أهل الكتاب 3
تكملة ثالثة عن أهل الكتاب
31 / 9 / 1974
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
نهار البارحـة أنجزنا بحمد الله تعالـى الكلام علـى قول الله تبارك وتعالى ( ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) والآيات التي مضت والأخرى التي نحن بصددها كلها كانت في سياق الكلام عن بني إسرائيل والنصارى وحول مواقفهم بصورةٍ عامة . والله جلّ وعلا يقول بعد الآية التي تكلمنا عليها أمس ( كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين ، أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، خالدين فيها لا يُخفف عنهم العذاب ولا هم يُنظرون ، إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ، إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالون ، إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يُقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين ، لن تنالوا البر حتى تُنفقوا مما تحبون ، وما تنفقوا من شيءٍ فإن الله به عليم ) عند هذه الآية الكريمة تنتهي الجزء الثالث من أجزاء القرآن الكريم بحسب تجزئة المصحف .
وننظر الآن في تفاصيل ما عنته الآيات بقدر الوسع والطاقة ، يقول الله تعالى معجّباً من مواقف أهل الكتاب ( كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات ) السؤال هنا سؤال تعجب وسؤال إنكار من وقوع الهداية ممن كفر بعد الإسلام ، وبعد شهادته أن الرسول حق ، وبعد أن رأى الآيات البينات الواضحات على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم . إلا أن يكون هذا قد تاب وأقلع عن ذنبه ثم أصلح ما أفسد أثناء كفره ، فهذا يُرجى أن يقبل الله سبحانه وتعالى توبته . حينما نرجع إلى كتب التفسير القديمة نجدها في موضوع هذه الآية تسوق سبباً للنزول ، تقول هذه الرواية : إن رجلاً من الأنصار اسمه الحارث بن سويد ، كان أسلم مع من أسلم من قومه ثم ارتد ولحق بالمشركين ، فأنزل الله جلّ وعلا هذه الآيات ( كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم بالبينات والله لا يهدي القوم الظالمين ، أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، خالدين فيها لا يخفف العذاب ولا هم يُنظرون ، إلا الذين تابوا وأصلحوا ) تقول الرواية : فحمل رجلٌ من قومه ـ يعني من قوم الحارث بن سويد ـ هذه الآيات وذهب إليه فتلاها عليه ، فقال له الحارث : والله لقد علمت إنك لصادق ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق منك ، والله أصدق الثلاثة ، ثم عاد إلى قومه مسلماً تائباً ، فيروون أن هؤلاء الآيات نزلت في شأن هذا الإنسان . وثمة روايات أخرى تذكره وتذكر ناساً آخرين معه وقع لهم ذات الشيء ، أيّما كان الأمر فيجب أن نتذكر أن ترتيب القرآن وأن بناء السورة وتنسيق الآيات في السور كل ذلك غير خاضعٍ لترتيب النزول ولا لأسباب النزول ، وإنما كان جبريل يُعرّف النبي صلى الله عليه وسلم بمكان الآية من السورة ، فإذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم كتّاب الوحي بكتبها قال : ضعوا هذه الآية أو ضعوا هؤلاء الآيات في الموضع الذي يُذكر فيه كذا وكذا من سورة كذا . فقد تكون الآيات نازلةً بهذه المناسبة ، وقد تكون نازلةً في غير هذه المناسبة ، هذا ليس مهماً .
الشيء المهم أن نلاحظ أن هؤلاء الآيات جاءت في سياق الكلام عن أهل الكتاب وحول أهل الكتاب وبياناً لمواقف أهل الكتاب ، والحارث بن سويد ومن عدّتهم الروايات القديمة ليسوا من أهل الكتاب ، فمن المعقول أن تكون الآيات متواردةً على الموضوع الأصلي ، موضوع أهل الكتاب ، ذلك أحرى أن يتحقق الانسجام في السورة الكريمة . فإذا كان الأمر كذلك فالذي نرجحه إن شاء الله تعالى ، ولو أن معظم الروايات القديمة تخصص هـؤلاء الآيات بالحارث بن سويد ، فالذي نرجحه أنه تدور حول أهل الكتاب . وأهل الكتاب هم الذين كانوا في المدينة يوم مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم ، والذين شهدوا الآيات الواضحة والدلالات البينة الناطقة بصدق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
بقي أن نتساءل : هذه الآيات تشير إلى أن قوماً كفروا بعد إسلامهم وبعد أن شهدوا أن الرسول صادق ، وبعد أن جاءتهم البينات ، فهل في وقائع السيرة النبوية ما يشير إلى أن طائفةً من أهل الكتاب آمنت ثم كفرت ؟ نقول : نعم ، هذا حدث عدة مرار ، ولو لم يحدث ولو لم تنقل إلينا الرواية شيئاً من هذا فبين أيدينا ما سبق لنا الكلام عليه من هذه الآيات ، فلا شك أنكم تذكرون ـ والعهد قريب جداً ـ أن الله جلّ وعلا قال حكاية عن أهل الكتاب ( وقالت طائفةٌ من أهل الكتاب آمنوا بالذي أُنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ) فقد كانت طائفةٌ من أهل الكتاب تتظاهر بالإيمان لغاياتٍ وأغراضٍ خبيثة دنيئة ، يقصدون بها توهين ثقة المسلمين بدينهم وزرع البلبة والشكوك في نفوسهم . فيشبه ـ والله أعلم ـ أن تكون الآيات التي قطعت رجاء المتلاعبين بقضية الإيمان منصبةً على هذا الصنف من الناس الذي كان يتظاهر بالإيمان لغايةٍ في نفسه ، ثم يعود إلى الكفر متلاعباً بحقيقة الدين .
فالله جلّ وعلا يقول ( كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق ) وواضح أن الإنسان لا يدخل في الإسلام حتى يشهد أن الرسول حق ، فباب الإيمان لا يمكن أن يُفتح إلا بلا إله إلا الله محمد رسول الله ، وما لم يشهد الإنسان بأن الله واحد وبأن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حق فما هو بمؤمن بحال من الأحوال . فهؤلاء كفروا بعد إسلامهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءتهم البينات ، شهدوا كل المعجزات وكل الدلائل التي تثبت صدق محمد صلى الله عليه وسلم . والله سبحانه وتعالى يقول ( أولئك ) يعني هؤلاء الذين يتلاعبون بالإيمان والإسلام على هذا الشكل الذي يكشف عن عدم المسؤولية وعن عدم الجدية بالموقف ( أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، خالدين فيها لا يُخفف عنهم العذاب ) بل يبقى متصاعداً في الشدة ( ولا هم يُنظرون ) يعني ولا يؤخر عنهم العذاب إلى مدةٍ معلومة ( إلا الذين تابوا وأصلحوا ) بالرغم من كل ما يفعله الإنسان من كفر ومن جحود فالله الرحيم والله المنعم المتفضل لا يغلق الأبواب في وجه الإنسان إذا جاء تائباً منيباً ، جاء بقلبٍ سليم . بل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ، وللتوبة باب مفتوح لا يُغلق حتى تطلع الشمس من مغربها ، فكل ما يفعله الإنسان إذا أعقبته توبة نصوح وأعقبه ندم صادق فالمرجو أن الله جلّ وعلا يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات .
ولهذا قال الله جلّ وعلا بعد حكاية التلاعب في حقائق الإيمان ( إلا الذين تابوا ) فهؤلاء التائبون لا ينطبق عليهم وصف الجزاء الذي ذكرته الآية ( أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون ) هؤلاء التائبون سوف لا ينالهم هذا العذاب الأليم الذي لا يُفتّر عن صاحبه ولا يؤخر عنه دقيقةً واحدة . ذلك لأن التوبة ماحيةٌ للذنب ، ولكن للتوبة توابع ، والله جلّ وعلا ذكر في هذه الآية تابعاً مهماً قال ( إلا الذين تابوا وأصلحوا ) فلا بد مع التوبة من الإصلاح ، تصوّر أنك كنتَ ذات يومٍ شيوعياً لا تؤمن بالله ولا تدين باليوم الآخر ولم يقتصر أمرك على نفسك وإنما كنتَ ذا نشاطٍ وحركة ، وفي نشاطك وحركتك أفسدتَ عشراتٍ من الناس ، ثم بدا لك أن تتوب ، وقلتَ : آمنت بالذي لا إله إلا هو ، آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل ، هل انتهى الأمر بالنسبة إليك ؟ لا يا صاحبي ، لا لم ينتهِ الأمر ، إنك بكفرك لو بقيت ضمن دائرة نفسك فمن المعقول أن تكون توبتك فحسب ماحية للذنب ، لكنك كفرتَ وأفسدتَ وعطلتَ وخربتَ ، وتوبتك لا يمكن أن تقف عند هذا الحد ، لا بد أن تصلح ما أفسدتَ ، فكّر بالذين خرّبت نفوسهم ، فكّر بالذين زلزلتَ عقائدهم ، هؤلاء ذنبهم في رقبتك ، تأتي يوم القيامة تحمل وزرك ووزر كل الذين أفسدتَ ذممهم وضمائرهم وخرّبتَ قواعد الإيمان في نفوسهم . لا بد لقبول توبتك من أن تصلح الذي أفسدتَ ، ولهذا قال ( إلا الذين تابوا وأصلحوا ) وفي آيةٍ أخرى ذكرت في شأن الكافرين ( إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا ) فموضوع التوبة إذن موضوع يضيق ويتسع ، إذا كان الذنب قاصراً على الفرد فمجرد التوبة يكفي ، أما إذا كان الذنب متعدياً إلى الغير فالتوبة وحدها لا تكفي ، لا بد مع التوبة من إصلاح ما أفسد الإنسان ، وإحساساً بهذا نجد الصحابة رضي الله عنهم كعمر رضي الله عنه وأمثاله كانوا بعد الإسلام يذهبون إلى مواطن الشرك فيسيؤون إلـى المشـركين بقدر ما كانوا يسـيؤون إلى المسلمين وهم على الشرك .
ثم يقول الله تعالى ( إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون ) هذه الآية تحتاج إلى فضل تنبّوء ، قبل قليل كنا نقول إن الإنسان يكفر ويستمر على الكفر سنين عدداً ثم يطرق باب التوبة بقلبٍ منيب فيُفتح له ، لا يحول بينه وبين الله حاجة ، فما بال الآية هنـا تقول ( إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم ) ثم تشدد عليهم ( وأولئك هم الضالون ) ولا تستثني التائبين كما استثنتهم في الآية الأولى ، يجب أن نلتمس في القرآن حلولاً لمثل هذه المشكلات ، لا نؤمن بعقولنا لأن عقولنا أعجز من أن تدرك مرادات القرآن ومرادات الله جلّ وعلا دون معونةٍ من آيات القرآن ، نحن كنا نقرأ آياتٍ مشابهة ، والآيات المشابهة كثيرة ، لكنا على وجه الخصوص حين نأتي إلى سورة النساء فنقرأ فيها قول الله جلّ وعلا في المعنى ( إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ) لاحظوا التردد هنا بين الإيمان والكفر ( إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليهديهم سبيلاً ) هاهنا أيضاً قطع الله جلّ وعلا أملهم في قبول التوبة ، لكن إلى هنا فالآية لا تنير لنا القضية ، نقرأ ما بعدها ، يقول الله بعد هذا الكلام مباشرةً ( بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً ، الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً ) وإذاً فهنا المسألة ويبدو من هذه المقارنة أن المراد بالآية ( إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون ) هم صنف المنافقين ، وصنف النافقين صنف ممن أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر ، هم في الحقيقة كفارٌ أصليون ، ولكنهم إما للطمع وإما لمحاولات الإفساد والدس وزعزعة الصف المسلم تظاهروا بالإسلام ، ولكنهم على الحقيقة كافرون عن عمد وعن تصورٍ وتصميم ، مصممون على أن يبقوا في هذا الدرب المظلم أبداً ، ولهذا قال الله عنهم ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً ) فهذا الصنف الذي لا تقبل توبته هم المنافقون لأنهم لا داء لهم في أن تصطلح أحوالهم وأن تضيء جنبات نفوسهم بهذا .
ثم يذكر الله جلّ وعلا صنفاً ثالثاً ( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولن افتدى به أولئك لهم عذابٌ أليم وما لهم من ناصرين ) التكذيب والأمر والنهي ما ميدانه ؟ ميدانه هو الحياة الدنيا ، طالما أنت في الدنيا تملك شعورك وعقلك وتملك حريتك وإرادتك فأنت مكلف ، وطالما أنت مكلف فأنت تحت الذنب والمثوبة ، إن عملت صالحاً أثابك الله وآجرك ، وإن عملت سوءاً جزاك الله سبحانه وتعالى بالسوء وبما يستحقه العابث بأوامر الله جلّ وعلا . لكن حينما تنطفئ أنفاسك وتخرج من الدنيا إلى الآخرة فالآخرة ليست داراً تكفيك ، ولا يجوز للإنسان أن يفعل فيها فعلاً يطلب ثوابه من الله جل وعلا ، الآخرة دار ثواب والدنيا دار تكليف ، والإنسان إذا كان كافراً ولم يُحدث توبةً ولم يستكمل نقصاً ولم يستشعر ندماً حتى أدركه الموت فلا توبة له عند الله ولا فدية ، فالإنسان طالما هو في الدنيا يأخذ ويعطي ، وطالما أن إرادته بيده يستطيع أن يتوب ، فإذا غرغر العبد ، إذا بلغت الحلقوم ، أُغلق في وجه باب التوبة ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر . هذا الصنف الثالث خرج من الدنيا بغير توبة ، وحين يخرج على الكفر من غير توبة فلا شيء له عند الله جلّ وعلا ، بل له العذاب الأليم ، هذا المخلوق التعيس الذي فرّط في ذات الله وأهمل نفسه وما قدر الله حقّ قدره لو كان في الآخرة يملك ما في الأرض ذهباً ثم كان له أن يفتدي به من العذاب لافتدى ، ولكن أنى له ذلك ، لا سبيل إلى فدية ولا سبيل إلى أن يستنصر أحد بأحد . هذه المواقف وهذه الأجزية جميعاً هي حقائق ثابتةٌ على بني إسـرائيل وعلى النصارى يعني أهل الكتاب جميعاً ، والمسلمون إن شاء الله تعالى مبرّأون منها .
قبل أن ينتهي الجزء يقول الله جلّ وعلا ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيءٍ فإن الله به عليم ) هذا الكلام متى جاء ؟ جاء بعد استعراض طويلٍ لحقائق الإيمان ، استعراضٍ طالما يقرب من سبعين أو خمسٍ وسبعين آية في السورة ، جاء ليدل على أن كل الأعمال التي يُكلّف بها الإنسان من قِبَل الله جلّ وعلا فإنما هي وسائل ، وسائل تؤدي إلى غايةٍ عظيمة هي دخول الإنسان إلى البر ، والبر ليس في المظاهر ولا في الحركات والسكنات ، وكما قال الله جلّ وعلا في سورة البقرة ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قِبَل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القرب واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) فالبر حالةٌ نفسية وشعورية تدل على كمال البناء ، تدل على أن الإنسان وصل إلى الحالة التي يُرضي الله جلّ وعلا في كل ساعةٍ من ساعاتها وكل حركةٍ من حركاتها ، لم تبقَ له أطماع ولم تبقَ له شهوات ولم يبقَ أمام ناظريه إلا الله جلّ وعلا . هذه المنزلة العالية ليست أمنية يتمناها الإنسان ولا حلماً يحلم به اليقظان أو النائم ، ولكنها ثمرة المجهود الضخم ( لن تنالوا البر ) يعني لن تصلوا إلى هذه المنزلة ( حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيءٍ فإن الله به عليم ) أحسب أن الكثيرين ينفقون ، ينفقون من طعامهم وينفقون من أموالهم وينفقون من ثيابهم وينفقون من دراهمهم ، لكني أحب لكل أحدٍ أن يتنبه إلى أن الله جلّ وعلا قال في آخريات سورة البقرة ( ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ) فالإنسان قد يتخير خسيس المال فينفقه في سبيل الله ، وهذا ينفق من أجل من ؟ من أجل الله ، إذاً هو يقدم نفسه على الله ، يؤثر نفسه بالطيب ويُخرج الخبيث لله سبحانه وتعالى ، الإنسان حينما يسكب طعامه في البيت لا يعمد في الغالب إلى خير ما في الإناء وإنما يعمد إلى آخر الإناء إلى أسوء الطعام : اذهبوا به إلى بيت فلان . هذه النفقات ليست شيئاً يوصل إلى البر ، في الحقيقة لا يمكن أن تصل هذه المنزلة حتى تعمد إلى أحب الأشياء إليك فتنفقها ابتغاء مرضاة الله جلّ وعلا . مع الزمن تعوّد نفسها أن لا يحلو في عينك شيء في سبيل مرضاة الله جلّ وعلا ، لماذا يبخل الباخلون ولماذا يجبن الجبناء ولماذا يتورط كل إنسانٍ فاسدٍ في كل رذيلةٍ فاسدة ؟ بسبب الحرص على الدنيا والشح وحب النفس والذات ، حينما يمرر الإنسان نفسه على الانسلاخ من كل هذه الأشياء يصل إلى مرتبة البر ، المرتبة التي يشعر الإنسان أن الدنيا كلها في يده ولكنها ليست في قلبه ، إذا كان الكافر مستعبداً للدنيا فإن المسلم يستعبد الدنيا ولا تستعبده الدنيا بحالٍ من الأحوال .
حين نزلت هذه الآية جاء أبو طلحة رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني سمعت الله جلّ وعلا يقول ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) وإن أحب أموالي إلي بِيرحاء أو بَيرحاء ، وهي بئر يعني بستان مواجهة للمسجد في المدينة ، كان فيها بستان وفيها ماءٌ عذب طيب يُستقى منه للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فضعها يا رسول الله حيث أراك الله صدقةً أرجو برها وذخرها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بخٍ بخٍ ـ يعني كلمة استحسان ـ ذاك مال رابح ذاك مال رابح ـ يعني صفقة رابحة ، وإني أرى أن تضعها في الأقربين ـ يعني تقفها على أقربائك ـ قال فقسمها أبو طلحة بين أقاربه وبني عمومته . وجاء عمر رضي الله عنه حين نزلت هذه الآية فقال : يا رسول الله إن أحب المال إلي سـهمي الذي بخيبر وإني أضعه صدقةً في سبيل الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : احبس الأصل وشدد الثمرة ، يعني اجعل الأصل يعني الأرض وما عليها من أشجار وقفاً دائماً واجعل ثمرة الأشجار وغلة الأرض في سبيل الله جلّ وعلا . وذات يوم كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما جالساً فتذكر الآية الكريمة ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) فنظر فإذا أحبٌ شيءٍ إليه جاريةٌ من جواريه رومية اسمها ريحانة أو مرجانة فأعتقها في سبيل الله جلّ وعلا . وكان يقول : لو كنت راجعاً في صدقةٍ خرجت عنها لله لتزوجت جاريتي الرومية ، ولكنه لم يفعل بل زوجها لمولاه نافع عبده وحامل علمه ، فكان ذلك خلق الأصحاب رضي الله عنهم .
أكثر من ذلك يا إخوة ، بعض الأصحاب كان بمجرد أن يجذبه الشيء يتركه ، أحد الأصحاب دخل إلى بستان له فلفت نظره عصفور يزقزق على الشجرة ، فانتبه والتفت إلى الأشجار وإلى الثمار ، فكأنه أُعجب بما رأى ، فقال : يا سبحان الله ، هذا كله صدقةٌ لله أرجو برها وذخرها . كي لا تستعبدهم الدنيا يا أبناء الآخرة لا أقول يا أبناء الدنيا ، كانوا يفعلون هكذا ، وبذلك سادوا وشادوا ، لم تكن الدنيا تعني عندهم شيئاً ، لم تكن أكثر من بلاغ ( إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار ) فلما خلفت الخلوف وانطمست البصائر وسكنت الدنيا وأشياؤها قلوب الناس فيبسّتها وجففتها كان ما كان مما تعرفونه وما لستم أنتم بحاجةٍ إلى أن تُذكّروا به . يكون المسلمون رجالاً يوم تكون الدنيا عندهم هينةً في جنب في الله جلّ وعلا ، ويكونون أذلةً حين يكون للقرش والدرهم والدينار مكان ومنزلةٌ عندهم ، لم يكن أحدٌ من المسلمين الخيار يفكر في الغد ولا يفكر فيما يأتي به الغد ، إن جاء شيء حمدوا الله وإن لم يأتِ شيء صبروا ، ذلك بأنهم واثقون بأن كل شيءٍ عند ربك بمقدار ، الله جلّ وعلا علل للمسلمين هذا قال ( ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتابٍ من قبل أن نبرأها ) قبل أن يُخلق الخلق ، مقدّر عليك أن يصيبك كذا وكذا وأن ترزق بكذا وتحرم من كذا ، إن ذلك على الله يسير ، لماذا ( لكي لا تأسوا على ما فاتكم ) نحن في بعض الأحيان نسعى نحو قضية فتفوتنا القضية وتفلت من أيدينا ، فالمسلم لا يأسى ولا يغضب ولا يتألم ، ذلك بقدر ( ولا تفرحوا بما آتاكم ) يعني ولكي لا تفرحوا بما آتاكم ، ما يأتيك أو يذهب منك فعلى حدٍ سواء ، فالحرص على الدنيا والشح والبخل والكزازة ويباسة اليد أمورٌ لا معنى لها ، أنت مرزوق دون ريب ، إذا كان الله يرزق الطير تغدوخماصاً وتروح بطاناً ، إذا كان يرزق الكلاب على المزابل ، فكيف الإنسان ؟ لماذا تفكر بهذه الأمور مثل هذا التفكير الطويل وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نَفَس في روعي الروح الأمين ـ يعني جبريل ـ أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها ـ لا يمكن أن يخرج آخر نَفَسٍ لك ولك في هذه الدنيا شربة ماء أو لقمة خبز ـ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ـ يعني لا تذلوا أنفسكم ولا تهينوها في ابتغاء الدنيا . تلك قواعد لو التزمها المسلمون لوصلوا إلى البر .
بهذه الآيات أيها الإخوة نكون قد أنهينا الجزء الثالث من القرآن الكريم حسب تجزئة المصحف ، مستعيناً الله جلّ وعلا على استقبال ما تبقى من هذه السورة آملين أن نباشر الجزء الرابع غداً إن أحيانا الله وأحياكم ، سائلين المولى لنا ولكم الهداية والعتق من الشهوات وصلى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.