حياة الناس اليوم
حياة الناس اليوم
25 / 9 / 1974
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فمنذ ألف سنة كان واحد من شعرائنا العظام يصوّر الصراع الأبدي الأزلي بين الأجيال الماضية والأجيال اللاحقة ، ويشير إلى ما يزدحم في نفوس الجيل القديم الماضي من أسى وحسرة ، فيقول مصوراً هذا الصراع على الدنيا بين جيلين :
تملكها الآتي تملك سالب ..... وفارقها الماضي فراق سليبِ
كذلك كان الشاعر العربي المتنبي يصور هذه الظاهرة الإنسانية الخالدة ، وهي ظاهرة تصدق على الأفراد كما تصدق على الجماعات ، ولا شك ان الواحد من الناس إذا ارتفعت به السن وطال في طريق العمر كان له خلف يصافحون الدنيا من جديد بحرارتها وبنضارتها وبجمالها وبقيمها الجديدة وبكل ما تعطيه من نفس الإنسانية من إمكانيات غامرة في مستقبل واعد . إن هذا الرجل الذي يدلف في طريق المشيب يرى الجيل الجديد جيلاً فتياً قوياً ، ولكنه يختلف معه في النظرة إلى الأشياء وفي تقييمها وفي الموقف من كثيرٍ من الأمور وهو ـ أي الجيل الشائب ـ يرى أنه بحكم السن وبحكم التجربة وطول الممارسة مع الحياة والمعاناة مع الأحياء أولى لأن يكون صاحب النظرة السليمة وأحق بأن يُسمع لرأيه وأن يؤخذ بوجهة نظره ، ولكن المفارقة المؤسية هي أن هذا الجيل الجديد يقبض على أسباب الدنيا بيد الفتوة والعزم ، وهو كل يوم يزداد متانةً وصلابة . وهذا الجيل القديم يتشبث بالدنيا تثبّت السليم بما نفس السليم من مرارة وحسرة وألم وثقةٍ بأنه مفارق ومودع .
من هنا تظهر هذه الأمور المضحكة المبكية بين الأجيال ، جيلٌ جديد يدافع عن قيمٍ غامضة لم تثبت التجربة منها شيئاً ، وجيل قديم يدافع عن قيمٍ بالية مهترئة ولكنه يتمسك بالدفاع عنها بوجهات نظرٍ تدعو إلى الضحك والإشفاق وفي كثيرٍ من الأحيان تدعو إلى السخرية والرثاء . هذه الملحمة المستمرة عند الأفراد إنما هي تحمل بين الجماعات ، كما تكون بين الدعوات ، ونحن هنا أمام واحدةٍ من مشاهد هذه الملحمة الخالدة .. أعتقد أن الكثيرين منكم يذكرون ما قلناه مراراً وفي هذا المكان وفي غير هذا المكان : إن القاعدة الرئيسية في النبوات أن الله سبحانه وتعالى لا يبعث رسولاً ولا ينزل كتاباً إلا إذا اندرست معالم الهداية جميعاً ولم يبقى على وجه الأرض من تقوم به الحجة لله على الناس . وطالما أن زاويةً من الأرض فيها بصيص من نور فيها شيء من هداية فلا مبرر أبداً لإرسال رسول ولا لإنزال كتاب . وفي حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه وهو المشهور في مجاميع الحديث بقصة إسلام سلمان رضي الله عنه ، ذكر أنه كان على دين المجوسية ، والمجوسية ديانة تعتقد أن العالم يحكمه إلهان ، إله للخير وإله للشر ، إله النور وإله الظلمة ، والخير له إله النور والشر له إله الظلمة ، وكانت من شعائرهم أن يوقدوا ناراً تستعر ولا تنطفئ أبداً ، وهذه الديانة بما فيها من سخف ولا معقولية ما تزال لها بقايا تعيش على الأرض حتى مع استبحار العمران ومع تقدم المدنية ومع شيوع العلم . وهذا يكشف لكم عن ناحيةٍ تدعو إلى الأسى وهي أن عقل الإنسان وإن كبر وإن سما وإن عظم وإن علا دائماً وأبداً تبقى فيه زاويةٌ قابلة للسخافة ولما هو غير معهود .
ولهذا فعلى كل إنسانٍ أن لا يزداد ثقةً بعقله ، وأن يقود عقله بمقادة الشريعة في ضوء كتاب الله جلّ وعلا وسنن النبي صلى الله عليه وسلم .. كان سلمان رضي الله عنه على دين المجوسية ، ولكنه ككل شابٍ نابه ، ذكي القلب مستنير العقل ، يشعر بأن هذه العبادة ليست شيئاً ، وبأن قومه الذين يزمزمون حول النيران ليسوا على شيء ، ولكن هذا الشعور وحده لا يكفي ، فالفلاسفة والمفكرون والعلماء والحكماء منذ كانت الدنيا يشعرون بمثل هذه المشاعر ، ومع ذلك هم يظنون ، لأن هذه المشاعر لا تولّد إلا الخيالات المريضة والأفكار المضطربة ، أما الذي يهدي وينير الطريق مع هذا الشعور بعدم معقولية الحياة ومع هذا الشعور بسخافة كل ما عليه الناس فهو هداية الله وهو وحي الله الذي يقود الإنسان إلى الهدى بعد الحيرة والشك والاضطراب .
كان سلمان رضي الله عنه يشعر بهذه الحيرة ، ولكنه لا يملك مفاتيحه ، حتى إذا كان ذات يوم خرج فوجد أناسـاًً يمارسون في العبادة طقوساً غير ما يألف ، فسألهم فقالوا : إنا نصارى . وأعجبته هذه العبادة وأعجبته هذه الطقوس ، فلازمهم ، وسأل عن مقرهم فقالوا : الشام ، وأوصاهم إذا قدم وفد من رجال الروم ثم أرادوا العودة إلى الشام أن يخبرونه ، فأخبروه حين جاء الوفد فهرب معهم . القصة طويلة يستطيع أن يرجع إليها من أرادها في كل كتابٍ من كتب الحديث المعتبر ، المهم أن سـلمان ذهب فكان عند راهب ، فوجده تقياً عابداً عالماً ، فكان معه حتى أدركته الوفاة ، فقال له : يا فلان إنه قد حضرك من أمر الله ما ترى ، دنت الوفاة ، وإني لا أعلم أين أذهب فأوصني ، قال : إني لا أعلم أحداً على مثل هذا الأمر إلا صاحباً لي في نواحي العراق ، ثم أغمض عينه إغماضته الأخيرة فجهزه سلمان ودفنه ومضى إلى الذي أشار عليه صاحبه . ولما كان من أمر صاحبه الجديد ما كان طلب إليه أن يدله ، فقال له : ليس على ظهر الأرض إلا رجلٌ واحد على مثلما أنا عليه فدله عليه فذهب إليه ، فلما دنت وفاته سأله السؤال التقليدي ، فقال له الراهب : لا أعلم اليوم على ظهر الأرض أحداً على ما أنا عليه ولكن قد أظلك ـ يعني قاربك زمان ـ يرسل الله فيه نبياً من ولد إسماعيل عليه السلام ، وإن محله ومبعثه ومهاجره في جزيرة العرب ، فالتمس الدين هناك . فذهب سلمان وكان عبداً رقيقاً عند بعض العرب حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فرآه وآمن به وأسلم على يده ، وقصّ عليه قصته التي ذكرنا موجزاً لها .
العبرة من هذا أن سلمان وهو يفتش عن الدين الحق تقلّب بين عددٍ من الرهبان كانوا على أثارةٍ من علم الكتاب الأول ، وكانوا على بقيةٍ من دين عيسى صلى الله عليه وسلم . فإذا عرفتم أن النصرانية حين نشأت ذهبت الأناجيل التي تُنسب لعيسى ، ذهب إنجيل عيسى عليه السلام من وجه الأرض ، وأما الأناجيل التي تُدرس بين الناس اليوم هي مجرد سيرٍ كُتبت بعد وفاة عيسى بزمنٍ طويلٍ من السنين ، وأما الذين تمسكوا بمبدأ التوحيد ودافعوا عنه لقوا من الرومان والذين اشتروهم من أغنياء النفوس من النصارى عبثاً وإرهاقاً وإرهاباً ومطاردة ، وأما الذين كانوا يحملون حقيقة التوحيد وحقيقة الإسلام في دين عيسى صلى الله عليه وسلم كانوا مشردين في أنحاء الأرض .. إذا عرفتم هذا علمتم كيف تنعدم الهداية من وجه الأرض زمناً بعد زمن وكيف يندرس العلم بذهاب عالمٍ في إثر عالم . فالإسلام حين جاء لم يأتِ وليس في النصرانية كلامٌ يقال ، والنصرانية حين ساءت لم تأتِ ولليهودية كلمةٌ تُقال ، اليهودية بمبعث عيسى استنفذت أغراضها وذهب منها كل كل معالم الهداية بسبب عبث الكهان والأحبار والرهبان ، والنصرانية حين بُعث محمد عليه السلام كذلك انطفأت منها شموع الهداية جميعاً ، أيضاً بفعل عبث الرهبان وتحريفهم وابتغائهم ما عند الناس واجتراء ما عند الناس بما عند الله جلّ وعلا . فهذا القانون يجب أن يبقى في أذهانكم ، أولاً : لأنه لا يجوز لنا أن نطلق على النصرانية لفظ دين ، ولا يجوز لنا أن نطلق على اليهودية وصف الدين ، لماذا ؟ إن الله يقول ( إن الدين عند الله الإسلام ) ويقول ( ومن يبتغي غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) فكيف نوفّق بين حصر الدين بواحد وهو الإسلام وبين تعداد المغفلين منا الدين الإسلامي والدين اليهودي والدين المسيحي والدين المجوسي والدين الزرادشتية ، لماذا ؟ يُطلق وصف الدين على حركات ماتت منذ زمنٍ طويل منذ آلاف السنين ؟ لماذا يُطلق وصف الدين على حركاتٍ ودعواتٍ لم يبقَ لها من أوصاف الدين لا قليل ولا كثير ؟ لماذا يُطلق هذا الوصف على دعوات استوعبها الإسلام ونسخها الإسلام وقذف الإسلام ببقاياها بعيداً عن حظيرة الإيمان وبعيداً عن دائرة الدين .
فنحن باعتبارنا مسلمين لا يجوز لنا بتاتاً أن نعترف بأن النصرانية على الوجه الذي هي عليه الآن ديانة مقدسة ، كما لا يجوز لنا أن نعتبر اليهودية بما هي عليه الآن ديانة مقدسة ، وأخشى أن أقول إن الذي يعتبر النصرانية اليوم ديانة ويعتبر اليهودية ديانة .. أخشى أن أقول إنه ذو إيمانٍ مهددٍ بالزوال ، فهذا يتصادم مع معطيات القرآن الكريم .
علينا أن نعتقد أن جميع الديانات التي سبقت الإسلام استنفدت أغراضها ونُسخت بهذا الإسلام ولم يبقَ لها حق قليل أو كثير في الدفاع عن قضية الإيمان وتبني قضايا الهداية في وجه الأرض ، منذ الآن وإلى أن تقوم الساعة . وإذا استطعنا أن نستوعب ولو لحظةً واحدة أن النصرانية يمكن أن تخدم قضية الإيمان بشيء فنحن على خطرٍ كبير . وإذا استطعنا أن نستوعب ولو لحظةً واحدة أن اليهودية يمكن أن تخدم قضية الإيمان ولو لحظة من زمان فنحن على خطرٍ عظيم في إيمانا وفي اعتقادنا . هذه حقيقةٌ يجب أن تظل حيةً في نفوس المسلمين ، ليعلموا أن قضية الإيمان ليس لها إلا المسلمين ، وليس لها من حلٍ إلى في هذا الإسلام ، وأن المجامع التي يتداعى إليها الناس بفعل الاستعمار وتحريضه وبفعل التبشير ودفعه وبفعل الصليبية ودوافعها الكثيرة وأجهزتها المتعددة .. الدعوات التي تنطلق للتوفيق بين اليهودية والنصرانية والمسلمين دعواتٌ مريبة مشبوهة ، والدعوات التي تنطلق قاصدةً أن تجمع أبناء الديانات الثلاثة في موقف دفاعٍ عن حقائق الإيمان ضد الشيوعية والإلحاد دعوات مريبة زائفة ، نحن نقول : إن الشيوعية بنت الحضارة البيزنطية ، وإن الماركسية وليدة الحضارة الأوروبية ، وإن الماركسية بما هي عليه الآن وفي أصول التفكير لا تتصادم مع النصرانية ، والنصرانية بوسائلها الضعيفة وأسبابها العاجزة عاجزة بتاتاً عن أن تقهر الشيوعية في أية معركةٍ من المعارك ، وآية ذلك أن دول أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا الشرقية تتساقط واحدةً بعد أخرى في أحضان الماركسية والشيوعية . وأن الدفاع عن حقيقة الإسلام وقضية الإيمان والتصدي للماركسية والشيوعية وللإلحاد ليس مهمة النصارى ولا مهمة اليهود ، فماركس يهودي ، وأنجلز نصراني ، وكلاهما عملاقا الشيوعية العالمية . الذين يتصدون للشيوعية والإلحاد والتحلل والميوعة والفساد هم المسلمون فقط . لهذا نقول : نحن لا ينبغي لنا أن نعتقد بأن النصرانية على شيء ولا أن اليهودية على شيء .
أيضاً ، شيء آخر في هذا المجال يجب أن يُذكر ولا يُنكر ، وهو أن النصرانية واليهودية بعد أن فشلتا في حمل معالم الهداية إلى الناس ، وبعد أن اضطربت الأرض من تحتهما ، أصبحتا تتمسكان بمواقف سخيفة ، ما معنى الخلاف على التسميات ؟ هل صحيح أن لله ديناً اسمه اليهودية أو أن لله ديناً اسمه النصرانية ؟ اقرأوا القرآن واسمعوا ماذا يقول الأنبياء لأقوامهم ، واسمعوا بماذا يسمي الأنبياء دعواتهم ، إن القرآن يسمي رسالة كل رسول الإسلام ، وكل رسول يعلن أنه مسلمٌ لرب العالمين ، فالإسلام هو دعوة الأنبياء جميعاً ، وهو رسالة الله على ألسنة الأنبياء جميعاً . ولم يكن لله جلّ وعلا في يومٍ من الأيام دينٌ اسمه اليهودية ، وليس له دينٌ اسمه النصرانية ، اليهودية نسبةٌ إلى يهود وإلى قبيلةٍ من قبائل بني إسرائيل ، كما تقول فلانٌ من القبيلة الفلانية أو من القبيلة الفلانية ، والنصرانية نسبةٌ أيضاً إلى بلدٍ في فلسطين اسمه الناصرة ، هو البلد الذي وُلد فيه المسيح صلى الله عليه وسلم . فالنصرانية نسبةٌ إلى البلد ، واليهودية نسبةٌ إلى القبيلة ، ودين الله لا يجوز أن يكون نسبةً إلى بلدٍ ولا نسبةً إلى قبيلة ، دين الله نسـبةٌ إليه تبارك وتعالى ، ولذلك سمّاه الإسلام وقال ( هو سماكم المسلمين من قبل ) فلا يوجد قانون في الديانات لله دين اسمه كذا واسمه كذا ، وإنما الدين عند الله هو هذا الإسلام .
مع ذلك فمن سـخف اليهود والنصارى ومن بعض مواقف اليهود والنصارى ، وهما دعوتان شاختا وهرمتا وتزعزعت الأرض من تحتهما وبدأت شمسهما تغب ، وحق عليهما القانون الأبدي الأزلي الذي أشار إليه المتنبي أنهما يتمسكون بالقشور وفي نفوسهم حسرة المغلوب الواثق بأنه مودّع ، وبأن الجيل الطالع له كل شيء وبأنه هو لا شيء له ، تمسكوا بقشور لا معنى لها في وجه خصامهم مع محمد صلى الله عليه وسلم ، ومع هذه الدعوة الجديدة . كانوا يثيرون في الآن بعد الآن استغراباً من أين جاءت هذه التسمية التي هي الإسلام ؟ ويقولون إن الدين هو اليهودية ، هكذا يقول اليهود ، ويقول النصارى : إن الدين عند الله هو النصرانية ، ويدعون إلى أنفسـهم وقالوا ( وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا ، قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ) فهؤلاء يدافعون عن قضية خاسرة هي أن الدين هو النصرانية أو هو اليهودية ، والله جلّ وعلا يردُ عليهم هذا السخف الذي لا معنى له والذي هو نتيجةٌ طبيعية لموقف الضعف والانهيار الذي تعيش فيه اليهودية والنصرانية جميعاً ، يقول لهم بعد كل الآيات التي تلوناها ( أفغير دين الله يبغون ) يعني يريدون ( وله ) يعني لله ( أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون ) هل يطلب هؤلاء اليهود والنصارى ديناً غير دين الله ؟ إن كانوا يطلبون دين الله فدين الله هو الإسلام ، لأن الإسلام هو الاستسلام والإزعان والانقياد لأمر الله جلّ وعلا ، وهذه الخاصة لا تنطبق على بني البشر فقط ، وإنما هي خاصة الموجودات جميعاً ( إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداًً ) ( وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً وقد أحصاهم وعدهم عداً ) فالله سبحانه وتعالى خلق الكون بما فيه من أناسي وبما فيه من حيوان وبما فيه من نبات وبما فيه من جامد وصامت وناطق ، وهذه الأرض وبقية الأجرام التي تسبح في الفضاء ما نراه منها وما لا نراه ، كل هذا عبدٌ لله جلّ وعلا خاضع مطيع ذليل مستسلم يجري وفق سنة الله ووفق القوانين التي ركّبها الله جلّ وعلا في هذا الكون البديع ، هذه الشمس التي تشرق من المشرق وتغرب من المغرب ، لو أنها كانت أعلى مما هي عليه أو أخفض مما هي عليها لاختل نظام الكون وفسدت الحياة ، هذا القمر الذي يجول في السماء ليلاً يظهر في المواعيد التي يظهر فيها لتغير نمط الحياة ، ومع ذلك لو أن خللاً دخل وطرأ على نظام الموجودات ولو قليلاً لتعطلت السماوات والأرض ومن فيهم . ثمة قانونٌ دقيق محكم يحكم كل شيء في هذا الوجود ، العنصر الشاذ ، العنصر الذي لا أدب فيه فقط في هذا الكون هو الإنسان ، الإنسان فقط هو الذي يعرف التمرد على إرادة الله ، ويجرّب التمرد على أمر الله ، وأما من سوى ذلك فعبد لله تعالى خاضع مطيع ، مُظهَر عبوديته انسجامه مع هذا القانون الأعلى الذي وضعه الله جلّ وعلا في كونه الهائل الذي نعرف منه شيئاً ولا نعرف أشياء كثيرة .
( أفغير دين الله يبغون ولو أسلم من في السماوات ومن في الأرض طوعاً وكرهاً
( أفغير دين الله يبغون ) في قوله ( دين الله ) كنايةٌ وإشارة إلى أنه لا دين لله إلا الإسلام ، وبأن اليهودية والنصرانية وما أشبه ذلك مما أثاروا من حولهم كلاماً طويلاً ليس دين الله ولكنه دين الناس دين أصحابه ..( ولو أسلم من في السماوات ومن في الأرض طوعاً وكرهاً وإليه يرجعون ) المرجع إلى من ؟ إلى الله جلّ وعلا ، كل هذا الكون سيأتي عليه من قدر الله ما يدمره تدميراً ، وإذا طلعت الشمس من مغربها فقد آذن الكون بالانهدام والانهيار ، وحينئذٍ سيكون يوم العرض على الله قريباً ، وسيقف بين يديه تبارك وتعالى المؤمن والكافر والبر والفاجر ، ومن كان يتصوّر أنه سوف لا يقف هذا الموقف فهو موهوم ، فهو كافر بالله العلي العظيم ، فهو إنسانٌ لا يعرف كيف يقدر الله حق قدره ، الذي خلق هؤلاء الناس وخلق هذا الكون من عدم أهو عاجز عن إنشائه مرةً أخرى ؟ والذي يرى ويعلم ما في الدنيا من تظالم ومن بغيٍ ومن حسد .. أوَلا يقف الناس بين يديه ليحاسبوا على جرائمهم ؟ أوليس حقاً أن يقول الله ( وقفوهم إنهم مسؤولون ) فالمرجع أيها الإخوة إلى الله تبارك وتعالى ، ومن صدّق بالمرجع صفت سريرته واستقامت سيرته . والمسلمون كانوا كذلك ، حينما كانوا واثقين بأن المرجع إلى الله ، واليوم يتردد كلام المآب والمرجع على ألسنة المسلمين ، وفي ظني أن كثيراً منهم لا يؤمنون بهذا المرجع الإيمان الصحيح ، ولو آمنوا به الإيمان الصحيح لاستقامت خلائقهم وطرائقهم وأحوالهم وكانوا خير خلفٍ لخير سلف .
هؤلاء اليهود والنصارى آثاروا غباراً لا معنى له على تسميات ، إذا حذفنا التسميات ، ماذا يبقى ؟ تبقى الحقيقة وهي أن الدين هو الذل والخضوع ... لله تبارك وتعالى . سمِّ نفسك ما شئت ، المهم أن تظهر إزعانك لأمر الله ، أنك متى سمعت الله يأمر نفذت ، ومتى سمعت الله ينهى انتهيت ، أما أن تناقش في قشور وتسمياتٍ لا معنى لها فهذا من الضلال ومن الخبال .
وسوف نرى غداً إن شاء الله تعالى كيف صحح الله جلّ وعلا هذه النظرة للمسلمين وأقامهم على جادةٍ سوية تحفظ لهم حقيقة هذا الدين وتبقيه بينهم حياً منيراً إلى يوم القيامة إن شاء الله تعالى ، وصلى الله تعالى على سيدنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين .