تفسـير سـورة الأعلـى الحلقة الثالثة
تفسـير سـورة الأعلـى الحلقة الثالثة
29 / 10 / 1976
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مـع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون .. أما بعـد أيها الإخوة المؤمنون :
فإنا نعود اليوم لنصل بحول الله وعونه ما انقطع من حبل الكلام حول سورة الأعلى ، مضت الجمعة الماضية في حديث عن الحج ، كان ضرورياً أن يقال . والتي قبلها لم يُقدر لنا أن نلتقي ، ولست أدري بالضبط ما الذي قلته من قبل ولم يتيسر لي أن أستمع إلى الشريط المسجل لآخر خطبة من سورة الأعلى ، من أجل ذلك أتوقع أن يكون في الأفكار بعض التكرار ، فإن حصل فلست أظن ذلك من غير فائدة .
يقول الله تعالى ( بسم الله الرحمن الرحيم ، سبح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسـوى ، والذي قدر فهدى ) وفـي ظني أننا وقفنا عند هذا القول ، ثم يقول الله تعالـى ( والذي أخرج المرعى ، فجعله غثاءً أحوى ) ويلاحظ قبل أي شيء أن المعنى العام والأولي لهاتين الآيتين وهو ما يراد له أن يستقرّ في عقل المؤمن وحسه هو الإشارة إلى فناء هذا الإنسان ، وإلى حتمية مرجعه إلى الله تبارك وتعالى . وأظنكم تذكرون جيداً أن هذا المعنى منذ بواكير التنزيل تكرر مراراً ، فما من مناسبة تعرض إلا وركّز القرآن أضواءه عليها ، ليقيم في عقل الإنسان ويقرّ في ضمير الإنسان حتمية المصير إلى الله . وهذا المعنى يُساق في هاتين الآيتين سياقةً غير مباشرة ( والذي أخرج المرعى ، فجعله غثاءً أحوى ) يريد الله تعالى أن يلفت نظر الإنسان بعيداً عن المحاكمات العقلية ، وبعيداً عن الأقيسة المنطقية ، وبعيداً عن كل التجريدات التي يلجأ إليها الناس عادة لتقريب المذاهب والأفكار ليشده إلى ظواهر يراها رأي العين ويلمسها لمس اليد ، أي إنسان لا يرى من حوله ظاهرة النبات .. بذرة تلقى في الأرض ثم تنشق عنها الأرض نباتاً هشاً طرياً تكاد قطرات النسيم أن تقصفه وتقتلعه ، ثم إذا استجمع ريّاً واستوثق شدةً كان نباتاً يروق العيون ويريح النفوس ، ثم يأتيه من أمر الله ما يأتي على كل أحياء الدنيا وعلى كل أشياء الدنيا ، فإذا هو بعد الشدة إلى ضعف وبعد النماء إلى نقصان .
هذه الظاهرة التي يراها كل إنسان مَثلٌ مشهود على هذا الإنسان وعلى جملة ما في الحياة ، كلها إلى زوال . وأنت أيها الإنسان مثلك كمثل هذا النبات ، تخرج إلى الدنيا جنيناً صغيراً ، ثم تنمو وتنمو وتنمو حتى تكون شاباً فرجلاً فكهلاً ثم شيخاً تُحني السنون ظهرك وتأخذ الأيام من منّتك وقوتك ثم يأتيك من قدر الله جلّ وعلا ما لا مردّ له ولا محيص عنه ، فتذهب حيث ذهب الذين مضوا من قبلك .
الله جلّ وعلا يلفت نظر الإنسان إلـى هذه الظاهرة ليستقيم في حسه هذا الشيء ، ولكن لنا أن نتساءل : أي إنسان في هذه الدنيا في القديم وفي الحديث وطالما وُجد الناس على الأرض لا يعرف هذا الأمر البدهي ، من قال : إن الإنسان خُلق للبقاء والخلود ؟ وهل جرى ذلك على لسـان أحد ؟ نقول : لا . ويقال لنا : الكلام عبث . إذا كان كل إنسان يعرف حتمية الموت ، فلماذا هذا المثل ؟ أليس من فارغ القول ؟ وذلك صحيح بالنسبة إلى الذين لا يعقلون والذين لا يعرفون مواقع الأمثال التي يضربها الله تعالى ، وصدق الله ( وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ) وصـدق الله ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ) فكّروا بالمثل أكثر ، إن وضع الصورة أمام الإنسان بهذا الشكل ( والذي أخرج المرعى ، فجعله غثاءً أحوى ) وفكّروا مع وضع الصورة بهذا الشكل في قوانين كلام العرب ، فستجدون أن العرب حينما تقول : (والذي أخرج المرعى وجعله غثاءً أحوى) . فقد يكون هذا المصير متراخياً ضارباً في الآماد والآباد ، ولكنها حينما تغير الواو بالفاء ، بدل وجعله يقول : فجعله . فإنما تريد بذلك ما يُعرف بالتعقيب ، أي أن الأمر الثاني حصل عقيب الأمر الأول ، تقول : جاء زيد وعمرو ، فيكون المعنى جاء عمرو بعد زيد ، ولكن متى ؟ قد يكون جاء بعد ساعة وقد يكون جاء بعد مئة سنة ، وكلا الأمرين يصدق عليه صياغة الكلام ، لكن حينما تقول : جاء زيد فعمرو ، فهذه الفاء أحالت المعنى إلى صورة أخرى ، وجعلت مجيء الثاني يلي مباشرة مجيئ الأول ، ما لذي نريده من هذا ؟ نريد أن يُعلم أنه حينما نسمع الله جلّ وعلا يقول ( والذي أخرج المرعى ، فجعله غثاءً أحوى ) يريد أن يشير إلى قصر المدة بين استجماع القوة والنشاط وحلول الفناء والدمار ، كأنه لا فاصل يفصل بين الأمرين ، وما فائدة هذا ؟ فائدة هذا أن يوقظ الإنسان الذي اعتاد بتراخي الأيام ومرور الشهور والسنين أن ينسى هذا المصير ، فالإنسان لا يذكر الموت والفناء باستمرار ، ولو أن صورة الفناء تركزت أمام ناظري الإنسان بصورة مستمرة لم تغب عنه أبداً لكان إنساناً على غير ما هو عليه ، بل ربما حلّ الكسل والخمول وعدم إرادة النشاط محل هذا الذي نراه من الإنسان ، ولكن بين الذكر للموت بصورة مستمرة ، وبين النسيان المطلق لهذه العاقبة الحقة حالة وسط أرادها الإنسان ، أراد له أن يسعى وأن يضطرب في جنبات الأرض وأن يبتغي عند الله الرزق ، وأن يحمل على عاتقيه مهمته ووظيفته في إقرار هذا الدين في الأرض ، وحمله إلى الناس ، وأراد له في كل ذلك أن لا يغفل عن الله ، وأن لا ينسى حتمية المصير . فمن العادة أن الإنسان ينسى ، بل يحاول إرادياً أن يطرد من ذهنه صورة الموت والفناء ، بل يحاول في بعض الأحيان أن يغمس نفسه في المسكرات والمخدرات لينسى هذه الواقعة ولكي يتهرب من ضغطها عليه . أراد الله تعالى بهذه الصورة أن يشعر الإنسان أن الموت رصد قائم عليه ، قد يأتيه وهو في أوج الشباب ، وقد يأتيه وهو في ذروة القوة ، وقد يمهله حتى يصوّح كما يصوح النبات .
فهذه فائدة المثل من جهة ، وللمثل فائدة أخرى ، انظر إلى هذا النبات ... أنت تمشي فترى نبتة في الأرض ، راقبها جيداً ، هذه النبتة بعد شهور تكون كأن تكن ، تعال في مثلها في العام القادم ، تجد أن نبتةً من ذات الجنس نبتت في ذلك المكان أو قريباً من ذلك المكان ، أتظن أن هذه النبتة نبتت من غير سبب ؟ الرائي الذي لا يراقب يظن أنها وُجدت هكذا ، ولكن عالم النبات يعرف أن بذرة مهما تبلغ من الدقة ومهما تبلغ من الصغر فلا بد أن تكون تسـاقطت من النبتة الأولى فولدت النبتة الثانية . هذا الإنسان الذي يموت هل انتهى أمره ؟ لو أن أمره انتهى وأسدل الموت عليه ستاره الأخير ، لكانت المسألة على خلاف ذلك . الله تعالى حين يضرب لك هذا المثل يقول لك : إن هذا الفناء الذي تراه فناءً ، تضع الميت في قبره وتغلق عليه لحده وتتركه لعوامل التحلل والفساد ، فإذا جئته بعد عدد من السنين وأردت أن تتعرّف على هذا الميت الذي وضعته في هذا اللحد كان في يدك قبضة من تراب ، وأما الميت فكأنه ما وضع في هذا المكان . أتلك عاقبة الحياة ؟ أهذا كل شيء ؟ لا . إن الميت الذي مات انتقل إلى دار أخرى ليعيش نمطاً آخر من الحياة ، تلك الدار هي دار البقاء ، وكما أنك تمر بالنبات لذي تعصف به رياح السموم فتجعله كأن لم يكن فتقول : قد انتهى ، ثم إذا بك تفاجأ به ينمو من جديد ، فكذلك هذا الإنسان لا بد أن يكون بين يدي ديان جبار متكبر وهو الله تبارك وتعالى .
ففائدة المثل الذي يضربه الله من واقع الحياة من المشهود من الحسوس الذي لا يغيب عن بصر أحد ، هي هذا الذي ذكرنا جانباً منه وبعضاً صغيراً جداً من بعض موحياته . بقي أن ننظر في صياغة القضية ، لأن الناس يقرأون القرآن وينبغي أن يفهم القرآن وأن يدركوا معنى ما يقرأون . الله تعالى يقول ( والذي أخرح المرعى ) والمرعى هو كل ما ترعاه الدواب أو يأكله الإنسان ( فجعله غثاءً أحوى ) الغثاء هو الشيء الذي لا يؤبه له ، الشيء الذي لا قيمة له ، أرأيت حينما ينزل السيل من الأعالي فيجرف أمامه صخوراً وأحجاراً وتراباً وأخشاباً ومما يلقي الناس وتلقي الدواب ؟ أرأيت هذا الشيء الهش الذي يطفو على وجه السيل ويستقر على وجه المياه ؟ ذلك هو الغثاء ، ذلك هو الشيء الذي لا قيمة له ، أرأيت حينما تهب العواصف فتسوق أمامها قطعاً صغيرة من الحشائش ؟ تلك هي غثاء من الغثاء ، فالغثاء هو كل ما لا قيمة له ، وكل ما فقد الفائدة وإمكانية الانتفاع به ، هذا النبات الذي ينبت يقول الله تعالى إن عاقبته أن يكون غثاءً ، وبالفعل حينما يدركه الجفاف واليبس يصبح شيئاً بلا فائدة ، لا شيء يمتع العين ولا شيء يروق النفس ، ولا شيء ينتفع به الناس ، ولا تنتفع به الدواب .
( فجعله غثاءً أحوى ) والأحوى هم الأسمر الضارب إلى السواد ، ومن هنا سميت حواء حواء ، لأنها فيما يظهر كانت سمراء اللون شديدة الأدمة أي شديدة السمرة ، ولعلماء التفسير هنا كلام ، فكأنهم على معهود العرب في تخاطباتها وأخذاً من قوله ( أحوى ) والأحوى هو شديد السمرة حين يضرب إلى السواد ، رأوا أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، لماذا ؟ تسمعون أن العرب كانت تسمي المناطق الزراعية في العراق تسميها السواد ، ومن عادة العرب أنها تسمي الشيء الأخضر شديد الخضرة أسود ، فكانت تسمي السواد بالسواد لكثرة المزروعات ولكثرة النباتات الشديدة الخضرة ، لأن الأخضر حينما يستجمع اخضراراً يضرب إلى السواد ، فكأنهم رأوا أن النبات يكون أحوى حينما يكون غايةً في النماء ، يكون في تلك الساعة وفي تلك الأحايين أحوى ، وبناءً على ذلك قالوا : إن الكلام حقه أن يكون : والذي أخرج المرعى أحوى فجعله غثاءً ، يعني أخرج المرعى أخضر شديد الخضرة ثم جعله غثاءً لا ينتفع به .
ويرحم الله الإمام الطبري رحمه الله فقد كان إنساناً من بين المفسرين ذواقة للغة عليماً بدقائق البيان في أساليب العرب في الخطاب ، حينما استعرض هذا القول الذي قالوه وزعموا أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، قال هذا خطأ ، خطأ لأن العرب لا تستخدم التأخير والتقديم إلا لنكتة في الكلام مقصودة ، أما حينما تكون هنالك فائدة من التقديم أو التأخير فالتقديم والتأخير عجز وعي وعبث في الكلام ، وهذا صحيح ، نحن نقرأ ـ وهذا مثل نضربه لكل إنسـان لأن كل إنسان يعرفه ـ نحن نقرأ في الفاتحة ( إياك نعبد وإياك نستعين ) فها هنا تقديم ، تقديم الضمير الذي هو (إياك) وحق الكلام في الترتيب الطبيعي أن يكون : نعبدك يا الله . لكي يكون الفعل متقدماً ثم يليه الفاعل ثم يليه المفعول الذي يقع عليه الفعل ، ولكن هنا نجد أن المفعول تقدم على الفاعل والفعل جميعاً ، حينما نقول : نعبدك يا الله . فهذا يرتب معنى العبادة منا لله فقط ، ولكن هل ينفي أننا نعبد مع الله شيئاً آخر ؟ نحن نعبد الله وقد نعبد مع الله شيئاً آخر، فقول القائل : نعبدك يا الله ، لا ينفي اختصاص الله بالعبادة الذي هو نكتة الكلام والغاية المقصودة منه .
فحينما نستخدم التقديم ونقول : إياك نعبد ، فذلك يعني انصباب الفعل على الضمير المقدم ، أي أننا نخصك يا الله فقط بالعبادة ، لهذه الغايات ولأمثالها تستخدم العرب مسألة التقديم والتأخير ، وأما حينما يكون للتقديم والتأخير أي غرض فهو عبث بلا شك . فلهذا فملاحظة الإمام الطبري رحمه الله تعالى ملاحظة وجيهة للغاية والكلام لا تقديم فيه ولا تأخير ، ولكن ربنا أخرج المرعى ثم جعله غثاءً أحوى ، أي أسمر ضارباً إلى السواد ككل النباتات حينما يدركها اليبس تكون سمراء ضاربة إلى السواد . هـذا ما يتعلق بهاتين الآيتين ( والذي أخرج المرعـى ، فجعله غثاءً أحـوى ) .
لآن نواجه مسألة أخرى من المسـائل الهامة فــي قضايا الدعوة الإسلامية ( سنقرئك فلا تنسى ، إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ) الكلام هنا طبعاً موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقبل أن نخوض في المسألة نحاول أن نقول في الأسلوب ، قلنا إن الكلام موجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مشعراً إياه بأن الله سيقرئه هذا القرآن ، وأنه سوف لا ينساه ، هنا نفي وليس نهياً ، لكن هنا استثناء (ما شاء الله) فهل هذا يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سينسى شيئاً من القرآن الذي تُلي عليه وأُقرئ إياه ؟ بعض القائلين في القرآن قالوا : إن الكلام هنا خرج مخرج ما هـو متعارف عليه بين العرب في تخاطباتها فيما بينها ، فهو يقول لك : سأعطيك كل ما لدي إلا ما أشاء ، ولكنه لا يشاء أن يحجب عنك شيئاً ، وهذا من هذا ، فالله يقول ( سنقرئك فلا تنسى ، إلا ما شاء الله ) ولكن الله شاء أن لا ينسى رسوله شيئاًً ، فهم يرون أن الكلام خرج هذا المخرج .
وفي رأينا والله أعلم أن هذا القول مؤسس على غفلة عن جملة معطيات القضية كما وردت في القرآن الكريم ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نسي أشياء فعلاً ، وإن القرآن الذي أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رفعت منه أشياء فعلاً ، وما لنا نحاول أن ندلل على ذلك بالمقايسات ؟ لنرجع إلى القرآن ، في سورة البقرة يقول الله تعالى ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ، ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ومالكم من دون الله من ولي ولا نصير ) وإذاً فالنص القرآني قاطع الدلالة على أن الله تعالى شاء أن يُنسي رسوله صلى الله عليه وسلم بعض ما أوحى إليه ، وذلك باب من أبواب النسخ الذي خالفت فيه الشريعة الإسلامية سائر الشرائع الأخرى ، فاليهود قالوا : إن النسخ محال . والمسلمون قالوا : النسخ جائز لأن الله يثبت من شرعه ما يشاء ويرفع ما يشاء ويحكم لا معقب لحكمه وهو العليم الخبير . وجاء النص على النسخ في القرآن الكريم ، وحينما نضع الآيتين ـ آية البقرة وآية الأعلى ـ إلى جوار بعضهما فسوف نجد أن هذا الكلام لم يأتِ على المعهود من كلام العرب ، بأنه إلا ما شاء الله لكن الله ما يشاء ، فذلك تكلف لا ضرورة له ، وإنما ما يشير إليه الله جلّ وعلا معلقاً إياه على المشيئة أمر واقع ومعروف من سورة أخرى هي سورة البقرة ، وفي الآية الدالة على النسخ .
( سنقرئك فلا تنسى ) أي سنقرئك هذا القرآن حتى لا تنسى شيئاً منه إلا ما يشاء ربنا أن ينسيك إياه . وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن سورة الأحزاب كانت تقابل سورة البقرة في الطول ، فما زال الله جلّ وعلا يرفع منها الشيء بعد الشيء حتى استقرت على ما هي عليه .
هذا من حيث المعنى العام الذي اختلف فيه بعض المفسرين عن بعض . بقي أن نواجه هذه القضية ونواجهها مواجهة صحيحة . الله تعالى يقول لنبيه ( سنقرئك فلا تنسى ) ولاحظوا أن الكلام بناؤه على المجهول ، أي أن القارئ ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما الله هو المقرئ ، هذه واحدة ، احفظوها . الشيء الثاني ارجعوا إلى معنى الفعل ( قرأ ) في كلام العرب ، هذه المادة المؤلفة من القاف والراء والهمزة معناها في لغة العرب الجمع والحفاظ ، لاحظوا .. نحن معتادون أن نصرف لفظ القراءة إلى هذا الشيء الذي نفعله ، قرأت الكتاب ، أي أنني مررت على ما فيه ، لكن القراءة في لفظ العرب تدل على الجمع والملء ، فحينما نسمع الله جلّ وعلا يقول لنبيه صلوات الله عليه ( سنقرئك ) فمعنى ذلك أننا سنجمع لك وفيك هذا القرآن ، ونملؤك بهذا القرآن . تقول : قرأت بمعنى جمعت ، ونقول : قرأتْ المرأة أي حاضت المرأة ، أي اجتمع في رحمها الدم فقذفه ، فهذا هو معنى القرء ، فالقُرء والقَرء وقَرَأ وما يشتق منها تدل على هذا المعنى . ما الذي نريد تقريره من هذا الكلام ؟ نريد أن نقرر أن الكلام الذي أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أُنزل على المعهود من كلام العرب ، وأن كلام العرب له مدلولاته الخاصة التي فهمها رسول الله وفهمها الأصحاب ، وأنه من الضلال المبين أن نحمل معاني القرآن على التصورات الباهتة التي بقيت في أذهاننا في هذه الأيام لكلام العرب الذي نزل به القرآن ، لا ، ليس كل من هذى قرأ ، لا ، ليس كل من مرت عيناه على الكلام قرأ الكلام ، أبداً ، إن القراءة بمعنى الجمع ومعنى الملء لا تسمى في كلام العرب ولا في استعمالات القرآن قراءة مالم تخالط النفس والعقل والقلب ومالم تخالط اللحم والعظم والعصب ، أي أن الإنسان القارئ يسمى قارئاً حينما يُتمثل فعلاً بهذا الشيء الذي يقرأه .
ولهذا فنحن حينما نقرأ أدبيات الإسلام نجد وصفاً للطائفة من الناس يسمونهم القرّاء ، ليسوا عبد الباسط عبد الصمد ولا محمد رفعت ولا أمثالهم من القرّاء الذين يتعيشون بالقرآن ويتكسبون منه ، القرّاء في أدبيات الإسلام ذروة الأمة ، خلاصتها ، هم الذين يفهمون مرادات الخالق جلّ وعلا من كلامه ، وهم الذين تتمثل في أقوالهم ونياتهم وفي مسالكهم وأفعالهم حقائق هذا القرآن ، القرّاء هم الذين أصبحوا أنبياء إلا أنه لا يوحى إليهم . ومن هنا نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في وصف هؤلاء الناس : من أوتي القرآن فقد أوتي النبوة ، أو فكأنما أوتي النبوة إلا أنه لا يوحى إليه . فالقراءة إذاً التي جاءت هنا والتي وعد الله تعالى بها رسوله صلى الله عليه وسلم هي شحن النبي صلى الله عليه وسلم بحقائق القرآن حتى لا ينساه لفظاً وحتى لا يضيعه سلوكاً . ولهذا فنحن نجد أن عائشة رضي الله عنها حينما سألها سائل عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تساءلت : ألستَ تقرأ القرآن ؟ قال : بلى . قالت : فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن . اقرأ القرآن تكتشف خلق الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأن رسول الله بالفعل كان قرآناً يتحرك على ظهر هذه الأرض ، هذه واحدة أردت أن أبينها بهذا الاختصار والإيجاز ، مع أنها قضية تطوي وراءها أموراً كثيرة لأخلص بسرعة وقبل أن يفوت الوقت إلى تقرير قضية أخرى تتعلق في المسألة .
نحن باستعراض الآيات المتواردة على هذا المعنى ، وبالرجوع إلى الآثار نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجئ بهذا القرآن ، وحُق له أن يفاجأ ، هذا النمط من الكلام شيء غريب على الأسماع ، هذا الاتصال بين العالم المشهود وعالم الغيب شيء غريب على الطباع ، والرسول صلى الله عليه وسلم حينما كان في حراء قبل المبعث كان يتصور كل شـيء كل شيء إلا أن يأتيه الوحي من الله جلّ وعلا مباشرة ، فهذا ما كان يخطر له ببال ، صلوات الله عليه . من هنا كانت مفاجأته تامة وكانت دهشته عظيمة حينما فاجأه الوحي ، وقال له : اقرأ ، قال : ما أنا بقارئ ، ثم غطّه وكان ما كان مما ذكرناه لكم قبل اليوم ، جاءه هذا الكلام مع توجيه بأنه سيكون لله رسولاً ، وبأن الله اختاره ليحمل إلى الناس هذا الكلام نبراساً ومشكاةً يهدي به الله جلّ وعلا من يشاء من عباده . وإذاً فالمسألة خطيرة ، المسألة تتطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يضيع من القرآن شيئاً ، تتطلب منه ألا يسقط من هذا القرآن حرفاً ، لذلك كان رسول الله صلوات الله عليه وآله حينما يأتيه جبريل فيتلو عليه القرآن يردد القرآن معه ويحرك به شفتيه كي يزيد في استحفاظه حرصاً على ألا يسقط منه شيئاً . واستمرت تلك عادته صلوات الله عليه حتى جاءه قول الله جلّ وعلا ( لا تحرك به لسـانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه ، فإذا قرآناه فاتبع قرآنه ، ثم إن علينا بيانه ) خطاب جازم وحاسم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، حينما يأتيك الوحي كن رابط الجأش هادئ الأعصاب لا تحرك لسانك أبداً بالتمتمة بهذا القرآن خشية أن تنسى شيئاً ، فإن علينا جمعه وقرآنه ، أي أن الله جلّ وعلا تكفّل بأن يجمعه لك في صدرك وبأن يقدر على أن تقرأه للناس من بعد .
وبعد هذا الوعد القاطع كفّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن محاولة الاستحفاظ ، لأن هذه المسألة تكفّل الله تبارك وتعالى بها . لو رجعتم إلى تاريخ النبوات الأولى لوجدتم ظاهرة أخرى غير هذه الظاهرة ، في الإسلام الحرص شديد علـى أن يبقى النص القرآني كما أُنزل بلا زيادة وبلا نقصان ، بلا تحريف وبلا تغيير ، ولهذا جاءت الأخبار المتواترة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزلت عليه الآيات وسُرّي عنه أي خرج إلى الحالة الطبيعية من حالة الوحي دعا بعض من كان يكتب له الوحي فقال : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة كذا في المكان الذي يذكر فيه كذا وكذا . فبقي النص القرآني محفوظاً بحفظ الله جلّ وعلا وبإقدار الأمة على العناية به كل هذه المدة . وعلماء الإسلام والعلماء من غير المسلمين وأصدقاء الإسلام وخصوم الإسلام جميعاً يتفقون على أن النص الوحيد في الدنيا الذي يُقرأ الآن على النحو الذي جاء عليه هو القرآن فقط ، وأما سائر النصوص الأخرى دينية أو علمية أو فلسفية أو أدبية فقد طرأ عليها التغيير والتبديل بالزيادة والنقص والتحريف . هل المسألة مسألة وعد قُطع لهذه الأمة فقط ولم يقطع للأمم الأخرى ؟ أم المسألة تتعلق بصميم الرسالات ؟ نسـارع فنقول : أن المسألة تتعلق بصميم الرسالات ، فالتوراة الذي أنزلها الله على موسى عليه السلام لم تكن نصاً معجزاً بذاتها ، وإنما كانت معجزات موسى عليه السلام شيئاً خارجاً عن التوراة ، ضم يديه إلى جناحه فأخرجها بيضاء من غير سوء ، ضرب الحجر فانفجرت منها اثنتا عشرة عيناً قد علم كل إناس مشربهم ، ضرب البحر بعصاه فانفلق فكان كل فرقٍ كالطود العظيم حتى مشى موسى ومن معه من بني إسرائيل في طريق يبس لا يخافون فيه دركاً ولا يخشون فيه شيئاً ، تلك معجزات لا تتعلق بصميم الرسالة ولا بالنص الموحى به . وكذلك قل في الإنجيل ، نص الإنجيل الذي أنزله الله من السماء ما كان معجزاً يصياغته ، وإنما كانت معجزات عيسى صلوات الله عليه من نوع معجزات موسى معجزات خارجة عن نص الرسالة ، يبرئ الأكمه وينبئ الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم وإلى آخر هذه المعجزات ، أما بالنسبة للإسلام فالأمر مختلف ، تلك ديانات جاءت في سياقها من الزمان والمكان ، ليست لها صفة العموم ، لم يشأ الله لها أن تخاطب الناس أبد الدهر ، انتظاراً لهذا النبي الخاتم ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) هذا شيء ادّخر في الأزل لمحمد صلى الله عليه وسلم ولهذه الأمة .
المعجزات الحسية من كونية وما أشبه ذلك قد تكون نافعة في زمانها وفي مكانها فقط ، بل إن المعجزات الحسية حتى الذين يشاهدونها قد يمارون فيها ، وكثير ما جوبه النبيون حينما يفعلون معجزات حسية بأنهم سحرة وبأنهم سحروا أعين الناس وبأنهم وبأنهم ، فالمعجزة الحسية شيء لا يعطيك دليلاً على صحة الرسالة مقطوعاً به إلا عند فئة قليلة من الناس رأت هذه المعجزة أو سمعت بها في زمنها . ولكن مع تراخي الزمان لو جاءنا إنسان وأخبرنا أن القمر انشق لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن القمر ينشق . نقول له : ما أتيت بشيء . إن الإسلام لن يتقدم ولن يتأخر إن أقررتَ بانشقاق القمر أو أنكرتَ انشقاق القمر ، ولكن َمن الذي يستطيع أن يغفل أن معجزة الإسلام أساسية هي القرآن ؟ من الذي يستطيع ذلك ؟ إن معجزة الإسلام في صميم الرسالة ، ومعجزة الرسالات السابقة من خارج الرسالات ، ولهذا كان النص الإسلامي محفوظاً من التغيير والتبديل ، وكانت نصوص الرسالات القديمة غير محفوظة وغير مضمون لها البقاء على ما أُنزلت عليه .
من هنا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا الفارق الأساسي بين القرآن وبين التوراة والإنجيل وسائر الصحف التي نزلت على الأنبياء السابقين فيقول : ما من نبي من الأنبياء أرسله الله تعالى قبلي إلا وأوتي ما مثله آمن عليه الناس ، وكـان الذي أوتيته وحياً من الله ، فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة . هذا القرآن معجزة الإسلام فيه ، قد يماري الناس في كل شيء ولكن أحداً منذ أن نزل القرآن إلى اليوم لم يستطع برغم التحدي الذي جوبهت به فطاحل العرب وفرسان البلاغة أن يأتي بسورة من مثله ولا أن يأتي بآية واحدة من مثله ، وسيبقى هذا القرآن آية الإسلام الكبرى ، يختلف الناس ما يختلفون ، ولكن أحداً لم يختلف على أن هذا النص أكبر من قدرة الإنسان . وإذاً فهذا النص منزل من قوة أكبر من الإنسان ، وإذاً فهذا النص منزل من قبل الله تبارك وتعالى .
لهذا السبب نجد عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم وعناية الأصحاب وعناية خيار المسلمين سلفاً وخلفاً منصبة على تعاهد هذا القرآن ، يقرأونه ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً وفرادى وجماعات لا يُخلون أنفسهم منه آناء الليل وأطراف النهار ، بل حتى في أشد الظروف حراجة ، في القتال فأنت حين تقرأ أوصاف المسلمين حينما كانت جيوشهم تخرج للقتال والناس مشغولون بالطعان والقتال ، والأبطال تقابل الأبطال ، والرؤوس تطيح ، والعقول تطيش ، والأطراف تتقطع ، يوصف جيش المسلمين بأن لهم في القرآن دوياً كدوي النحل ، لماذا ؟ لأن دوام هذه الأمة بالقرآن ، ليس بأن تضع أصبعك في أذنك فتقرأ قرآناً تتغنّى به كما تتغنى المطربات ، أبداً ، وإنما تقرأ القرآن لكي يرقّ له قلبك ، وليخشع له قلبك ، وليلين له جلدك ، ولتذلّ له أطرافك ، فإذا أمرك كنتَ حيث أمر ، وإذا نهاك كنتَ بعيداً عما نهاك عنه ، هذا القرآن عُني به ليكون كذلك .
كان عليه الصلاة والسلام يقوم في الليالي بهذا القرآن ، وهو الذي وعده الله تعالى بأن يُقرئه هذا القرآن ، بأن يشحن به نفسه ، ومع ذلك كان يقرأ القرآن كثيراً ، يقوم به الليل حتى تتورم قدماه ، وأين أنتم من حديث عبد الله قال : جئت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ، قلت أصلي مع رسول الله ، فصليت ، فافتتح البقرة ، قلت يركع على رأس المائة ، أي يقرأ مائة آية ويركع ، قال فقرأها ومضى ، قلت يقرأها ثم يركع ، قال ختم البقرة وافتتح آل عمران ، قلت يختمها ويركع ، قال فختم آل عمران وافتتح النساء ، ثم ختمها وركع . ثلاث من أطول سور القرآن ، حين تجلس وتقرأها بسرعة فأنت محتاج على الأقل إلى ساعتين لتفرغ من قراءة هذه السور الثلاثة ، يقف الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ هؤلاء السور ، إذا مرّ بموطن دعاء دعا ، وإذا مرّ بآية عذاب استعاذ بالله تعالى ، وإذا مرّ باستغفار استغفر ، ويقرأها مترسلاً ، لو شئتَ أن تعدّ كلماته عداً لعددتها وهو غارق ومستغرق بجلال الله جل وعلا سارح مع هذه المعاني التي تنساب كالسلسبيل العذب تحي النفوس والقلوب ، وتنعش الضمائر .
ومن هنا كان المسلمون الذين ثٌففوا بالقرآن وعُلّموا هذا القرآن سادة الأمة وكانوا خيارها ، ومن هنا استحقوا أن يوصفوا بهذا الوصف الذين هم القرّاء ، ومن هنا رأينا الله جل وعلا حقق على أيديهم الأعاجيب ، حينما كان يشغر مكان الولاية في قطر ، القطر في الماضي يا إخوة ليس محافظة من المحافظات ، القطر مكان ذاهب في الطول والعرض ، العراق كلها قطر ، مصر كلها قطر ، الشام ابتداءً من مشارف الجزيرة العربية الشمالية وإلى كيليكيا كلها قطر ، يرسل واحد فقط من هؤلاء القرّاء ليكون والياً على هذا القطر ، ومع ذلك فإن الأمور تستقيم والأوضاع تستقر بلا حاجة إلى شرطة وبلا حاجة إلى أحراس وبلا حاجة إلى جواسيس ، لأن الناس تساس بقرآن لا يخرج من الشفاه وحسب ، وإنما يتفجر من أعمق حنايا القلوب ، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه قاضياً إلى اليمن ، فظل سنتين هناك ثم عاد ، قال : أكراهةً للإمارة ؟ قال : لا ، ولكن ابن الخطاب جلس سنتين لم يتقاضا إليه اثنان ، لماذا ؟ لأن الناس تأدبوا بهذا القرآن وعرفت ربها بهذا القرآن وعرفت حدود الله بهذا القرآن وعلمت أنه حينما تخترق الحدود وحينما تنتهك المحرمات فقد تنجو من العقوبة هنا ، ولكنها سوف لا تنجو منها هناك ، وأنه من الخير أن يتعرض الناس للعقوبة هنا ، ففضوح الدنيا خير وأهون من فضوح الآخرة . ومع ذلك فلقد عرفت الأمة شيئاً آخر ، عرفت أن مجرد الإخلال بأمر من الأوامر التي نزل بها القرآن شرّ مستطير لا يعود بالضرر على الفاعل وحسب ، وإنما يتناول المجتمع في الزمن الحاضر وفي الأزمنة المقبلة أيضاً ، إن هذا القرآن مظهر لسنة الله تبارك وتعالى ، ومظهر لمراد الله من هذا الكون ، وعلى المسلمين أن يحفظوه وأن يعوه وأن لا يُخلّوا فيه . وحين يبدأ الإخلال في القرآن فكأنما أخذ الإخلال يصيب السنة الكونية برمتها ، ولو أنكم نظرتم متفحصين وبصدق لوجدتم أن هذه الأمة التي سيست بالقرآن وربيت على مبادئ القرآن ، كانت في أوقات مجدها وفي أوقات عزها وسيادتها لا خيراً وبركةً على نفسها وحسب ، وإنما هي خير وبركة على الإنسانية بعامة .
فلقد كان الظلم في الناس فاشياً قبل نزول الرسالة المحمدية ، وحين جاءت هذه الرسالة واسـتقرت أصبح الظالمون جميعاً في بقاع الدنيا كلها يحسبون لها ألف حساب ، ولقد قال المؤرخون : إن أكبر نكبة أصيبت بها البشرية تلك التي حلت بالبشرية يوم تراجعت جيوش المسلمين في أوروبا بعد ما أصابها من اندحار . فالواقع أن هذه الأمة التي تُربى على أسس القرآن خير وبركة ، لا لنفسها وحسب ، وإنما للإنسانية عامة . وانظروا إلى خريطة العالم اليوم ـ اجتماعية كانت أو سياسية أو اقتصادية أو فكرية أو اعتقادية ـ فستجدون أن الخبال والضلال قد تغلغل في كل ناحية من نواحي الناس ، لماذا ؟ ليس عند المسلمين وحسب وإنما عند الناس عامة ، لماذا ؟ لأن هداية القرآن غابت من الوجود ، ولأن القرآن استحال عند الذين يحرصون عليه ويستحفظونه إلى تراتيل تُقرأ إما على قبور الموتى وإما في الموالد والأعياد وإما من وراء المذياع ، لكي يعيش بها ويتكسب منها أصحاب الأصوات المطلة . أما أن يؤخذ هداية فذلك شيء بعيد .
وقفت في الحقيقة عند هذه النقطة لأقرر أمرين ، لأقرر أولاً ضرورة الحرص على القرآن بنصه المنزل وبلفظه العالي وببلاغته الراقية استنهاضاً لهمم الشباب أن يتعلموا من لغة العرب ما يستطيعون معه أن يتذوقوا معاني هذا الكتاب ، هذا واحد . والشيء الثاني ، لأقول : إن معجزة الإسلام مرتبطة بالقرآن الكريم ، فمعجزة الإسلام معجزة داخلية وليست خارجية ، داخلية أي أنها مرتبطة بصميم النص المنزل من قبل الله جل وعلا ، هذا اثنان . الشيء الثالث ، أن هذا القرآن على ما هو عليه وسيلة فعالة بل هو شد الوسائل فاعلية في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ، وأن الدعوة إلى الله لن تستقيم ولا تستقيم بتة حتى يتعلم الدعاة كتاب الله جل علا علماً وعملاً ، وهذا مؤدى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم : وكان الذي أوتيته وحياً من الله فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة . في الحقيقة البوذية والبرهمية والكونفوشوسية واليهودية والنصرانية وكل الملل تصلّبت وتجمدت ، وإذا كانت النصرانية تستطيع أن تجد من يعتنقها ويذهب إليها في مجاهل إفريقيا بالترغيب أو بالترهيب وبواسطة المبشرين الذين تسير أمامهم جيوش جرارة من جيوش الاستعمار تفتك وتسلب وتنهب ، إذا كانت الصليبية تجد لها مكاناً تنمو من خلاله في تلك البقاع فإن الناس المستنيرين أصبحوا يرفضون النصرانية ، وإن الناس المستنيرين أصبحوا لا يرضون باليهودية ، وإن عقائد الهند وأديانها الكبرى أصبحت غير مقبولة ، ولكن الدعاية النشيطة فقط هي لهذا القرآن . تجد الإنسان في الهند وفي الصين وفي أوروبا وفي أمريكا وفي إفريقيا وفي أي قطر من الأقطار ، والإسلام ـ للأسف ليست له دولة تحميه ، وليست لدعاته جمعيات تمدهم بالمال أو تدافع عنهم في المحافل ، وإنما هم أناس يذهبون متطوعين ، يعيشون على قروشهم القليلة ، ويتقحمون المخاطر ويلقون أنفسهم بين المهالك ، يعرضون على الناس هذا القرآن ، فإذا أنت تجد اليوم أن في ألمانيا وفي فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وأمريكا وإنكلترة وأمم كثيرة لم تتعرف على دعوة الإسلام لا من أحد إلا من هؤلاء الدعاة ، فالإسلام يمشي بين الناس بالآيات التي يتلوها طالب صغير ذهب من بيتك أيها المسلم فقرأ القرآن في بلد من بلاد الغربة فسمعه الناس فرأوا ما فيه من هدى وتعرفوا على ما فيه من نور وتلمسوا ما فيه من حق وعدل فآمنوا بالإسلام ..
جاليات الإسلام تنتشر في الدنيا انتشار النار في الهشيم ، صوروا لأنفسكم بالله عليكم لو أن وسائل الإعلام ولو أن أجهزة الدعاوى التي تعمل اليوم في جنبات بلاد الإسلام جميعاً تعرض الميوعة وتعرض الخنوثة والانحلال والفساد .. صوروا لأنفسكم لو أن هذه الوسائل سُخّرت لخدمة مبادئ الإسلام ولخدمة قضايا القرآن .. ماذا يكون حال الناس ؟ أقول هذا لكي ألفت النظر إلى أننا مجرمون لا بحق أنفسنا وحسب ولكن بحق الإنسانية برمتها ، بحق المصير البشري كله ، لأننا سكتنا عن هداية القرآن ، ولأننا أصبحنا نصدر اللهو الرخيص ، نقتل به شمائل الرجولة في نفوس الناس وندمر به معاني الفضيلة في واقع المجتمعات الواقعة .
إن القرآن نزل من السماء على رسول الله صلوات الله عليه وحفظه الله تعالى بكفالةٍ منه ، لا ككفالة البنوك يتقرض منها ما يتقرض لكي يكون وسيلة هداية للناس عامة ، وسيكون كذلك . هو مشعل يعشو إلى نوره من أراد الله به الخير والفلاح ، فيا إخوتي إن أردتم كرامة الدنيا وكرامة الآخرة فإلى القرآن .. يا إخوتي إن أردتم العيش في بلادكم آمنين مطمئنين فإلى القرآن..يا إخوتاه إذ حرصتم على المصير البشري وعلى سعادة الإنسانية فإلى القرآن .. اعلموا أن هذه الأمة لن تستقيم في شئونها إلا إذا أصبح القرآن ديدنها الذي لا تغفل عنه ، اقرأوه واعرفوا حدوده وأوامره ونواهيه ، وقفوا حيث يقفكم القرآن،واذهبوا حيث يأمركم القرآن ، وانتهوا إلى حيث يأمركم القرآن ، تفلحوا وتسعدوا وتكونوا أدوات نافعة لهذه الإنسانية المكدودة المتعبة التي أرهقتها وأذلتها دعوات الناس ومبادئ الناس والفساد المستعرض المتطاول الذي لا يؤذن بانتهاء. فالله جلّ وعلا أسأل أن يجعلكم تبعاً لذلك الرعيل الذي سمع القرآن يتلى من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقفه قرآناً يستقر في العقول وحقائق تمس شغاف القلوب ومنهاجاً يسير عليه الناس .. وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.