سورتا الفيل وقريش
الجمعة 24 محرم 1397 / 14 كانون الثاني 1977
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون ..
إن هاتين السورتين ( الفيل وقريش ) تتعرضان لوقائع معروفة ، وتفسير الوقائع أمر يحتاج إلى دقة نظر ، ولعل من أشد الأمور وأصعبها أن تجتلي سورة كاملة للعلائق التي ساهمت في تكوين واقعة من واقعات التاريخ ، بل لعل ذلك أن يدخل في حد المستحيل ، ولقد راجعنا مما قال المفسرون حول هاتين السورتين فما رضينا كل الرضى عما ورد بشأنهما لافتقار هذه الدراسات إلى هذا النظر التاريخي الضروري .
سورة الفيل التي تخاطب الرسول صلى اله عليه وسلم وتخاطب الناس جميعاً كذلك ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ، ألم يجعل كيدهم فـي تضليل ، وأرسل عليهم طيراً أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجيل ، فجعلهم كعصف مأكول ) .
والسورة الثانية سورة قريش وهي ذات مدلول تاريخي ولكنه يغلب عليه الطابع الاجتماعي وهي مرتبطة بمدلولات السورة التي قبلها وهي سورة الفيل ، أو قل إن الواقع الاجتماعي التي كشفت عنها سورة قريش متولدة عن الجو الذي أثارته سورة الفيل ، ( لإيلاف قريش ، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، فليعبدوا رب البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) ولعل اتحاد الغرض بين السورتين هو الذي حمل أُبي بن كعب رضي الله عنه على أن يدرجهما في القراءة بسورة واحدة دون فصل ، فقد جاءت الرواية بأن السورتين ( الفيل وقريش ) هما في مصحف أُبي رضي الله عنه سورة واحدة ، فما الذي يخرج به المتأمل في السورتين .
نأخذ السورة الأولى ونحاول أن نرتب الأمور ترتيباً يساعد على إبراز الصور التي عُنيت السورتان بإبرازها ، ثم نحاول الوقوع على المدلول والحكمة والشيء الذي أراد الله جلا وعلا أن يلفت أنظار الناس إليه ، سورة الفيل تتعرض للمحاولة التي كانت من أجل غزو الكعبة في زمن قبل الرسالة ، وأكثر الروايات تشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولد في نفس العام أي في عام الفيل ، فإن يكن كذلك فهي من الإرهاصات بين يدي ولادة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
وملخص الحادثة ، أن الحبشة في فترة سابقة لولادة محمد صلى الله عليه وسلم استطاعت أن تطرد من جنوب الجزيرة العربية النفوذ الفارسي وأن تحتل اليمن التي تشكل الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية ، وإن جنوب الجزيرة وشمالها ، وشمالها الشرقي أيضاً كان معرضاَ للاحتلال المستمر من قبل الدول المجاورة التي تطمع في خيرات هذه البلاد وفي تأمين طرق القوافل التجارية التي تخترق الجزيرة من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال ، ففي الشمال كان الروم بصورة أساسية هم المسيطرين على هذا الرقعة ، وفي الشمال الشرقي كان النفوذ الفارسي والرومي يتعاوران هذا الجزء تبعاً أو تقلص أو امتداد نفوذ إحدى الدولتين .
وفي الجنوب كان النفوذ الفارسي ممتداً خلال حقبة طويلة من الزمن ، حتى استطاع الأحباش طرد الفرس منها .
والحبشة دولة نصرانية وهي من حيث التبعية المذهبية تدين للروم فهي على مذهب ملوك الروم ، فالارتباط الأدبي قائم بين ملوك الحبشة وملوك الروم وإن لم يوجد هذا الارتباط السياسي والعسكري والاقتصادي الذي يسمح بإطلاق الدولة الواحدة على الروم والحبشة .
وإذا أردنا أن ننظر في التاريخ القديم فمن الخطأ البين أن نحاول تفسير أحداث التاريخ القديم بالعامل الاقتصادي أو السياسي بدرجة أساسية ، إن الشيء الذي يمكن أن يفسَر التاريخ القديم اعتماد العامل الديني كعامل أساسي . ثم تأتي العوامل السياسية والاقتصادية تابعة في هذا الموضوع .
للحبشة مكاسب في احتلالها لليمن الذي يعد أخصب مناطق الجزيرة ، وأكثرها عمراناً ، والذي يشكل واحداً من أهم المنافذ التي تؤدي على بلاد الهند وما والاها ، فهي نقطة مهمة من نقط التجارة في العالم القديم ، وهي مركز سياسي وعسكري ذو أهمية . وحينما تحركت الحبشة لتطرد النفوذ الفارسي من اليمن فلا يعقل أن يغيب هذا التقدير عن بالها ، ولكن من غير المعقول أيضاً أن نسقط من حسابنا أن وحدة الدين والمعتقد عامل ذو أهمية بالغة في ربط الأمم والشعوب في ذلك الزمن .
اليمن جزء من الجزيرة العربية وشعبها جزء من الشعب العربي المتناثر على أرض الجزيرة العربية . والجزيرة العربية شهدت أول شيء رسالة إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء وهي الحنيفية السمحة التي نشرها إبراهيم بعد أن وضع فيها ابنه إسماعيل فكانت له ذرية ، وبعد أن بنى هذا البيت المعظم في مكة . ومما يؤسف له أنّ تَطَاوُل الزمن حمل العرب الذين ورثوا ديانة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حملتهم على أن يدخلوا عليها ما ليس منها ، ومع الأيام تحول التوحيد إلى تعدد وشرك ووثنية . ثم كانت بعد ذلك موجات يعرفها الذين قرأوا التاريخ لا سيما جانبه الديني منه ، كانت اليهودية أولاً ، واليهودية كما نعلم ظهرت في مصر ثم انتقلت إلى مشارف الشام وكانت لها دويلات ، ولكن اليهود ما استقروا في مكان إلا حاولوا بدافع من أنانيتهم ومن عنصريتهم للسيطرة على ألمم من حولهم واستغلالها وقهرها ، فمن أجل ذلك كان وجود اليهود في أي مكان باعثاً للأمم المجاورة على أن تكنّ لها العداوة والبغضاء وعلى أن تتربص بها الدوائر . من هنا كان التاريخ اليهودي سلسلة متلاحقة من الانتصارات والهزائم ، ثم هو حلقات متصلة من المذابح التي لا تنتهي . تعرض اليهود من جراء ذلك إلى تشريد متصل ، ثم انزاحوا من هذه البلاد فكانت لهم جاليات عند خيبر وما والاه ، وفـي جنوب الجزيرة العربية على أطراف اليمن ، ثم بعد اليهودية جاءت المسيحية ، والمسيحية ديانة مشتقة من الديانة اليهودية ، أو هي اليهودية المتطورة ومُعادةً إلى قواعدها من التوحيد والتنزيل ، ثم كان ما كان مما شرحناه من الذي حصل للنصرانية من كوارث ونكبات وانحرافات وتحريفات ، لكنها على العموم استطاعت أن تنتشر في القبائل المنتشرة في شمال الجزيرة العربية وفي قبائل أخرى متوغلة داخل الجزيرة العربية .
حينما جاءت الحبشة واستولت على اليمن جاءت معها بالديانة النصرانية ولكن العرب برغم أنهم أصحاب أوثان وبرغم أنهم بعيدون جداً عن التوحيد ، فاليهودية والنصرانية كلتاهما لم تجدا سوقاً رائجة بين العرب ، لماذا ؟ إن اليهودية والنصرانية كانتا ديانات وثنية أيضاً ، فما الفارق بين من يعبد صورة القديسين وتماثيلهم وبين من يعبد هذه الحجارة والأصنام . إن العرب حينما بشرتهم اليهودية بالدين اليهودي ، وبشرتهم النصرانية بالدين المسيحي لم يجدوا فيهما ما هو خير من هذه الوثنية الساذجة الغليظة ، فمن أجل ذلك كان انتشار اليهودية والمسيحية بين العرب بطيئاً ومتعثراً ، وظل ارتباط العرب حتى الذين دخلوا في اليهودية والنصرانية منهم مشدوداً إلى هذه البنية القائمة في قلب الجزيرة العربية والتي هي البيت الذي بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام .
إن العرب كانت جميعاً تعظم هذا البيت وتزوره وتقيم عنده الأسواق والاحتفالات التي تستمر ثلاثة أشهر من كل عام . وحينما رأى الحاكم الحبشي انجذاب العرب إلى هذا المكان وإلى البيت فكر في أنه لا يمكن للنفوذ الحبشي أن يستقر في مكانه طالما أن العرب في كل مكان تنازعهم نفوسهم إلى هذه البقعة من الجزيرة وإلى هذا البيت القائم هناك . فماذا يفعل ؟ لا بد من طريقة يصرف وجوه العرب عن هذا البيت ، قام أبرهة الحاكم الحبشي في اليمن ببناء كنيسة فخمة في صنعاء ، بذل لها الأموال الطائلة وأدخل عليها من الزينات والزخارف ما لم يرَ الناس مثله في ذلك الزمان . وكتب إلى النجاشي حاكم الحبشة إني قد بنيت للملك كنيسة لم يرَ الناس مثلها قط وإني عازم على أن أصرف وجوه العرب إليها كي لا يذهبوا إلى مكة ليزور البيت الحرام . وإلى هنا فالأمر لا يعدو تدبيراً من التدبيرات التي تلجأ إليها أية سلطة سياسية تبتغي من ورائها أمراً معيناً ، لكن هذا الأمر لم يمضِ من غير معقبات لدى العرب . قام واحد من النَسَأة وهم فئات من العرب لها مكان ديني معين وهم الذين ينسأون الشهور يعني يؤخرون شهور الحرمة إلى الحل كي يتيحوا للعرب كي تغزو ، لأن الغزو عندهم محرم في الأشهر الحرم ، قام واحد من هؤلاء النسأة فقعد في هذه الكنيسة وتبرّز فيها أي لوّثها بالأقذار ، فلما أصبح الناس تحدثوا أن واحداً من العرب لوّث كنيسة الملك ، فغضب أبرهة غضباً لهذا الذي عدّه اعتداءاً على حرمة من الحرمات التي لا يقبل أن يُعتدى عليها ، فأقسم أن يهدم الكعبة التي هي البيت المحجوج لدى العرب ، وبدأ بجمع الجموع وساق الفيلة في هذا الجيش الكبير قاصداً مكة . والعرب لا تعرف الفيل ، وحين يذكر الفيل في ذلك الزمان فكأنك تذكر عندنا القنبلة الذرية .. حينما تحرك الجيش الحبشي ثارت في وجهه قبائل من أشراف اليمن فتغلب الحبشة عليهم ، وتابع الجيش سيره إلى مكة ، وحينما وصلوا إلى أرض كنانة تحدثت بعض القبائل في أن تقف في وجه الحبشة كي لا يمدوا أيديهم إلى الكعبة فكان مصيرهم مصير إخوانهم من اليمنيين الذي حاولوا صد الجيش الحبشي عن الكعبة . ومضى الجيش حتى وصل الطائف وهي قريبة من مكة ، خرجت وفود الطائف وأشرافها تتلقى الجيش وتقول لهم : إن البيت الذي تقصدونه ليس هذا ، فقد كانت الطائف بنت بناءً يضاهي الكعبة لصنمها اللاة ، وأن البيت الذي تقصدونه هو الكعبة التي في مكة . وسار الجيش حتى وصلوا إلى منطقة المغمس القريبة جداً من مكة حطّ الجيش رحاله . لكن أبرهة أراد أن يرسل رسولاً إلى أهل مكة لعله يستطيع حقن الدماء ، فالحقيقة أن الرجل لم يكن يريد أن يفني أهل مكة ، وإنما كان يريد أن يهدم البيت فقط ثم يعود . كي لا يلتفت العرب بوجوههم إلى الكعبة مرة أخرى ، ولكي تنصرف وجوههم إلى الكنيسة التي بناها في صنعاء كي يكون من وراء ذلك نفوذ للديانة النصرانية فيكون الرجل قد خدم دينه ثم هو بعد ذلك مكّن لقومه في الجزيرة العربية ، أرسل رسولاً يسأل عن سيد أهل مكة وأن يستقدمه إليه ، فذهب الرسول وسأل من سيد مكة قالوا : عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم ، جاءه وقال له إن الملك يطلبك ، فذهب عبد المطلب ، وكان عبد المطلب رجلاً وسيماً مهيباً ، حين دخل على أبرهة وكان جالساً على سرير ملكه هابه وأعجب به ، لكنه كره أن يجلسه على سرير الملك كي لا يرى الأحباش أن أبرهة يكرّم واحداً من العرب هذا التكريم . فنزل أبرهة وجلس على البساط وأجلس بجانبه عبد المطلب ، وقال لترجمانه : قل له إني جئت عامداً هدم هذا البيت ولا حاجة لي بدمائكم فإن تخلوا بيني وبين هذا البيت أهدمه وأعود إلى حيث جئت ، وإلا فإنه الفناء . وكان جيش أبرهة قد أغار على إبل العرب فأخذها وكان فيما أخذ مائتا بعير لعبد المطلب ، فقال عبد المطلب : ردّ علي بعيري فقد أخذها جيشك . فقال أبرهة : إنك حين دخلتَ علي أعجبتني وحينما قلت هذا الكلام ازدريتك ، أتخاطبني في مائتي بعير وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك جئت لأهدمه ولا تخاطبني فيه . فقال عبد المطلب : أنا رب الإبل ، وإن للبيت رباً سيحميه . قال الملك : إنه لن يمتنع مني . وردّ الإبل إليه . وعاد عبد المطلب إلى أهل مكة وأخبرهم بما كان ، وأمرهم أن يخرجوا إلى الشعاب خوفاً من الجيش . وخلَت مكة من الناس ، فجاء عبد المطلب ومعه نفر من قريش وأمسك بحلقة باب الكعبة مخاطباً رب هذا البيت :
للهم إن العبد يمنع رحله فامنع حلالك وانصر على أهل الصليب وعابديه آلك
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك
ثم خرج إلى الجبال . أمر أبرهة بالتحرك ووجه الفيل نحو الكعبة ، وحينما وُجه الفيل نحو الكعبة برك على الأرض ، ضربوه فلم يتحرك، وطعنوه بالرماح فلم يتحرك ، فوجهوه نحو الشام فقام ومضى ، ثم وجهوه نحو اليمن فقام ومضى ، ثم وجهوه مرة أخرى نحو الكعبة فبرك ، في هذه الأثناء كانت الخارقة العظمى ، أرسل الله تعالى من قبل البحر طيراً لا يُدرى ما هي ، جاءت أبابيل أبابيل ، أي جماعات جماعات ، تحمل فـي أرجلها ومناقيرها حجارة من طين يابس تسقطه على الجيش ، ومن أصابته انخرق جسمه وأصيب بوباء لا يُدرى ما هو ، تتساقط منه أعضاؤه . فكانت الهزيمة النكراء ليس على يد جند من جند الناس ولكن على يد جند ضعيف وهم الطير تحمل حجارة صغيرة . وعاد الجيش من حيث أتى وأصيب أبرهة فما وصل صنعاء حتى كان كالفرخ ومات هناك .
هذه الحادثة التاريخية ، لست مع الذين يحاولوا تحليل هذه الحادثة بحسب بعض الروايات الواردة من أن هذه الطير كانت تحمل جراثيم من نوع خاص كجراثيم الجدري أو الحصبة ، أو أنها قد تكون نوعاً من أنواع الذباب ، لست مع هذا الرأي . لأن دخول الجراثيم إلى الجسد ، ومحاولة إيجاد مكان له في الجسد ، ثم القيام بعمله التخريبي ، يحتاج إلى وقت . أما ما حدث مع جيش أبرهة فقد كان مباشرة . فما إن يصيب الحجر الإنسان حتى يموت أو يوشك على الموت . الأمر فيه شيء خارق من الله تعالى ، ولا ينبغي أن نخرجها عن ظاهرها لنحاول تعليلها لتتفق مع عقولنا .
المهم أن نعلم أن هذه الحادثة حينما وقعت وتسامع الناس بها ، عظمت منزلة الكعبة عند العرب ، وارتفعت منزلة قريش عند العرب أيضاً . وبينما كانت قوافل التجارة تخرج تحت الحراسة خوفاً من قطاع الطرق كانت قوافل قريش دون حراسة لأن قريش أصبحت معززة ومكرمة .
فمن هنا جاء الامتنان بالسورتين ، سورة تذكر الواقعة ، وسورة تكشف عن المنة . ونحاول هنا أن نتعرف على الصلة ، الصلة التاريخية التي حملت أبرهة على فعل هذا ، لو راجعنا حوادث التاريخ قبل الإسلام لوجدنا أن الدولة الرومانية كانت تبذل جهوداً متواصلة لكي تتغلغل إلى الجزيرة العربية ، ونجد أنها عينت قسساً ورهباناً ، وكانت تنفق عليهم . ووفد نجران الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في عام الوفود كان واحداً من صنائع الدولة المسيحية لتوجد لها مواطئ أقدام في الجزيرة العربية . والعداوة دون شك مستحكمة بين العرب والنصرانية حتى قبل الإسلام ، فالنصارى واليهود ليس صحيحاً أنهم يجهلون موقع العرب من واقع الديانات الكبرى ، وليس صحيحاً أنهم يجهلون أن نبياً سوف يأتي في آخر الزمان من هذه الأمة ، وليس صحيحاً أنهم يجهلون أن مبعثه في مكة وأن الكعبة هي من صنع إبراهيم وإسماعيل عليهم السلام . والمؤامرات التي حيكت وكان منها جيش أبرهة إنما هي حلقة في سلسلة من المحاولات لطمس آثار الديانة المرتقبة والتي يتوجب على اليهود والنصارى أن يمتثلوا لها ويؤمنوا بها مصداقاً لقول الله تعالى ( الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) ومعلوم من أن الله تعالى ذكر من مقالة عيسى صلوات الله عليه من أنه قال لبني إسرائيل ( ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) فأهل الكتاب يعلمون هذا ، ومحاولاتهم كلها قبل الإسلام كانت ترمي إلى إفساد الجو الذي يتهيئ للتمخض عن مولد هذا النبي الكريم الذي هو محمد صلى الله عليه وسلم .
وولد محمد صلى الله عليه وسلم وبعث ، فهل انتهت سلسلة التآمر من قبل النصرانية ، دعك من اليهودية ، إن النصرانية كانت وهي بعيدة عن موضع الرسالة لا تني تتآمر وتحيك الدسائس ، سأعطيكم مثلاً : حينما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان في المدينة رجل يقال له أبو عامر الراهب بن صيفي ، هذا الرجل كان يتحنث فـي الجاهلية ، وكان يزعم أنه يطلب دين إبراهيم ، وقد لبس المسوح تزهداً وترهباً ، حينما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبو عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له يا محمد : بمَ جئت ؟ قال له الرسول صلى الله عليه وسلم : جئت بالحنيفية السمحاء ، قال أبو عامر : أنا على الحنيفية السمحاء ، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم : إنك لست عليها إنك أدخلت عليها ما ليس منها . قال له : سوف أظل أقاتلك فيمن يقاتلك . وأبدى العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يؤلب عليه الناس . حتى كانت غزوة حنين وانهزمت قبيلة هوازن ففرّ إلى الشام ولقي ملك الروم هرقل ، ثم كتب إلى المنافقين في المدينة ويقول لهم : إني سآتيكم من عند هرقل بجيش يخرج محمداً من المدينة . وكان من تدبيره أن أنشأ المنافقون مسجداً . لاحظوا التشابه بين كنيسة صنعاء وبين البيت المعظم ، والتشابه بين مسجد ضرار وبين مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، عمد المنافقون إلى بناء مسجد ضرار في المدينة حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى غزوة تبوك ، فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له وهم مظهرون له الطيبة : يا رسول الله إنا بنينا في حينا مسجداً لذي الحاجة والضعيف ولمن لا يستطيع المجئ إلى مسجدك ، فلو جئت وصليت فيه ركعتين التماساً للبركة . فقال لهم : أنا على جناح سفر وسوف أفعل ذلك إذا عدنا من سفرنا هذا . كان قصد أبي عامر أن يكون هذا مكاناً للمنافقين والمتآمرين للإسلام . مسجد يُضرب بمسجد ، كما حاولت النصرانية من قبل أن تتضرب الكعبة بالكنيسة في صنعاء . وحين عاد النبي صلى الله عليه وسلم من الغزوة طلبوا منه أن يصلي فـي مسجدهم ، قال لهم : سأفعل إن شاء الله ، وبالفعل نزع ثياب الحرب وتهيأ للذهاب ، وهو في هذه الحالة نزل عليه أمر الله جلا وعلا في سورة التوبة (والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون ، لا تقم فيه أبداً ، لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه ، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ، لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم ) في هذا الموقف بالذات أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أربعة من المسلمين وقال لهم أحرقوا هذا المسجد الظالم أهله ، فذهبوا وأحرقوا مسجد الضرار .
لاحظوا كيف تتشابه الحوادث وكيف يتشابه نسيج خيوط المؤامرة ، مسجد بمسجد ، كنيسة ببيت الله ، من وراء ذلك وذلك تدبير النصرانية الذي بدأ قبل الإسلام وما زال مستمراً حتى اليوم . من هو أبو عامر الذي حمل كبر هذه القضية ؟ أبو عامر هو والد حنظلة الغسيل رضي الله عنه ، سمي غسيل الملائكة حينما كانت غزوة أحد وانجلت المعركة عن الجرحى والقتلى سأل رسول صلى الله عليه وسلم عن حنظلة ما شأنه ، فإني رأيت الملائكة تغسله ؟ فسألوا أهله ، فقالوا يا رسول الله إنه كان حديث عهد بعرس ، وحين نادى مناديك للقتال فخرج للمعركة جنباً وقتل وهو جنب ، فمن أجل ذلك غسلته الملائكة فسمي غسيل الملائكة ، فسبحان الذي يخرج الحي من الميت .
هذه هـي المسألة التي ذكر الله شأنها في سورة الفيل ، لفت إليه أنظار الناس ، أنتم يا معشر العرب الذين يخاطبكم محمد صلى الله عليه وسلم ، حين يكون الفخار تقولون نحن أولاد إبراهيم وإسماعيل ، وحين تتجاثى الرجال على الركب في مجال المنافرة والمفاخرة تقولون نحن سكان حرمه ، وهذا النبي يدعوكم إلى تعظيم حرمات الله جلا وعلا ، أنتم تعتزون بالانتساب إلى إبراهيم ومجاورة البيت فمن الذي حمى البيت ؟ هل أنتم الذين حميتم البيت بسيوفكم ؟ أم الله الذي أرسل الطير الأبابيل ؟ إن كانت سيوفكم هي التي ردت المعتدين عن البيت فلا بأس أن تبقوا على وثنيتكم ، وإن كان الله هو الذي فعل ذلك فما أحراكم أن تعبدوا رب هذا البيت ولا تشركوا به شيئاً ؟ فالله جلا وعلا حين تحدث في سورة الفيل عن هذه الواقعة التي تحولت إلى تاريخ عند العرب فيقولون حدث كذا قبل عام الفيل وهكذا .. هذه الحادثة لفت الله أنظارهم إلى أن هذا البيت ليس من بنائهم وإنما هو من بناء إبراهيم وإسماعيل صلوات الله عليهم . وهـو بناء بأمر الله .
وثمة أمر آخر يلفتهم إليه ، انظروا يا معاشر سكان البيت تجدوا جنوب الجزيرة وشمالها يخضعان للاحتلال والقهر والإذلال وتسبى النساء ، أما أنتم في هذا البقعة المباركة فقد حماكم الله ، وقد أراد الله بذلك أمراً وهو أن يبقى هذا المكان بعيداً عن إذلال النفوس . فــي القرآن وصف الله البيت بأنه البيت العتيق ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) ( ثم محلها إلى البيت العتيق ) والعتيق هو المحرر من الإذلال والقهر والطغيان ، فهذا كله من الله وليس منكم . ثم ماذا أيضاً ؟ تجارتكم وذهابكم آمنين مطمئنين ، من فعل لكم ذلك ؟ ببركة من ؟ ببركة هذا البيت ، فيجبوا أن تعبدوا رب هذا البيت .
ولهذا جاءت السـورة الثانية ( لإيلاف قريش ، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) كيف أطعمهم من جوع ؟ ولماذا آمنهم من خوف ؟ آمنهم من خوف بدعوة إبراهيم ( ربنا واجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات ) ( ربي إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) . قريش لم تكن أهل حرب أو قتال ، في الحرم القتال ممنوع والأمن مستتب ، وإذا وجد الرجل قاتل أبيه أو ابنه لم يُهجْه ولم يُخَوّفْه في الحرم ، فهم قوم تعودوا على الدعة والأمن والطمأنينة ، من أين جاءهم هذا ؟ من البيت الذي هم فيه . ومع ذلك ، ماذا تفعل الشهوات بالنفوس ؟
إن محمداً صلى الله عليه وسلم دعا قريشاً إلى الإسلام وأبان لهم أن العبادة لله وحده ، وأنه هو من عند الله جلا وعلا ، فإن تقبلوا مني فهي حظكم من الله في الدنيا والآخرة ، وإن تردوها أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم وهو أحكم الحاكمين . ولكن قريشاً كفرت . ما هي الحجج التي احتجت بها قريش ؟ الحجج أن قريشاً قالت : يا محمد هب أننا تابعناك وصدقناك ، من نحن بجانب الأمم الأخرى ؟ إننا سوف نباد . إن الله تعالى ذكر هذا عنهم في القرآن ( أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون ) ألا ينظر العربي من أهل مكة أن الناس تتخطفهم الغارات فيما حولهم وأنهم محفوفون بالأمن ، أفيؤمنون بالباطل وهي هذه الحجارة المنحوتة التي يعبدونها ، وبهذه النعم السابغة هو يكفرون ، ثم قال في سورة أخرى ( إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ، أولم يروا أنا مكنا لهم حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون ) أي أن الأمم جميعاً سوف تحاربنا . هذه القضية التي يعيشها أهل مكة كل يوم ، يرون ثمرات الأرض تأتي إليهم من سائر البقاع ، ويرون وفود الناس تأتي إليهم حاجةً وزائرةً وذابحةً وناحرةً عندهم ، بلدهم لا يوجد فيه زرع أبداً ، ومع ذلك فببركة هذا البيت يسوق الله إليهم ثمرات الأرض .
هذه النعم المجلوبة ألا تدعو الإنسان أن يفكر ، ما مبعثها ؟ ما مأتاها ؟ إن الأمة التي لا تملك الدفع عن نفسها والتي تحمى من الله تعالى هي أخلق أهل الأرض جميعاً ، وأجدر الناس إلى أن تنصاع لأمر الله تعالى .
إن الله تعالى حين كشف في هاتين السورتين هذه الوقائع أراد من ذلك أن يبرز أولاً : ما تحيك به القوى المضادة ضد هذا الدين . وثانياً : أن يستميل بلطيف القول وتعداد النعم هذه القلوب الجافية القاسية . ونحن لو تركنا هذا الماضي البعيد الذي مضى عليه أربعة عشر قرناً ، وجئنا نسـأل سؤالاً صغيراً جداً : هل انقطعت مؤامرات النصرانية ؟ في عام 1967 حينما أراد الله أن تذوق هذه الأمة كأس الذل كان جيوش اليهود تردد : إن موعدنا في المدينة . لماذا ؟ لكي ينبشوا قبر محمد صلى الله عليه وسلم . من كان يسند هذه القوى الزاحفة على مقدسات الإسلام ؟ الدول النصرانية هي التي شجعت اليهود على ذلك .
في العام الماضي اجتمع فـي ليبيا مؤتمر لعلماء مسلمين ومسيحيين لدراسةٍ ، دراسة لا فائدة منها ، تدرس سبل التعاون بين الدينين ، وانتهى إلى مقررات فارغة ، جاء في بندين رفض النصارى التوقيع عليهما ، البند الأول أن إسرائيل دولة عنصرية ، مع أن النصارى يقولون أن إسرائيل دولة عنصرية وأنهم أُبيدوا تحت يد النازي في ألمانيا تحت هذه المقولة ، ولكنهم لا يمكن لهم أن يقولوا هذا الكلام في مواجهتنا . والبند الثاني : هو حق العرب في فلسطين لأن الدول النصرانية لا تعترف لنا أننا أصحاب حق في فلسطين ، إن أمم النصرانية التي نحن نعيش تحت رحمتها ترى أن مكاننا على رمال الجزيرة ، حيث السموم اللافح أما هذه البلاد فهم يرون أنها من حقهم .
إن إسرائيل مشكلتنا الراهنة واليومية ، لكني على يقين أن هذه المشكلة ستسوى عما قريب وستنتهي إلى زوال إسرائيل . ولكن المشكلة التي يجب أن نتنبه لها هي مشكلة المواجهة مع النصرانية .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .