كيف نرقى بخطبائنا
د. نعيم محمد عبد الغني
للخطابة مكانتها في التراث العربي منذ القدم؛ فقد كان العرب الأقدمون يحتفلون بميلاد شاعر أو خطيب، ولها دور مهم في توجيه المجتمع؛ فكلمة واحدة تصنع ما لا يصنعه ألف مدفع؛ لأنها فن يقوم على الإمتاع والإقناع.
ولما كانت لها هذه الأهمية فإنها موضع نظر كثير من الساسة والمفكرين؛ الذين يريدون إقناع الناس بتوجهاتهم وأفكارهم، ومن ثم تنوعت أغراضها، واختلفت مكوناتها، حسب كل سياسة، ووفقًا لكل فكر.
وقد عرفت الأمة الإسلامية خطباء تميزوا ببلاغة القول، وفصاحة اللسان، ومنطقية الفكر، وروعة التعبير؛ فشكلوا وجدان الناس؛ فحفظوا كلامهم، وأصبحوا قدوة لمن أراد أن يسلك هذا السبيل.
وما زالت الأمة تنجب خطباء في كل عصر ومصر، إلا أن الهجمات الشرسة عليها من قِبَلِ أعدائها، وبجهل بعض من أبنائها، قد أسهمت في ندرة هؤلاء الخطباء المتميزين؛ فأصبحوا قلة بعد كثرة.
وأصبح كثير من الخطباء في واقع مر أليم، أسهمت فيه عوامل كثيرة، وهذه مشكلة تحتاج إلى الوقوف على حقيقتها، ومعرفة أبعادها، ومحاولة الإسهام في إيجاد حل لها.
حقيقة المشكلة
الدعاة صنفان: صنف تسلح بما يحتاجه الداعية من أدوات، فهو يدعو على بصيرة؛ لذا فإن ثماره الدعوية التي يغرسها تؤتي أكلها سريعًا.
وصنف آخر دفعهم حب الدعوة إلى الله، إلى خوض معركة الدعوة دون سلاح، أو بأسلحة أشبه بالعصي، أمام أسلحة فتاكة، لا تبقي ولا تذر.
فتكون النتيجة أن تأتي الرياح بما لا تشتهيه السفن، من صدوف الناس عن ذلك الداعية، بل اعتبار ذلك الداعية عبئًا ثقيلًا على الدعوة تريد أن تضعه عن كاهلها؛ لتنشط من عقال أولئك الذين تحملوا أمانتها وهم غير قادرين على أدائها؛ فتواجه تحدياتها التي تتفاقم عليها يومًا بعد يوم.
ومن التحديات التي تواجه الدعوة في العصر الحديث: اتساع الهوة بين الناس وتعاليم دينهم؛ والتطور العلمي المذهل، الذي اصطحب معه قضايا جديدة، تحتاج من الدعاة إلى إعادة طرحها، من منظور الفكر الإسلامي، كالاستنساخ، ونقل الأعضاء... إلخ.
ومن هذه التحديات تتبين المشكلة في محاور ثلاثة، هي: داعية بصير بأهم القضايا التي يحتاجها المجتمع، ثم طريقة عرض هذه القضية، وأخيرًا من تُحمل إليهم القضية من المدعووين.
وبسبب هذه المشكلة كثر الحديث عن تجديد الخطاب الديني؛ حيث انقسم المتحدثون فيه إلى فريقين: فريق حمل معاول الهدم الصريح لثوابت الإسلام، من خلال نقدِه الخطابَ الديني المعاصر، وتولى كبر هذا الفريق أقلام مأجورة، من تلك التي لا ترقب في مؤمن إلًّا ولا ذمة.
وفريق آخر أخذ على عاتقه أن يعرض المشكلة في موضعها الصحيح؛ ليتم تشخيصها بصورة دقيقة، ثم طرح العلاج المناسب للنهوض بالخطاب الديني؛ ليناسب العصر.
والمشكلة التي نركز عليها من مشكلات الخطاب الديني هنا، تتعلق بالخطباء الذين يتصدرون لتوجيه الناس؛ فلا يخفى أن الضعف قد تسرب لكثير من الخطباء؛ فأصبحت موضوعاتهم خالية من أفكار واضحة، ورسائل محددة، ولغتهم أصبحت ركيكة، ناهيك عن الاضطراب في العرض...إلخ السلبيات، التي تجعل هذه المشكلة، أكبر معضلات الخطاب الديني المعاصر.
ضعف الخطباء
إن حقيقة الضعف عند كثير من الخطباء أصبحت واضحة جلية؛ فكل الناس بمختلف ثقافاتهم قد اتفقوا على هذا، بل إنك لا تكاد تخرج من خطبة ما إلا وعندك نقد يُتخذ مادة للحديث، في مواضع التندر والسخرية من الخطباء؛ فكثير منهم قد اتخذها وظيفة يتكسب منها، ولم تكن رسالة يؤمن بها، ويضحي من أجلها.
فإذا ما خاطبت أحدًا في هذا الموضوع، وأخبرته بأن خطبة الجمعة لكي تكون على المستوى المطلوب؛ فينبغي أن يُعد لها الإعداد الجيد، تحجج البعض بضعف الراتب الذي يؤخذ على هذه الوظيفة، ومن ثم فالخطيب يبحث عن عمل آخر، يستنزف طاقته ووقته؛ فتأخذ الخطبةُ المترديةَ والنطيحةَ من وقته، وهذه طامة كبرى.
فالخطيب رجل قدوة، موسوعي الثقافة، أنيط به أن يشكل وجدان الناس، فيدفع مستقيمهم إلى الأمام، ويقوم معوجهم ليقف على الصراط المستقيم، ومن ثم فربما كانت هذه هي الحكمة من اجتماع الناس في يوم الجمعة.
لكن الأمر - هذه الأيام- قد اختلف تماما، فأصبحت الخطبة أشبه بالروتين، والطقوس الجافة الخالية من كل روح، لدرجة جعلت البعض يقول: لو لم تكن خطبة الجمعة فرضا لتخلفنا عنها؛ بسبب كرههم لهؤلاء الخطباء، الذين يمثلون عبئًا على الدعوة، وهذه الحقيقة المرة تجعلنا نبحث عن أسباب هذا الضعف.
أسباب الضعف
إن أسباب الضعف عند بعض الخطباء تكمن- في تقديري- في النقاط الآتية:
أولا: تكوين الخطيب العلمي:
فكثير من الخطباء التحق في تعليمه الأولي دخل المؤسسات التي تخرج الخطباء، بعد أن فشل في دراسته العادية، بتساهل شديد في امتحان القبول، وكانت النتيجة أنهم لم يحفظوا القرآن، ومن حفظ منهم نسي ما حفظه؛ لأنه لم يحفظ كي يرقى بنفسه، وإنما حفظ للامتحان، دون مراعاة للكثير من أحكام التلاوة.
وكانت النتيجة لهذا الضعف العام في كل المناهج التعليمية، هي تخريج هذا الكم المهمل من الخطباء؛ فالتفوق - في الأعم الأغلب- لا يتجزأ.
فكان كثير منهم يتعثرون في دراساتهم، حتى أخذوا شهاداتهم بشق الأنفس، في سنوات تفوق سنوات الدراسة المقررة بكثير، ونتيجة لهذا، أصبح الخطيب الذي تكون بهذه الطريقة ضعيف الثقافة، لا يجيد التحدث والخطاب، ولا يملك أية أداة من أدوات الخطيب الناجح.
ثانيا: نظرة المجتمع للخطيب:
إن نظرة المجتمع للخطيب قديمًا كانت تقوم على الاحترام والتبجيل؛ فالخطيب في نظر الناس رجل عالم، له كلام مسموع، ورأس مرفوع؛ وأصبح الضعف الذي أصاب الخطباء عاملًا من عوامل كثيرة، لتلك النظرة الاجتماعية السيئة لهؤلاء الخطباء.
ناهيك عن دور بعض وسائل الإعلام في التقليل من شأن هذه المهنة، وما يحصله صاحبها من مال، يجعله لا يعيش عيشة كريمة.
كل هذا جعل الناس يصدفون عن هذه المهنة، مما جعل كلياتها تأخذ من سقط المتاع، وتأخذ الحاصلين على الدرجات الدنيا، الذين أصيبوا بفقر في تكوينهم العلمي العام
ثالثا: الجمهور:
أما الجمهور فإنه في تعامله مع المشكلة على ثلاثة أنوع: فمنهم من يحاول نقد الخطيب نقدًا موضوعيًا، بتوجيه النصح له؛ فيحمده على مواطن الحسن في خطبته، ويرشده إلى مواطن الضعف؛ حتى يقوى.
ومنهم من ينقده نقدًا سلبيًا؛ فلا يذكر إيجابيات ولا سلبيات، إنما هدفه النقد من أجل النقد؛ فإسهامه في الهدم أكثر من إسهامه في البناء، وأما النوع الثالث، فهو فريق سلبي، لا يساهم في نقد الخطبة والخطيب، مؤثرًا السكوت، الذي يكون ضرره أكثر من نفعه.
إن الجمهور هو الذي يدفع الخطيب لاختيار الموضوعات الجادة، ويسهم بتوجيهه الرشيد في كيفية معالجة الخطيب لهذه الموضوعات؛ فيجعل الخطيب في جدية تامة، حريصًا على خطبته، عالمًا أن كلامه في ميزان الناس سيُقوَّم؛ فيعمل لذلك ألف حساب.
وقديمًا قيل لعبد الملك بن مروان: قد علاك الشيب يا أمير المؤمنين، فقال: كيف لا أشيب وأنا أعرض عقلي على الناس في كل حين، وهو الذي قال أيضًا: "شيبتني المنابر"، وجدير بمن يعد نفسه إعدادًا جيدًا، محترِمًا جمهورَه أن يرتقي؛ ليصبح خطيبًا ناجحًا.
رابعا: طريقة اختيار الخطيب:
إن طريقة اختيار الخطيب قديمًا، كانت تتم تلقائيا حسب مؤهله الدراسي، ومهنة الخطابة تحتاج إلى عدد من المقومات الشخصية بجوار الدراسة.
ولذلك تم - مؤخرا- اللجوء إلى عقد الاختبارات التي على أساسها تم اختيار خطباء أحسن حالًا من ذي قبل، وإن كانوا ليسوا على المستوى المرجو؛ لأن هذه الاختبارات افتقدت كثيرًا من معايير اختيار الخطيب الجيد.
ومن ثم، فنظام اختيار الخطيب عبر هذه الاختبارات شيء جيد، ولكنه يحتاج إلى ضبط، ووضع آليات محددة يسير عليها المختبرون؛ حتى نضمن سلامة الاختيار.
أين الحل؟
إن حل مشكلة الخطاب الديني تتمثل في: تحديد معايير الخطبة الجيدة، ومتابعة تطبيق هذه المعايير على أرض الواقع.
وهذه المعايير ليست خاصة بالخطباء وحدهم، بل على المجتمع بأسره أن يكون ملمًا بها؛ كي يتفاعل مع الخطيب إيجابًا وسلبًا؛ فتقف الخطبة بذلك على أرض صلبة؛ لترجع سيرتها الأولى، من حيث آداء رسالتها في ثوب قشيب يناسب العصر .
وهذه المعايير تتلخص في: جودة المادة العلمية، واتخاذ الوسيلة المناسبة لتقديمها؛ ليتحقق عنصرا الإمتاع والإقناع، باعتبارهما الأساس الصلب لكل خطبة ناجحة، ومن هنا يمكن بيان هذه المعايير في المحاور الآتية:
أولا: موضوع الخطبة:
هناك عدة أمور تتصل بموضوع الخطبة من حيث اختيار موضوعها وطريقة معالجته نبينها كما يلي:
1- اختيار الموضوع المناسب:
إن اختيار الموضوع يعد أهم عنصر في الخطبة؛ فالخطيب عليه أن ينظر إلى أحوال المجتمع الذي يعيش فيه بعقل واع، وفهم ثاقب؛ لكي تكون الخطبة مناسبة لحياة الناس؛ مع مراعاة أن هناك موضوعات تناسب بيئة دون أخرى.
2- وحدة الموضوع:
يجب أن يكون لكل خطبة موضوع معين، واضح الهدف، يدور حول فكرة معينة، يشرحها الخطيب، ويلتمس لها من وسائل الإقناع والإمتاع ما يناسب هذه الفكرة؛ ليتحقيق الهدف الذي وضعه الخطيب لخطبته.
3- جودة المادة العلمية للموضوع:
إن جودة المادة العلمية تتمثل في حسن اختيار المادة المقدمة للناس، بحيث تكون جديدة وجيدة في نفس الوقت، فليس كل ما يقرأ يقال للناس، "واختيار المرء قطعة من عقله"، كما يقال.
ثانيا منهج الخطبة:
إن منهج الخطبة في معالجة الفكرة ينبغي أن تتوافر فيه عدة أمور هي:
1- أركان الخطبة وحسن ترتيبها:
تتكون الخطبة النموذجية من أجزاء يتبع بعضها بعضًا، وهي ليست حتمية، ولكنها تعد قالبًا فنيًا يساعد على الدقة والكمال، وهذه الأركان هي: المقدمة، التي يكون غرضها شد الانتباه، وتحتوي على تمهيد للموضوع.
ثم العرض، الذي يحتوي على العناصر الرئيسة في الموضوع، وأخيرًا الخاتمة، التي تضم إجمال ما قيل في الخطبة؛ لينتهي الخطيب إلى الهدف الذي أراد تحقيقه في الخطبة، الذي ينبغي أن يكون هو النتيجة المرجوة من خطبته، مع مراعاة أن تكون الخاتمة قصيرة قدر الإمكان.
2- براعة الاستهلال وحسن الاستشهاد بالنصوص وإجادة تحليلها:
تكون براعة الاستهلال للخطبة عن طريق إثارة سؤال، أو ذكر قصة مشوقة ترتبط بالموضوع، مع حسن الاستشهاد في الموضع المناسب بالنصوص المختلفة: من قرآن، أوحديث، أوشعر، أو قول عن شخص معين، يناسب المقام الذي يتكلم فيه الخطيب.
مع القدرة على تحليل هذه النصوص، بحيث لا يتوقف دور الخطيب عند السرد فقط، وإنما يأتي دوره في تحليل النص، واستنباط ما يخدم فكرته منه.
ثالثا: أداء الخطبة:
وأما ما يتعلق بأداء الخطبة، بعد أن تم إعدادها بحسن اختيار موضوعها ومنهجها، يأتي الأداء الذي ينبغي فيه مراعاة ما يأتي:
1- الإلقاء:
للإلقاء جوانب مهمة ينبغي توافرها تتمثل في: جهارة الصوت وقوته، وحسن مخارج الحروف، وتمييز أجزاء الكلمة، مع القدرة على تلوين الصوت، وتكييفه، فيكون الصوت مرتفعًا، ومنخفضًا، وسريعًا وبطيئًا،.. إلى غير ذلك من الجوانب الصوتية، التي يكون لها أثر كبير في إعطاء الكلام دلالات مختلفة.
2- اللغة:
ينبغي أن تكون لغة الخطيب متميزة بالصحة والجمال معًا، فمن حيث الصحة ينبغي أن تكون خالية من الأخطاء النحوية والصرفية، ومن حيث الجمال، ينبغي مراعاة اختيار الجمل القصيرة قدر الإمكان، مع وضوح اللفظ وعذوبته.
3-التحكم في الوقت:
إن التحكم في الوقت مهارة خاصة، يكتسبها الخطيب من التدريب على: تركيز الكلام، وترتيبه، وحسن صياغته، وعدم الاستطراد إلى أفكار أخرى لا ترتبط بموضوع الفكرة المعالَجة، وكلما كان الخطيب فاهمًا لفكرته، مستوعبًا لها، محيطًا بأبعادها، كلما كان قادرًا على الإيجاز غير المخل، وبعيدًا عن التطويل الممل.
4- القدرة على التشويق:
وذلك من خلال عرض الفكرة عرضًا جذابًا، يجعل المستمع منتبهًا، ومتطلعًا للمزيد من كلام الخطيب، ويكون التشويق بوسائل مختلفة، منها: ذكر القصة، والأشياء التي قد يظن الخطيب أنها جديدة على السامع.
مع مراعاة أن يكون هذا التشويق في الخطبة كلها، وبين الخطب وبعضها؛ فيتحقق بذلك الإمتاع، الذي يجعل المستمع متعلقًا بالخطيب دومًا.
5- موسوعية الثقافة:
إن قياس موسوعية ثقافة الخطيب تظهر من خلال طريقة معالجة فكرته؛ فهو يخدم عناصرها بطريقة توحي بسعة الاطلاع، والتبحر في علوم كثيرة، وهو ليس منحصرًا في زاوية محددة، تجعله غير قادر على الإحاطة الكاملة بجوانب هذه الفكرة وأبعادها.
ناهيك عما تعطيه موسوعية الثقافة من خفة الظل، والطرافة، والجِدَّة، ما يجعل السامع مقتنعًا ومستمتعًا في آن واحد.
ويلاحظ أن هناك معايير تتعلق بشخص الخطيب: كحسن السمت والمنظر، وسرعة البديهة، والحضور، وهذا ملكات يكتسبها الخطيب حتى تصير طبعا فيه، وليست تصنعًا، ولا تمثيلًا يجعل الناس تنفر منه.
إن الخطابة مهما أصابها من الضعف ستظل فنا له قيمته؛ فهو يستمد قوته من الدعوة إلى الله، ومن ذلك التراث الضخم، الذي سيظل موجهًا لهذا الفن إلى الطريق المستقيم، وسوف تظل ثابتة راسخة وسامقة عالية، إن شاء الله؛ فهي فن لا يموت، وإنما تصيبه بعض فترات الضعف الذي لا يدوم طويلًا.