تتمة المزمل
تتمة سورة المزمل
الحلقة (11) الجمعة 28 رمضان 1395هـ-3 تشرين أول 1975م
العلامة محمود مشّوح
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون:
فلقد تحدثنا إليكم في الجمعة قبل الماضية وفي آخر حديث لنا في هذا المكان عن مطالع سورة المزمل ثالثة السور التي أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد استغرق الحديث وقتاً طويلاً حول آيات قلائل من أول السورة:
)يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا(.
هذه الآيات القلائل، هي التي كانت موضوع حديثنا إليكم آخر مرة، ولقد رأينا أنَّ لله تعالى حكمة بالغة في سياقه الخطاب على هذا الشكل، إذ إن الله جل وعلا يريد أن يُعِدَّ رسولَ صلى الله عليه وسلم، ويُعِدَّ المؤمنين معه لحمل رسالة ذات طبيعة خاصة من لون لم يألفه الناس يتطلب الإعداد لها شروطاً ومواصفات في الحملة والدعاة وتتطلب هذه الشروط مشقات وأهوالاً يجب أن يقاسيها من يتصدى لحمل أمانة التوجيه من أجل ذلك كان الخطاب حاسماً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن ورائه المؤمنين أن يقيموا لياليه إلا قليلاً نصفها تدريباً لهذه النفوس وتمريناً وربطاً لها بالله رب العالمين منزل الرسالة ومرسل الرسل والأنبياء.
وها نحن الآن في سياق الحديث عن بقية السورة كم كنت أود أن أؤجل هذا الحديث فلهذه السورة في نفسي، وفي ذهني صورة خاصة، إنها تشكل في تقديري التربص الذي يكون قبل الوثوب وهي بهذا، حقيقة الشيء كثير من العناية والتمحيص، وأنى لمثلي أن يقوم بهذا في هذا اليوم، ما عسى أن يفعل مريض يحتاج إلى تركيز الذهن، ويحتاج إلى استجماع القوة، وكل ذلك غير متيسر، مع ذلك فسنقول ما أمكن مستعينين بالله تبارك وتعالى.
يقول الله تعالى بعد الآيات التي تلوناها في آخر مرة مخاطباً نبيه صلوات الله عليه وآله وسلم: )إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً( - ناشئة الليل هي وناشئة الليل هي ساعاته المتجددة التي ينشأ بعضها في أثر بعض أو إن ناشئة الليل تعني المؤمنين الذين يقومون في الليل ليصلوا وليتهجدوا، وتقول العرب نشأت السحابة إذا ارتفعت واستقلت في السماء، فكأن المصلي حين يقوم من فراشه ليتوجه إلى الله في العبادة في جوف الليل، ينشأ ويستقل كما تنشأ السحابة وتستقل.
)إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا(.
والوطء يعني الموافقة ويعني الشدة تقول في كلامك هذا الأمر شديد الوطء على فلان أي أنه ثقيل عليه ومتعب له وشاق، ويعني أيضاً، المواطأة والموافقة، تقول تواطأ فلان وفلان إذا اتفقا على أمر ما جاءت هذه الكلمة من وطأ فلان أثر فلان أي داس على موضع قدمه، فكأنه ينسج على منواله ويسير على خطاه، فلئن كان الأمر يعني أمر الوطء وهو الشدة، فمعنى ذلك أن ناشئة الليل أي ساعاته المتجددة المشغولة بالقيام وبالطاعة أشد وطأ أي أثقل على النفس وأصعب، وإن كانت تعني الموافقة وهذا هو الأوجه فالمعنى المراد والله أعلم إن ناشئة الليل أي إن ساعاته المتجددة سواء كانت في أوله أو في أوسطه أو في آخره؛ هي أكثر ملاءمة وأكثر موافقة للإنسان القائم المتعبد؛ لأنها أوقات خلو الذهن وفراغه من الشواغل، وما يصد الإنسان عن الصلة الحسنة بالله جل وعلا.
ثم بعدُ يقول:
)بعد إن لك في النهار سبحاً طويلاً(.
والسبح، هو الحركة والاضطراب والتصرف في أمور المعاش ويبدو أن معظم المفسرين القدامى حملوا السبح هاهنا على أن المراد به التصرف في أمور المعاش؛ فكأنهم لحظوا أن الله جل وعلا يوجه نبيه صلى الله عليه وسلم إلى وقتين، إن ناشئة الليل، إن لك في النهار؛ فهنا ليل وهنا نهار شغل الليل بالطاعة والعبادة وبقي النهار فارغاً؛ فقيل إن لك في النهار سبحاً طويلاً والسبح في لغة العرب هو التحرك والاضطراب تقول سبح الطائر في الهواء إذا اضطرب وتحرك. وتقول سبحت السمكة في المساء إذا جرت وانسابت.
وتقول سبحت الفرس إذا ركضت وسبقت؛ فالحركة والاضطراب هما بمعنى السبح والسبح بمعناهما. فلما رأوا أي المفسرون القدامى أن الليل شغل بالطاعة كان معقولاً عندهم أن النهار يجب أن يشغل في التصرف بأمور المعاش؛ لكننا لا نستطيع أن نوافق على تخصيص ما أطلق الله جل وعلا وما عَمَّمَ من الخطاب؛ فالله جل وعلا قال:
)إن لك في النهار سبحاً طويلاً(.
مبيناً أن له حركة واضطراباً وتصرفاً في النهار، أما نوع هذه الحركة هل هي تصرف في أمور المعاش وكسب أسباب الحياة، أم هو تصرف في الدعوة إلى الله تعالى واتصال بالآخرين فهذا شيء سكت عنه الكلام بقي الكلام مجملاً، وبقي عاماً، ومن التحكم الذي لا معنى له أن يحاول تخصيص هذا السبح لأمر دنيوي، أو أمر أخروي ليكن مطلقاً، وليكن واقعاً على ما هو دنيوي وعلى ما هو أخروي هذا كلام مختصر يبين لكم معنى هذه الآيات معناها الظاهر.
تعالوا نرجع قليلاً.. لنحاول دراسة الأمور يقول الله تعالى:
)إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً(.
لمن هذا الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الملقي وهو الله تبارك وتعالى. ماذا يعني الإلقاء؟ يعني أن هذا القول الذي وُصف بأنه ثقيل، لا صُنْعَ فيه لمحمد، ولا مُشاركةَ في التقرير لأحد من الناس؛ إنما هو تكليف أُلقِيَ إلقاءً وحدَّد من قبل البارئ جل وعلا لم يشارك محمد عليه السلام في صنعه، ولا تدخل الجهد البشري في تقريره بحال فإذاً هو خالص من عند الله.
وإذاً فهو محض الحقيقة والصدق والصواب؛ إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً في قوله تبارك وتعالى قولاً: دلالة بينة على أن كل حركة وكل تصرف لا بد لها من تصور سابق لا بد لنا أن نخطط قبل أن نتحرك، ولا بد لنا أن نتصور قبل أن نقرر البناء، أما أن نترك شؤون الحياة والأحياء للاندفاع الذاتي والآني لا نعرف له مبدأ ولا نستطيع أن نقرر له غاية فذلك هو التسيب الذي جاء الإسلام ليقضي عليه ولينهيه إلى الأبد من نفوس الذين يؤمنون به ويطبقون حقائقه.
لا بد لنا أن نصمم قبل كل شيء إنا سنلقي عليك قولاً لم يقل له قم فتحرك ولكن زوده بالقول أولاً لاحظوا أيضاً السيد المسيح صلوات الله عليه يقول فيما ينسب إليه: (في البدء كان في الكلمة، وهنا يقول الله لمحمد عليه الصلاة والسلام إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً ففي البدء كانت الكلمة صحيح، وسنلقي عليك قولاً ثقيلاً صحيح، والكلمتان تتواردان على معنى واحد؛ ولكن بينهما فرق شاسع بينهما فرق ما بين الكل والجزء كلتا الكلمتين التي صدرت عن عيسى عليه السلام والتي تنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم تدل على أن مبدأ الحركة التصور، التصوير، التخطيط، وضع الصورة كاملة أمام الإنسان؛ لكي يتحرك باتجاهها ووفقاً لمقتضياتها.
ولكن لاحظوا فرق ما بين التعبيرين لتكتشفوا إعجاز القرآن في البدء كانت الكلمة ماذا تعني الكلمة قولك تعال اذهب، قم، اجلس، كل واحدة من هذه الألفاظ كلمة، ولكنها لا تسمى قولاً في لغة العرب، نقول قال الله تعالى فنقرأ سورة كاملة فالقول؛ السورة كلها، إذاً فالقول مجموع ما يريد القائل أن يؤديه إلى المقول إليه، والكلمة جزء من الكلام قد يدل على معنى وقد لا يدل على معنى؛ الله جل وعلا حين يقول إنا سنلقي عليك قولاً يقرر أن التصميم أول شيء ويقرر من جهة أخرى أن هذا القول تصميم كامل ومنهج كامل وتصور كامل، هنا نأتي إلى أهم ما في كلامنا اليوم إليكم يقول الله تعالى: إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً، ما معنى ثقل هذا القول؟ لماذا كان هذا القول ثقيلاً؟ لأي سبب؟
دعونا نسر بالأمور شيئاً فشيئاً حتى نتفق؛ حين خلق الله ما خلق من أشياء هذه الحياة وأحيائها؛ أراد الله جل وعلا أن يبدأ خلق الإنسان من طين؛ فقال الله جل وعلا مخبراً ملائكته وعنده جنود السماوات والأرض؛ ليس محتاجاً إلى خلق آخر يستدل به على عظمته وألوهيته؛ ولكنه أراد أن يمتحن هذا الإنسان قال الله:
)وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلها(.
إلى آخر القصة المعروفة.
زبدة القصة باختصار أن الله جل وعلا شاء في الأزل أن يعمر الأرض هذه، بنا نحن الخلق أبناء آدم، وأن يهيئنا على نحو خاص نتميز به عن كل ما في السماوات والأرض ومن في السماوات والأرض من مخلوقات؛ وجنده، الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، مخلوقات نورانية لم يركب الله فيها نوازع الشر ولا غرائز الهوى والشهوة وما أشبه ذلك لا تعرف إلا الله؛ الجماد وما في معناه من الحيوان الأعجم الذي لا يعقل يسير بغريزة ليس من شأنها أن تفكر ولا أن تقدر كل شيء خلقه الله سوى هذا الإنسان ركبت فيه الغاية المرسومة له بحيث لا يحتاج إلى شيء من المعالجة والأخذ والرد مع ذاته لكي يصل إلى الغرض الذي طلب منه إلا هذا الإنسان.
هذا الإنسان من بين مخلوقات الله فقط هو الذي جعلت له إرادة، وبينت المسؤولية على أساس حرية هذه الإرادة، وأعطي القدرة على أن يرفض أمر الله جل وعلا أو أن يطيع أمر الله جل وعلا.
هذا الإنسان مهيأ لغاية كبيرة لو لم يركب الإنسان على الشكل الذي ركب عليه لألغيت الغاية من خلقه بتاتاً؛ حينما تنزلت الأوامر والنواهي لم يكن من بين خلق الله جميعاً من هو مؤهل لحملها إلا هذا الإنسان، هذا الإنسان فقط هو القادر على تحمل أكلاف الرسالة، يقول الله جل وعلا حين وصف هذا القرآن:
)لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون(.
هل معنى ذلك أننا لو جئنا بنسخة من القرآن فوضعناها فوق جبل لانصدع نصفين؟ لا، حكمة الله أعلى من أن تقرر أمراً محالاً كهذا الأمر، وإنما يقول الله جل وعلا لو أن الجبال قبلت بالوضع الذي هي عليه وفطرها الله عليه أن تحمل أكلاف الرسالة لتفلقت الجبال من ثقل الأمانة التي كلفت بها، إن الله جل وعلا يقول: إنا عرضنا الأمانة، ما هي الأمانة؟ هي هذا الإسلام، هي هذا القرآن؛ على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها حصل الرفض الكامل، وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً ليعذب الله المنافقين والمنافقات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات.
المهم أن الإنسان فقط من بين خلائق الله هو الذي قبل التكليف وأما بقية الخلائق فلم تقبل هذا التكليف، لو أن السماوات والأرض والجبال، بالفطرة التي فطرها الله عليها، قبلت التكليف ثم كُلِّفَتْ؛ لتصدعت؛ ولكن الإنسان وحده هو المهيأ لأن يقبل التكليف بعزيمة أقوى من عزيمة السماوات والأرض والجبال، من أين جاءته هذه العزيمة من حرية الإرادة ومن حرية الاختيار التي وضعها الله سبحانه وتعالى فيه.
الله جل وعلا حين خلق هذا الإنسان عارف وعالم، وافهموا هذا ليفهم كل إنسان يعمل في الحقل العام؛ عالمٌ رَبُّنا بأن هذا المخلوق بما تعمل فيه من آلاف وعشرات الألوف وملايين الدوافع لا يمكن أن تتشكل قناعاته رغماً عنه ولا يمكن أن تتشكل قناعاته إلا في سياق زمن طويل، ولهذا فالدعوة تحتاج باستمرار إلى أناة، وإلى تبصر وإلى بال طويل.
هذا القرآن حين نزل على محمد صلى الله عليه وسلم ماذا حصل، طبعاً بقطع النظر عما سبق أن حدثتكم عنه عن ظاهرة الثقل، ثقل الوحي الذي كان يعتري رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يتنزل عليه الكلام الإلهي حتى إن جسده ليثقل وحتى إن راحلته لتكاد تبرك، وحتى إن الرجل الذي يكون إلى جانبه لو اتكأ عليه رسول الله لكاد أن يرض فخذه لثقل الوحي الذي نزل، بقطع النظر عن هذا، هناك ظاهرة واضحة في الوحي هي كونها حقاً وكونها الحق الواضح اقرأ القرآن بتجرد بأمانة بنزاهة بموضوعية أي شيء تستطيع أن ترد من القرآن لا تقبله ولا يدخل في عقلك ويستولي على ذهنك؛ كل آية فيه تشير إلى حق لا يتناقش فيه العقلاء وإنما يجادل فيه المبطلون فقط وأما أصحاب الألباب فلا يناقشون في حق الله الذي نزل فيه هذا القرآن حق مطلق واضح صريح، أرأيت لو جاءك أحد الناس فقال لك إن الشمس الآن غير طالعة ماذا تقول له تقول له بالقطع يا هذا إن مكانك في مستشفى المجانين الآن الشمس طالعة والوقت نهار.
لكن لظاهرة الاختيار لحرية الإرادة لتمام المحنة والابتلاء الذي أراده الله لهذا الإنسان وجد ويوجد في الناس باستمرار من يناقشك في الأسود والأبيض، من يناقشك في الليل والنهار، من يناقشك في الحق والباطل، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ على الناس هذا القرآن وفيه من البينات ما لا يحتاج إلى مزيد تفكير ومع ذلك ماذا يرى؟ صداً وإعراضاً وتكذيباً ومناوأة وأذى، لماذا؟
صاحب العقل السليم، صاحب الوجدان الطاهر، صاحب العقل النقي، يتألم ينزعج لماذا كان الإنسان بهذا الشكل يلحد، ألا ترى الليل من النهار، ألا تبصر النور من الظلمة، ألا تفرق بين الخبيث والطيب، ألا تميز بين الحق والباطل، مع ذلك هناك لجاجة، هناك عناد، وهناك استكبار وهناك عتو، كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم موقف المتألم، موقف الذي يشعر فعلاً بثقل المهمة وثقل الأمانة التي ألقيت على عاتقه، كان يألم وكان الله جل وعلا يعزيه ويسليه:
)فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا(.
كذلك قال له ربنا جل وعلا في سورة الكهف لعلك يا محمد حينما ترى هؤلاء المعرضين أن تقتل نفسك أسفاً وحزناً على أن هؤلاء القوم لم يؤمنوا بهذا الحق الذي جئتهم به يقول له أيضاً في سورة الشعراء بسم الله الرحمن الرحيم:
)طسم تلك آيات الكتاب المبين لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين(.
ثم يلفته إلى الأمر المهم:
)إن نشأ ننزل عليهم آية من السماء فظلت أعناقهم لها خاضعين(.
يخاطبه الله جل وعلا بقوله لعلك تريد أن تهلك نفسك لأن هؤلاء القوم لم يؤمنوا مع أن آيات الكتاب آيات بينات، تلك آيات الكتاب المبين، ثم يلفت نظره إلى ما ينبغي للإنسان أن يلتفت إليه وهو في سياق الدعوة يقول الله جل وعلا:
)إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين(.
سأذكر لكم واقعة، بنو إسرائيل تعرفون كلكم أنهم قوم من أسوأ النماذج التي جربها الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام، عناد، استكبار، تكذيب، مراغمة لله، اعتداء على الرسل، تحريف وتزوير كل شيء يخطر في بالك من سفاسف الأخلاق، موجود في بني إسرائيل، كان الله جل وعلا يخاطبهم بالإيمان وكانوا يتمردون؛ ذات مرة نتق الله جل وعلا الجبل فوقهم كأنه ظلة، جبل الطور نتق فوقهم وظنوا أنه واقع بهم لأمر أراده الله جل وعلا وتمردت بنو إسرائيل حين رأوا هذه الآية وأيقنوا بالهلاك ورأوا أن الجبل يوشك أن يقع عليهم قالوا آمنا لو يشاء الله جل وعلا أن يؤمن الناس بهذه الطريقة ما أعجزته الوسيلة جل وعلا:
)إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين(.
يستطيع الله جل وعلا أن يبدع ويخترع من الآيات والخوارق ما يجبر الإنسان إجباراً على الإيمان وعنقه خاضعة وأنفه في الرغام ولكن أهذه هي الطريقة لا، يقول الله جل وعلا في موضع آخر من سورة الرعد:
)أفلم يأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد(.
ماذا يعني الكلام هنا، وفي الآية السابقة؟ يعني أن قضية الإيمان ليست من القضايا الهينة وليست من الأمور السهلة قضية تحتاج إلى قناعات وقضية تحتاج إلى إدراك من نوع خاص وإلى تسخير قوى الإنسان جميعاً لتحطيم هذه القناعات المقلوبة، ولهذا لا بد للإنسان من أن يتذرع بطول البال وبالصبر الكثير ولا بد من أن يوالي البلاغ ولا بد من أن يتحمل من أجل ذلك الشيء الكثير وهذا وجه آخر من وجوه الثقل.
إذاً ماذا كان مطلوباً من النبي صلى الله عليه وسلم؟ كان مطلوباً منه أن يعلم أن ربه الذي خلق الناس والأكوان جميعاً، وربه الذي مكنه بأداء الرسالة كان قادراً على أن يستغني عنه، وقادراً على أن يستغني عن القرآن وسائر الكتب، وقادراً على أن يستغني عن المرسلين جميعاً، وقادراً على أن يحقق الإيمان بفعل خارقة ظاهرة تلزم الناس بالإيمان قسراً وإلزاماً، ولكن حينما يكون الإيمان بهذا الشكل أين ذهبت حرية الاختيار؟ أين ذهبت المحنة؟ كيف تكون المسؤولية والجزاء إذاً نحن بهذا نلغي الغاية من الخلق كلها لكي نجعل الإنسان مجرد أداة ملحقة بالجماد أو بالحيوان وهذا ليس هو المطلوب من آدم.
مطلوب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم أن الله جل وعلا كان قادراً على كل هذا ولكنه شاء أن يرسل رسله وأن ينزل كتبه وأن يكلف بالبلاغ وأن يلزم المبلغين والداعين بطول الصبر وشدة الأناة، وهذا وجه آخر من وجوه ثقل القول الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، دعونا من هذا الثقل الذاتي لننتقل إلى سورة واضحة يجرب كل واحد منكم جرّب نفسك، قل لنفسك أنا مسلم ولن تبخل في ظني على نفسك بهذا وقل سأريد أو إنني أريد أن أدعو إلى الله جل وعلا على بصيرة وبينة، اخرجْ إلى الناس ابدأ ببيتك بصديقك بحيك ببلدك بقطرك بالإنسانية وتعال حدثني عما تلقى إنك ستلاقي العداوة والشنآن من الأب ومن الابن ومن الزوج ومن القريب ومن الصديق أنت تدعو إلى طريق والناس في طريق آخر وأنت إذ تُخْلِصُ لله محتاج إلى أن تقطع العلائق بينك وبين الناس جميعاً إلا مع المؤمنين بالله وبما أوحي به من أمر الله من هنا كان الله جل وعلا يركز باستمرار:
)قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وأزواجكم وإخوانكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره إن الله لا يهدي القوم الكافرين(.
فالله جل وعلا فرض على الإنسان المسلم حتى يخرج داعياً إلى الله تكاليف ليست المسألة بلا ثمن وإنما هنا في هذا الميدان يشعر الداعي بمعنى قول الله تبارك وتعالى:
)إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً(.
ما أثقلها على النفس وما أشقها على القلب أن تجد نفسك مضطراً وملزماً إلى أن تقطع علائقك جميعاً مع كل الناس إلا مع هؤلاء الذين يشاركونك في العقيدة أين علاقة الدم؟ أين علاقة القرابة؟ أين علاقة المصالح المشتركة؟ أين علاقة اللسان؟ أين بقية العلائق جميعاً؟
كل هذه دَمْدَم عليها إيمانك وقضى عليها إلى الأبد؛ أهذا شيء هين أم هو شيء ثقيل يسحق النفس سحقاً شديداً، هو شيء ثقيل، دعك من هذا قد لا تريد أن تجرب هذا البلاء الماحق، قد لا تريد أن تجرب هذا الشيء مطلقاً تعال. ألست مسلماً؟ ألست أنت مكلفاً بأن تصلي؟ بلى. بأن تصوم؟ بلى. بأن تحج؟ بلى. بأن تزكي؟ بلى. دعك من هذا تعالى إلى الأخلاق ألست مطالباً بالصدق؟ أيضاً بلى. بالوفاء؟ بلى بالأمانة كذلك بالعفاف كذلك أهذه الواجبات والفروض أهذه الخلائق والمناقب أشياء بلا ثمن، أشياء هينة تحصيلها سهل؟ لا..
خذ لنفسك صورة، صورة الإنسان المسلم الذي يستيقظ من الصباح فإذا استيقظ ذكر الله ثم قام فتوضأ وصفَّ قدميه في القبلة بين يدي بارئه وخالقه وذهب يصلي، حتى إذا فرغ تفقد شؤون بيته فأقامها على ما يرضى، الله ثم خرج لله ذاكراً داعياً فاضطرب فيما يضطرب الناس فأخذ وأعطى وباع واشترى؛ وهو في كل ذلك تعرض له الشهوة ويعرض له خوف الله فيأخذ بجانب الخوف ويدع ما يشتهي ويعرض له الطمع في البيع والشراء ويعرض له الغش الذي من ورائه الربح الكثير، ولكنه يرى الله فيختار جانب الله على كل أشياء الدنيا وشهواتها ثم هو فيما بين ذلك مرتبط بصلوات مرتبط بصدقات مرتبط بصيام مرتبط بأخلاق لا بد له من أن يتخلق بها.
أية رقابة بل أية درجة من الرقابة يحتاج لها الإنسان المسلم كي يحصل على هذه الحالة التي ترضي الله جل وعلا. أدركتم الآن ماذا يعني قول الله جل وعلا إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً يا خلائف المسلمين يا أبناء أخريات الزمان، يا سبة الدنيا على هذا الدين، يا عار الأبد على هذا الإسلام لو كنتم مسلمين حقاً ما تخطفتكم الكلاب على النحو الذي يحصل، الآن ولكنكم أخذتم الدين ألهية وأخذتموه سلوى وظننتم أن كلمة الله كأس ماء تشرب هنيئاً مريئاً وغفلتم عن الثمر المر عن الثمن المبهظ الذي دفعه محمد صلى الله عليه وآله ودفعه الذين آمنوا معه واتبعوا النور الذي أنزل إليه فكانوا بهذا الثمن رجالاً، رجالاً على مستوى الدعوة التي ناداهم الله لحملها لما فيها من أثقال، وبما فيها من تكاليف، وبما فيها من مشقات.
أما نحن فما نعرف من الإسلام؟ نعرف أنه رخاوة، ونعرف أنه طراوة، ونعرف أنه تسيب، ونعرف أنه لا مبالاة، وبعضنا يعرف الإسلام على أنه بضاعة تعرض في سوق البغاء وسوق النخاسة لكي يشتري بها الإنسان عرضاً زائلاً وثمناً قليلاً وشهوة باطلة ذلك مبلغ معرفتنا في الإسلام.
ولقد آن الأوان يا إخوتى أن نستيقظ جميعاً لنعرف أن هذا الإسلام يحمله نوع واحد من الناس النوع المؤهَّل لتحمل كل ما في الدعوة من تكاليف، وكل ما فيها من شدائد وأسقام وأهوال نوع واحد هو النوع الذي استعد سلفاً بأن يبذل الراحة والمال والدم في سبيل مرضاة الله جل وعلا، وليس والله مع رضى الله خسارة، وليس مع راحة الأبد مشقة، وأشقى الناس من اختار غضب الله من أجل راحة قليلة في الدنيا، وأشقى الناس وأخسرهم صفقة من اختار شهوة زائلة وضحَّى بنعيم مقيم، فالله الله بين أيديكم كتاب ينطق بالحق ولكنه ثقيل بما فيه من تكاليف، وثقيل بما فيه من مشقات، وثقيل بما يفرضه من أوضاع وأحوال، ولكن هل نملك خياراً؟ إما أن نكون مسلمين وإما أن نكفر بالله العلي العظيم لا سمح الله فإن اخترنا طريق الإسلام فلا حيلة إلا ركوب المشقة، وإلا ركوب الأسنة والحراب. وإن اخترنا الطريق الآخر لا سمح الله تعالى فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم وذلك فضل الله.
يا إخوة نسأل الله جل وعلا أن لا يحرمنا وإياكم من فضله العميم وأن يجعلنا أبداً تحت لواء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مهما تبلغ المحنة، ومهما تعظم المشقة وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.