت الكافرين إدخال الحزن والأسى والموجدة في قلوبهم ، وقد تحقق الأمران في بدر . في بدر جُندل في ساحة المعركة سبعون من الشرك وعتاة الضلال من الذين كانوا يؤذون رسول الله ومن الذين كانوا يفتنون المؤمنين ومن الذين كانوا يسخرون من الذين آمنوا ومن الذين كانوا يجدّفون على الله جلّ وعلا ، فقطع الله جلّ وعلا بأيدي المؤمنين طرفاً من الذين كفروا ، وكذلك كبتهم ، كبتهم بمعنى أنه أدخل الحزن إلى قلوبهم .
وفعلاً ، مكة في أعقاب بدر لم تبقَ فيه دار إلا دخلها الحزن ، لأنه قُتل لها والد أو ولد أو أخ أو قريب أو ما أشبه ذلك ، فعاشت مكة العام الطويل ، والحزن يغلي في قلوبها ، والغضب يتأكّل أحشاءها تأكلاً ، فالله جلّ وعلا قطع في بدرٍ طرفاً من الذين كفروا وكبتهم ( فينقلبوا خائبين ) متى ؟ في بدرٍ انقلبوا خائبين ، وفي أحد انقلبوا خائبين ، وفي حنين وفي الفتح في كل معركةٍ من معارك الإسلام زمن النبوة والخلافة الراشدة انقلب أعداء الله جلّ وعلا خائبين لم ينالوا من المؤمنين نيلاً ولم يحققوا غرضاً .
( ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ، ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ، ولله ما في السموات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم ) في فترات الدعوة ، وحين كان النبي عليه السلام يقابل بالصد والنكران والجحود ويواجه بالأذى والعدوان ، كان يضيق صدره كما قلت ، والرسول صلى الله عليه وسلم بشر يتأذى مما يتأذى منه الناس ويضيق صدره مما يضيق منه صدر الناس ، وتبدر منه لعنات يصبّها على الكافرين وعلى بعض الناس ، ولكنه عليه الصلاة والسلام ـ وهو الرحمة المهداة ـ كان يقول في آخر أيامه في دعائه لله جلّ وعلا : اللهم إن بشر أغضب كما يغضب البشـر ، فمن شتمته أو لعنته ، فاجعلها اللهم له رحمة . ذلك نبيكم الرحمة المهداة إلى العالمين ، حين كان يواجه بمظاهر الأذى والنكران والعدوان كان يدعو على بعض الأشخاص ، ويدعو على بعض القبائل ، والله جلّ وعلا لا يتسامح حتى مع الأنبياء في خرق القوانين وفي العدوان على ما هو من شأن الله تبارك وتعالى . الهداية والإضلال ليست إلى محمد ولا إلى غير محمد ، الهداية والإضلال إلى الله وحسب ، من شاء أن يهديه هداه ، ومن شاء أن يقيمه أقامه ، ومن شاء أن يزيغه أزاغه . والدعاء بعد ذلك شيء لا معنى له ، لأن الله جلّ وعلا لا يمضي قدره في عباده وفقاً لرغبات الناس .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما صلى ، فإذا رفع رأسه من الركوع دعا على أناسٍ بأعيانهم : اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً ، يسـميهم بأسمائهم . وكان ربما رفع رأسه من الركوع فدعا على قبائل من قبائل العرب ، وفي أُحد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تغيظ على المشركين ، والله جلّ وعلا بيّن له وللناس أنه لا شيء من أمر الهداية والضلالة إلى الناس ولا إليك يا محمد ، وإنما الأمر كله لله جلّ وعلا ، ولقد كان يدعو دائماً : اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على ديني . فالله جلّ وعلا كشف له أن الله إن أراد أن يهدي أبا جهل هداه ، وإن الله إن أراد أن يهدي إبليس هداه ، ولا معقب لأمره ولا راد لحكمه ، وليس لك ولا لأحدٍ من الناس شيء من ذلك . إذاً ارجع إلى وظيفتك وإلى مهمتك وهي البلاغ والصبر على البلاغ ( ليس لك من الآن شيء ) .
ثم ما يدريك ؟ هذا الإنسان الذي يعيش ، ينام ويصحو ويأكل ويشرب ويحارب ويسالم ويشتم ويدعو ، هذا الإنسان طالما يتردد نفَسه بين جنبيه فهو تحت رحمة الله جلّ وعلا ، تراه اليوم كافراً لكن مَن جاءك بأن هذا الكافر لن يُسلم ؟ أأنت عليم بما يكون في الغد وأن تتلو قول الله جلّ وعلا ( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ) ؟ إن الغيب لله ، وخواتيم الناس غيب مغيب عن الناس ، لا تدري على ما يموت فلان ، فربما أدركته رحمة الله جلّ وعلا من حيث لا تحتسب أنت ذلك ، أوليس وقف عمر على امرأة من المهاجرات فقال : يا أم فلان أمهاجرةٌ أنت ؟ قالت : نعم ، ضيقتم علينا وشتمتمونا وضربتمونا ، نريد أن نهاجر في أرض الله . فقال : صحبكم الله . فكأنها آنست منه رقة ، فلما جاء زوجها قالت له : لو رأيتَ ما كان من عمر . قال : ما كان . فقصت عليه القصة ، قال : لعلك طمعت في إسلامه . قالت : نعم . قال : والله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب . حتى يسلم حمار أبيه يسلم ، ولكن ابن الخطاب أسلم وما أسلم حمار الخطاب ، لو كانت القلوب بيد الناس لكانت عداوات الناس كفيلةً بصد معظم الناس عن الإيمان ، ولكن القلوب بيد الله يأتي بمن يشاء إلى حظيرة الإيمان ويصد عنها من يشاء .
ولهذا قال الله ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم ) هو حرٌ في إرادته ( فإنهم ظالمون ) فإن عذبهم فباستحقاق ، أو رحمهم فبتفضل منه جلّ وعلا . ويشاء الله جلّ وعلا أن يبين ختام هذا الدرس عملياً ، الأشخاص الأربعة الذين كان يدعو عليهم نبي الله صلى الله عليه وسلم باللعنة وبالطرد من رحمة الله أسلموا جميعاً وكانوا من خيار المسلمين ، مما يدل على أننا يجب أن لا نضيق صدراً ، وأننا يجب أن نبلغ ولا نمل من البلاغ ولا نكلّ من البلاغ ، لأن القلوب بيد الله ، وهذا الإنسان الذي يعادينا اليوم ويلحق بنا الأذى ضرباً وقتلاً وتشريداً .. حذاري أن تكون له في قلبك عداوة أو بغضاء ، ما تدري قد يكون أخاك غداً أو بعد غد ..
********** انقطع الشريط **********
وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .