حديث عام من شهر رمضان المبارك
حديث عام من شهر رمضان المبارك
الجمعة 30 شعبان 1398 / 4 آب 1978
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون ... أما بعـد أيها الإخوة المؤمنون :
فسنقطع سلسلة أحاديثنا التي كنا بصددها من قبل ، لكي نستقبل الشهر الكريم ببعض الملحوظات اللازمة ، ولا أجد ما أدعو إلى الحديث عن فضائل هذا الشهر وما أعد الله للمجدين فيه ، فتلك أحاديث أصبحت مكرورة ومعادة ، وفي ظني أن معظم المصلين يحفظونها أو أكثرها ، لكثرة ما ترددت على مسامعهم عاماً بعد عام . إنما ينبغي أن ننبه قبل كل شيء إلى أن الصوم فوق أنه فريضة دينية ، فهو كذلك ضرورة بشرية ، ولئن اختلف الزوايا التي ينظر الناس منها من أجل تقدير هذه الضرورة ، فإن الشيء لا اختلاف عليه أبداً هو أن الصوم شيء نافع ومفيد ، إذا كانت بغيتك أن تصقل الروح وتقوي شمائل النفس وتهذب الأخلاق .
فالصوم أداة فعالة في ذلك كله ، وإذا كانت غايتك أن تنظر إلى صحة الجسم وسلامة البدن ، فما يتمارى أحد أن الصوم وسيلة أساسية ، بل هي أنجع الوسائل بإطلاق ، لكي يتخلص البدن مما تراكب عليه من زوائد وأخلاط رديئة وسموم ينبغي أن يتخلص منها ، كل ذلك بفعل الإدمان المتكرر على الطعام والشراب من غير نظر إلى دواعي القصد والاعتدال ، طيلة أحد عشر شهراً . ولما كان الصوم بهذه المثابة تصفية للنفس وتهذيباً للخلق وصقلاً للروح وصحة للجسد ، كان ضرورياً وحقاً أن يُعتبر الصوم ضرورة بشرية ، فوق أنه فريضة دينية .
ولا أحتاج طبعاً إلى أن أكرر ما قلته مراراً ، من أن فرائض الأديان عموماً إنما شرعت من أجل الإنسان ، فمن أجل هذا روعي في كل فريضة من هذه الفرائض أن تؤدي الوظيفة الإنسانية أداءً لا يطيقه أي عامل آخر يصطنعه البشر ، فالصلاة في إبانها والزكاة في وقتها والحج في ميعاده والصوم في شهره المقدور ، كل أولئك لو استبدلت بها غاية ما يصل إليه فكرك من وسائل بديلة لتخلفت هذه الوسائل وكفّت عن أداء المهام الموكولة إليه .
ولا يطرأ على هذا الكلام ولا يهوّن من شأنه ولا يقلل من قيمته ، أن الكثيرين من الذين يصلون لا تزكو قلوبهم بهذه الصلاة ، وأن الكثير ممن يحجون لا ينتفعون بهذه الرحلة البدنية والروحية ، وأن الكثير من المزكين لا تبرئهم الزكاة من شح الأنفس وكزازة الأيدي ، وأن كثيراً من الصائمين لا ينتفعون بصومهم انتفاعاً يجعلهم أقدر على ضبط حياتهم وتدريب إرادتهم . فهذه الظواهر الشاذة في حياة المسلمين الذين يمارسون العبادات لا تقلل أبداً من قيمة الكلام الذي قلناه قبل قليل ، لأن شذوذ الأنفس ظاهرة بشرية ملحوظة ، إذا أنت تقصيت جذورها وبحثت عن أسبابها أسلمك التقصي والبحث إلى مكمن الداء وأساس العلة في هذا كله وهي ضعف الالتصاق بالفريضة وعدم الوعي لها أثناء أدائها . من أجل هذا أي من أجل أن الصوم ضرورة بشرية لازمة كان الصوم من الفرائض التي رافقت الأديان عموماً ، ولم يبرأ منها دين من الأديان . وما تزال الأديان المحرفة التي تعرضت للتغيير والتبديل والعبث بغير حق ، فيها من هذا الصوم ظلال تشتد أو تضعف ، يقول الله تعالى مخاطباً أمة الإسلام ولأمر ما ناداهم بالمؤمنين ( يا أيها آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ، أياماً معدودات ) فدلّت الآية الكريمة على أن ما كتب الله من صوم على المسلمين فقد كان مكتوباً على من كان قبلهم من الأمم التي جاءتها رسل الله بالبينات والهدى .
ويشبه أن يكون صوم الماضين كصومنا ، وإن كان أحد احتمالات الآية يدل على أن المماثلة والمشابهة قد لا تنصب على الشكل ، وإنما تنصب على الأساس ، فالله جلّ وعلا كتب على المسلمين صياماً كما كتب على من قبلهم صياماً ، والله أعلم إن كان صوم الماضين كصومنا أو لم يكن ، ولكن أحد احتمالات الآية الكريمة يدل على أن جنس الصوم بقطع النظر عن شكله وعن كيفيته وعن مدته شيء عام مشترك بين أهل الديانات عموماً .
هذا والذي هو أقرب إلى مدلول الآية الكريمة أن الأمم الماضية خوطبت بصوم كصومنا في شـهر كشهرنا ، لأن هذا هو ظاهر المماثلة الذي دل عليه التعبير ( كما ) فـ ( كما ) تدل على المماثلة ، والمماثلة لغوياُ إذا لم تخصص بنحو من الأنحاء فقد يجب أن تطلق إطلاقاً يستغرق الجنس كله ، وهذا ما يحملنا على ترجيح أن صوم الأمم الماضية من قبل أمة محمد عليه السلام هو كصوم أمتنا الكريمة تماماً من حيث الزمان ومن حيث المدة ومن حيث المحظور ومن حيث المباح . وهذا طبعاً مؤسس على كون الصوم ضرورة بشرية ، لأن البشر ، لو أُتيح لهم أن يعيشوا منفلتي الإرادة ، غير مضبوطين بشـيء ، ولا مقيدين بقيد ، ولا محدودين بحدود ينتهون إليها ، ويقفون عندها ، فإن الأمور سوف تمرج عليهم ويختلط الحابل بالنابل وتضيع الحدود وتسقط الحقوق ، وتصبح الدنيا فوضى لها أول وليس لها آخر .
والدين عموماً من حيث هو تكليفات وأوامر فإنه من البدهي جداً أن يتضمن هذه الضوابط وهذه الحدود ، وكريه بالإنسان أن يُصطدم بحاجزاً يحول دون إرادة المندفعة أن تبلغ مداها ، كريه ذلك بالنسبة إلى الإنسان ، لكن الحيلولة دون اندفاع غير المسؤول ضرورة بشرية مجتمعية لا يمكن لأحد أن يتخطاها . ولما كان كل إنسان يشعر بهذه الكراهة للقيد الموضوع على إرادته ، والمضروب على مشاعره ورغباته ، فلا بد من أجل إساغة هذا من تدريب متكرر ومستمر .
وعبادات الإسلام كلها حدود وقيود تشعر الإنسان أنه يجب أن يمشي من هذه النقطة إلى هذه النقطة ولا يتعداها . وأظهر عبادات الإسلام في هذا هو الصوم ، إنك تعيش سنتك كلها المكونة من اثني عشر شهراً لا يضبطك شيء ، تنام متى شئت ، وتستيقظ متى أردت ، وتأكل ما شئت ، وتشرب ما شئت ، وتمتنع عن الطعام والشراب ساعة تشاء ، وتقبل عليهما ساعة تشاء ، فإذا حلّ رمضان فكأنك حللتَ في مطب عنيف أثناء مسيرتك في الحياة ، يشعرك أن كل شيء مما كان من قبل سيخضع بعد الآن لتغيير جوهري ، طعامك بمقدار و بوقت محدود ، وشرابك بمقدار و بوقت محدود ، وممارساتك الجنسية محظورة عليك في آن ، مباحة لك في آن ، ونومك يتغير ميعاده . وبالكلية فإن حياتك كلها تخضع لتغيير أساسي في كل مظهر من مظاهرها ، فكأن الصوم يقول لك بلسان الحال لا بلسان المقام : إن انفلاتك من غير حد ولا قيد ولا ضابط شـيء يضر بك ، وإن من الخير أنت أيها الإنسـان .. ... انقطع الشريط ...
وإنما بممارسة إرادية ذاتية حرة لا قيد عليها إلا رعايتك لما أراد الله منك أن تأخذ وأن لا تقعد .
فحكمة الصوم تتجلى أساساً في هذا الشيء ، ولا أريد أن أزيد عليها شيئاً . هذه ملحوظة ضعوها في حسابكم لكي تتمكنوا من تقدير القيمة الحقيقية للفريضة التي ستستقبلونها نهار الغد إن شاء الله تعالى .
أخرى ، بمناسبة حلول الشهر الكريم ، فلا بد من أن أتجه إليكم بلفت نظر ، إن مشكلة المسلمين ، أو أظهر وجه مشكلتهم أن حس المسؤولية الجماعية عندهم ناقص ، إنهم يعيشون فردية طاغية وذاتية عنيفة ، وإن هذه البعثرة المتجلية في حياتهم الخاصة والعامة إنما هي أثر من آثار هذه الذاتية العنيفة والفردية الطاغية . وما هكذا ربى الإسلام الناس ، إن الإسلام يلف بنظره واهتمامه الماضي والحاضر والآتي ، ويضع في اعتباره إلى جانب مسؤولية الإنسان عن نفسه ، وبنفس المقدار ومن غير وكس مسؤولية الإنسان عمن حوله ، بل مسؤولية الإنسان كمجموع . إن الشيء الذي يتجلى للناظر بدياً أن مسلم اليوم إن اهتم بقضايا الإسلام فضمن دائرة هو محورها ، نفسي نفسي ، وليكن بعدي الطوفان ، وما لي للناس ، ولماذا أجر على نفسي المشاكل وأعرضها للمتاعب . مشـكلة في الواقع ، بل داء ، وداء دوي وخطير ، إن المسلم الذي كان يشعر شعوراً عميقاً آسراً أنه خليفة الله في الأرض والقيم على عمارة الدنيا والمسؤول عن المصير البشري إن هذا المسلم قد مات منذ زمن بعيد ، ليحيا مسلم ممسوخ ، منكوس الطبيعة سيء التصور للقضية الكبرى التي هي أمانة الله في أعناق المسلمين .
كثيراً ما شهدنا الناس في رمضان ورمضانات كثيرة مرّت يتجاهرون بالإفطار أمام الناس ، في المقاهي والأسواق والطرقات والمحال العامة من غير رقابة ولا حياء ولا خجل . ثقوا تماماً يا إخوة أن صاحب المعصية ذليل ، ولكن الذليل أسد حينما يتحول الناس إلى أرانب .. فهمتم ؟ صاحب المعصية ذليل ، لكن الذليل يتنمّر حينما يكون الذين من حوله أرانب . والحمد الله الذي لا يُحمد على مكروه سواه ، إن المسلمين في غالبيتهم العظمى أرانب ، وأرانب جبانة خرعة ، ذليلة مع الحزن والأسف ، إن أي عاصٍ لله لو وجد من يأخذ على يده لاستخفى في معصيته بين أربعة جدران ، ونحن ليس من شأننا أن نكون ديانين للناس ، فما من شك أن كل شاة ستعلق من رجلها يوم القيامة ، لكنا على صعيد الحياة الدنيا نتعامل وفاقاً لمقاييس أخرى ، نتعامل وفاقاً للمقياس الدقيق الذي قاله النبي عليه الصلاة والسلام : إن المعصية إذا سُترت لم تضرّ إلا صاحبها ، وإذا أُظهرت أضرّت بالعامة . وفعلاً ، فصاحب المعصية كأنه على رصد ينتظر له الزميل السيء والأسوة الخبيثة والقدوة السيئة ، لكي يتعاون وإياه على إفشاء معصيته ، محادة للفضيلة ومعاندة للمؤمنين ولله سبحانه وتعالى .
من أجل هذا كان خطراً أي خطر إغماض العين على مظاهر المعصية التي تتجلى في حياة المسلمين ، ومن أجل هذا كان حقاً واجباً على المسلمين أن يكونوا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر مبينين لحدود الله ( ولتكن منك أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) . فالذين يفوزون هم الذين يقومون بهذه الفريضة اللازمة ، فريضة الأمر بالمعروف وهو ما عرفه الشرع والقضاء ، والنهي عن المنكر وهو ما أنكرته العقول السليمة والفطر المستقيمة وكرهه الله تعالى ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم . وإذا كان الفائزون المفلحون هم هؤلاء الوقّافون عند حدود الله ، الآمرون بالمعروف ، الناهون عن المنكر ، فبدهي إن شاء الله تعالى أن يكون غير المفلحين ، أن يكون الراسبون في امتحان الحياة هم الذين لا يفكرون إلا بذواتهم ولا تهتز في أبدانهم شعرة واحدة إزاء مظاهر التفلت والفسوق والعصيان ، من أجل هذا أتجه إليكم من حيث أنتم مسلمون ، راجياً أولاً حرصاً حقيقياً على رضوان الله جلّ وعلا في شهر تضاعف فيه الحسنات ، وبفوز فيه المجلون السابقون . وثانياً : راقبة ً لا تخاف فيها الله لومة لائم على هذه الفريضة أن لا تُنتهك جهاراً وعلانية ً ، نحن حقاً لن ننقب عن قلوب الناس ، ولن نفتح عليهم الأبواب ، وهم أحرار فيما يفعلون في داخل بيوتهم ، ولكن المحال العامة ملك للمسلمين يؤذي مشاعرهم ما يجري فيها من فسوق ومعصية ، فواجب أن يحترز العصاة ، وواجب أن يحرس المؤمنون فريضة الله تعالى ، لا عمل لنا مع المفطرين في بيوتهم ، فلسنا مأمورين بالبحث والتنقيب إلى هذا الحد ، ولكنا نريد من كل مسلم غيور على دينه أن لا يتهاون مع المجاهرين بمعصية خلال أيام هذا الشهر الكريم .
ولن أتجه بندائي هذا إلى الأجهزة المسؤولة في مجتمعنا ، فمع الأسف الشديد أنا أعلم ولا أحتاج إلى أي شيء يهزّ من يقيني في هذه الناحية أن تخطيطاً يقوم عليه المسؤولون في أقطار العالم الإسلامي كله هدفه توهين عقيدة المسلمين والتوهين لفرائض الله جلّ وعلا ، ولن أطلب من العصاة أن يحرسوا فضائل الإسلام ولا أن يرعوا فرائض الإسلام . ولكني أقول بكل حسم إن كل المشكلة يعود حله إليكم أنتم ، فلا المسؤولون ولا أجهزتهم ولا العصاة ولا من يقف من ورائهم بقادرين على أن يفعلوا شيئاً إذا وفيتم بعهدكم مع الله سبحانه وتعالى . وفيها المجال أكتفي بهذا القول ولا أزيد .
وثالثاً : كثيرون أصبحوا اليوم صائمين ، على أن اليوم من رمضان ، استناداً إلى أن بعض الدول الإسلامية ثبت لديها أن اليوم هو غرة رمضان ، وأحب أن تعلموا أن هذه المسألة من المسائل المختلفة عليها بين علماء الإسلام ، والخلاف عليها قديم منذ عصر الصحابة رضوان الله عليهم ، فريق من العلماء يذهب إلى أنه لكي يكون الصوم لازماً على المسلمين لا بد من الشهادة الشرعية على رؤية الهلال في قطر من أقطار المسلمين ، وهذا القدر مجتمع عليه بين علماء الإسلام . لكن الخلاف فيما هو وراء ذلك ، إذا ثبتت الرؤية الشرعية في قطر ، فهل يلزم المسلمين الصوم في كل أقطارهم ، أم أن الصوم لازم بالنسبة إلى ذلك القطر بعينه ولا مزيد ؟ بعض العلماء يقول : إن المطالع تختلف ، وبعضهم يقول : لا عبرة لاختلاف المطالع . واختلاف المطالع حقيقة علمية وفلكية لم يعد يتمارى فيها أحد ، والذي هو أشبه بلزوم الفريضة من حيث الأساس أن يؤخذ اختلاف المطالع بعين الاعتبار ، والذي هو أشبه برعاية الوحدة الجامعة بين المسلمين أن يُهدر اختلاف المطالع من أجل الحفاظ على مظهر من الوحدة بين المسلمين . وحين قال العلماء بإهدار اختلاف المطالع وقرروا رؤية الهلال في قطر ما ، يسحب فريضة الصوم على كل المسلمين في جميع الأقطار ، كانوا يتحدثون من واقع تاريخي قائم وهو أن المسلمين أمة واحدة . لكن اليوم لسنا أمة واحدة إذا أخذنا بالمفهوم الحديث للأمة وهي أنها جماعة من الناس لها كيان سياسي محدد معترف به قائم على صعيد الواقع ، وإنما نحن أمم وشـعوب ودول .
ولئن أخذنا بلزوم الفريضة إذا ثبتت الرؤية في قطر ما ، فسيجرّ ذلك إلى خلاف بين المسلمين داخل القطر الذي لم تثبت فيه الرؤية ، والخلاف كله شر . ولهذا فرأينا المتواضع ضمن المعطيات الحاضرة لواقع المسلمين أنه لا بد من ثبوت الرؤية في كل قطر ، ونحن نقول هذا لكي لا يتأتى خلاف تنقدح منه شرارة شر بين المسلمين من أجل هذا . ونقول هذا ونحن نعلم أن القول به انعكاس لظاهرة مرضية وليس تعبيراً عن حالة سوية ، ونقول هذا وفي ذهننا أن علماء الإسلام في عصرنا هذا اجتمعوا منذ زمن وقرروا ضرورة مبادرة المسلمين إلى الصوم جميعاً إذا ثبتت الرؤية بالطريق الشرعي في أي قطر من أقطار الإسلام . ونقول هذا ونحن نعلم أن ظلالاً من هذا القرار العلمي ترك انطباعه إلى حدٍ ما على الاتجاهات الرسمية أيضاً في فترة من فترات زمننا الحاضر ، ولكنا نعلم مع ذلك أن الخلافات العميقة والمغرضة والشريرة القائمة بين الكيانات الهزيلة المصطنعة المدخولة التي تسمي نفسها كيانات ودولاً وأنظمة تعطي نفسها من الألقاب والأوصاف ما تشاء دون رعاية لجانب الأمانة والصدق ، ودون رعايةٍ لضرورة البعد عن الملق والنفاق والخداع ، نعلم أن هذه الكيانات في بعض الفترات تهدر فريضة اللازمة من أجل خلاف محدود في زمانه وفي مكانه . فقد يثبت الشهر في العراق ، ولكن سوريا لا تطيق العراق ، فمن أجل ذلك ترفض العراق وما يأتي من العراق ومع ذلك ثبوت الرؤية . وقد يثبت الهلال في السعودية ، ولكن مصر لا تريد السعودية ولا تطيقها ولا تحبها ، فمن أجل ذلك ترفض السعودية جملة وتفصيلاً بما فيها البيت العتيق . نعرف هذا ونحزن لأجله ونتألم أشد الألم . ولكن ماذا نصنع ؟ إننا في سياق التاريخ لا تُسلَق فيه الأمم سلقاً ، ولا تصاغ في وضعها في القوالب ، ولا بد أن نطيل صبرنا بغير حدود ، حتى يتميّز الخبيث من الطيب ، وحتى تسقط الأقنعة عن أوجه الدجالين والمتآمرين والمرتبطين بالدوائر المعادية لأمتنا ، كأمة ذات دين ، كأمة ذات جنس محدود أيضاً .
مضطرون لذلك مع شديد الأسف ، مضطرون لذلك وفي البال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد ذات يوم سجدة طويلة ، ثم رفع فإذا الدموع تجري من عينيه الشريفتين صلوات الله عليه ، قالوا له : ما بك يا رسول الله ؟ قال : إني سألت ربي ثلاثاً ( أي ثلاثة أشياء ) فأعطاني اثنتين ، ومنعني الثالثة ، سألت ربي أن لا يُهلك أمتي بسنة عامة ( أي بجدب وقحط عام ) فأعطانيه ، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضماناً من ربه أن لا تهلك الأمة الإسلامية بمجاعة على رغم أنف مانتوس والمتشائمين من تزايد السكان . وسألت ربي أن لا يسلط على أمتي عدو من غير أنفسهم فأعطانيه . وبالفعل فبرغم مظاهر الاستعمار الموجودة في أقطار العالم الإسلامي ، فإن التاريخ كله منذ بداية الدعوة الإسلامية إلى الآن يثبت حقيقة جوهرية أن ديار الإسـلام لا تصلح مقراً للمستعمرين بحال من الأحوال . قد يمرون بها مروراً ، لكنهم إن أتيح لهم أن يستقروا فترة كافية فسوف تمتصهم قضايا الإسلام ، وسيستوعبهم مجتمع المسلمين ، وهذا هو الذي حدث بالنسبة للتتار والمغول وأشباههم ممن جاءوا غزاة فاتحين ، فتأقلموا بين المسلمين وكانوا من الحماة المدافعين الغيورين عن هذا الإسلام .
قال وسألته أن لا يجعل بأس أمتي بينها شديداً فمنعنيها . هذا ممنوع ، لا ضمانة من حوله . إن وجود الخلافات وظهور البأس بين المسلمين أمر لا بد منه ، لأن الله جلذ وعلا لم يمنح ذلك لرسوله صلى الله عليه وسلم برغم حرص النبي عليه الصلاة والسلام على المحافظة الكاملة على قواعد الإخوة والتماسك الاجتماعي بين المسلمين ، لكن الله جلّ وعلا لم يمنح رسوله صلى الله عليه وسلم ذلك وترك ساحة أمته مكشوفة لكي تتسرب النزغات الفاسدة والأهواء الضارة والإرادات الشريرة فتقسم الأمة على بعضها وترتد السيوف التي كانت موجهة إلى صدور العدو ونحور العدو إلى صدور المسلمين بالذات .
قال رجل لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، وتذكروا وتأملوا فالمشكلة قديمة وليست جديدة ولا يعتب علينا إخواننا من أحلاس الباطل ودعاة المذاهب الفاسدة الضارة ، لا يعتب علينا إخواننا هؤلاء ، فنحن نعرف أنهم آخر حلقة في سلسلة من الفساد عمرها طويل ، ونحن لسنا من الغفلة والبلاهة أن نعتبرهم مشكلة ، فهم أقل من هذا بكثير ، وأهون من هذا بكثير ، ولو كانوا هم المشكلة لكانت بصقة من كل رجل من هذه الأمة كافية لإغراقهم في بحر من البصاق ، لا ، ليسوا بهذا المقدار ، ولن يرقوا إليه في يوم ما .. والمشكلة قديمة ، والعلة حضارية ، إن عبد الله بن عمر سأله سائل : ألا تغزُ ؟ ومعلوم أن عبد الله رحمه الله تعالى عاش فترة النبوة ، وأراد الغزو في بدر وتطاول لكي يؤخذ ، لكنه شهد المشاهد بعد هذا كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعاش خلافة أبي بكر ، وشهد الذود عن الإسلام في وجه الردة الكاسحة التي كادت تلف الجزيرة العربية برمتها ، وعاش عهد عمر بقسوته وبجبروته وبوقوفه المطلق مع حقائق الإسلام دون ميل إلى يمين أو شمال ، وعاش خلافة عثمان ، وشهد بوادر الخلاف ، ثم عاش خلافة علي وشهد الانشقاق الأعظم ، والانشطار الأخطر في المجتمع الإسلامي ، وتألم رحمه الله . لقد كانوا يريدونه على الخلافة ، ويعرضونها عليه ويقولون له : يا أبا عبد الرحمن إن المسـلمين يرضون بك ، وإن كلمتهم تجتمع عليك ، وكم أرثي للكتاب الذين يكتبون من غير حسّ بالمسؤولية فيتهمون عبد الله بن عمر بالسلبية وأحياناً بالجبن . إن ابن عمر هو عبد الله بن الرجل الملهم عمر بن الخطاب ، لا يمكن أن يكون سلبياً وهو الشجاع ابن الشجاع ، ولا يمكن أن يكون حسير النظر وهو الملهم ابن الملهم ، ولكنه كان يعرف أنه يجدف ضد التيار العام . كان يقول لهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بُني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاء وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً . ولا يعد الجهاد ركناً من جملة الأركان التي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولكن الجو العام التي كانت توجه فيه هذه الأسئلة المحرجة إلى عبد الله بن عمر كان شبيهاً بجونا هذا إلى حدٍ ما ، كان التيار العام مـع الانقسامات ومع التحزبات ومع الخلافات ، كمثل التيار العام في أيامنا هذه ، وكان تطاول رأس يشمخ كما يشمخ ضد الاتجاه السائد عبد الله بن عمر شيئاً يشبه المعجزة ، ولمنه كان صلب ابن الصلب في الحق الذي لا تأخذه في الله لومة لائم .
قالوا لك : يا أبا عبد الرحمن أمَا سمعتَ الله جلّ اسمه يقول ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) قال له : يا هذا ، وهنا وصل الحوار إلى مرحلة شائكة إلى اللحم الحي ، إن عبد الله هنا يُتّهم بأنه يغضّ الطرف عن آية محكمة من كتاب الله جلّ وعلا ، وإذاً فالسائل يشكك في صحة إيمانه وفي ثبات يقينه . قال له : يا هذا لقد قاتلنا حتى لا تكون فتنة ، و أنتم اليوم تقاتلون لكي تكون فتنة . إن المشكلة بدأت من هناك منذ أكثر من ألف وثلاثمائة سنة ، يوم تناسى المسلمون جانباً من جوانب تعاليم الإسلام الرامية إلى شد العرى وإلى توحيد الصف وإلى ترسيخ دعائم الإخوة فوق جميع النوازع وحميع الأهواء .
إن العلة هناك بدأت ، بدأت يوم انقسم المسلمون إلى طوائف يتحزب بعضها لبعض ، بعصبية جاهلية عمياء ، مع إهدار كامل لقيمة الفكر ، ومع إهدار كامل لكرامة الإنسان ، إن العلة بدأت من هناك ، ثم ما زلت تتدحرج عبر مسيرة التاريخ المعقدة الشائكة ، وفي كل خطوة تضيف إشكالاً إلى إشكال ، حتى وصلتنا ، وتحيزت خلافات تنخر في جسم هذه الأمة . الأمة التي تعد أكثر من ألف مليون ، والتي تسيطر على أهم رقعة من الكرة الأرضية ، تمزق ، لا بفعل الأعداء ، كلا ، إن أمريكا ولا تصدقوا هؤلاء الذين ينفخون في أبواق موسكو ، لا ضلع لها في تمزيقنا ، وإن روسيا ولا تصدقوا الذين يضربون على أوتار واشـنطن ، لا عمل لها في تمزيقنا . إن غير المسلم لا يمكن أن يمارس إرادة ضارة على كيان الإسلام إذا كان هذا المسلم يرفض مثل هذه الممارسة .
إن بين أيدينا ضمانة حددها عليه الصلاة والسلام وكشفها وجلاها ، لن يسلط الله علينا عدواً من خارج أنفسنا ، ولكن الساحة مكشوفة أمام الأعداء الداخليين يعيثون في الأرض فساداً ، ويعكرون صفو الناس ، ويكونون عامل اضطراب عنيف في حبل الأمن بين المسلمين . هؤلاء هو الذين يسيئون للأمة ، ويسيئون إلى حقائق الرسالة التي تحملها هذه الأمة .
كان حقاً يا إخوة أن يكون الأمر على الأصل الشرعي ، وهو أنه إذا ثبتت رؤية الهلال في قطر فواجب على المسلمين أن يصوموا جميعاً رعاية لمظهر الوحدة التي لا يجوز الإخلال بها ولا التفريط في أي معنى من معانيها أو أي مظهر من مظاهرها . ولكننا ضمن كيان قائم ، وهذا الكيان لم تثبت عنده الرؤية ، وعلى مسؤوليته الكاملة أذاع بالأمس بياناً أن السبت غداً هو غرة شهر رمضان . وإذا بادر بعض الناس بالصوم فواجب عليهم أن يفطروا ، لأن الخلاف كما قلنا شر كله ، وأسوء الظواهر أن يقف أحد المؤذنين ينادي بالإمساك مع أنه لم تكن بين يديه وثيقة بوجوب الصوم في هذا اليوم .
إن هذا لا يسود ، غاية ما في الأمر أننا في يوم شك ، قد يكون من رمضان وقد لا يكون من رمضان ، والأمر الذي لا اختلاف عليه بين علماء المسلمين إن شاء الله تعالى أن صوم يوم الشك محرم إلا أن يصادف عادة اعتادها الإنسان ، مثلاً أن يكون الإنسان اعتاد أن يصوم الاثنين والخميس من كل أسبوع ، أو أن يصوم أيام البيض فبدأ بصيامها قبل يوم الشك وجاء يوم الشك ضمن عادته المعتادة التي أخذ نفسه بها فلا حرج عليه أن يصوم يوم الشك .
وأما إفراد يوم الشك واعتقاده فرضاً لازماً ، ويوماً من أيام رمضان فإن العلماء حرموا ذلك بإجماع ، لأنه يؤدي إلى خلاف بين عناصر الأمة لا تدعو إليه ضرورة . والله جلّ وعلا لن تفيدوه شيئاً أن تصوموا ثلاثين يوماً ، كما لن يضره شيئاً أن تصوموا تسعاً وعشرين . والنبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهراً فنزل لليلة تسع وعشرين ، فقالوا : يا رسول الله إنك فـي تسع وعشرين نعدها لك عداً ، فقال : إن الشهر يكون تسعاً وعشرين يوماً . الله تعالى لن ينتفع بزيادة يوم في الصوم ، ولن يتضرر بنقصان يوم من الصوم ، ولكن الإسلام حريص على أن يصوم الناس جميعاً ، وعلى أن يفطروا جميعاً في موعد لا يعدوه أحد إن شاء الله تعالى .
هذه هي الملاحظات التي أردت أن أنفضها لكم اليوم ، متغاضياً عن الكلام عن الفضائل هذا الشهر وعن أحكام الصيام وعن ما اعتاد الناس أن يسمعوه فـي هذه الأيام ، لأنها كما قلت أشياء تكررت إلى درجة الإملال . وبعد فإن بين أيدينا شهراً إن أحيانا الله تعالى فخلال هذا الشهر يكون هناك في المساجد دروس تستعرض فيها هذه الأشياء أو سواها ، ولكنا على كل حال نضع أنفسنا وما نعلم تحت تصرف جميع إخواننا حين يسألون عن شيء يتعلق بالصيام مما يُشكل عليهم .. ونسأل الله تعالى لنا ولكم وللمسلمين العون والهداية والتوفيق .. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .