صورة قلمية لرجل القلب
صورة قلمية لرجل القلب
بقلم: م. فتح الله كولن
رجل القلب بأفقه وعقيدته وتصرفاته يمثل بطولة الروح والمعنى، وإن عمقه وسعته ليس من ناحية المعلومات التي اكتسبها، بل بغني قلبه وصفاء روحه وقربه من الحق تعالى. فقيمة المعارف المطروحة أمامه كعلوم هي بمقدار ما تكون سببا في إرشاد الإنسان إلى الحقيقة، أي أن المعلومات التي لا تساعدنا على فهم حقيقة الوجود والأشياء والإنسان، والمعارف النظرية التي لا تملك فوائد عملية لا تملك قيمة عنده.
صاحب القلب الحي يكون مبرجاً للحياة القلبية والروحية، وعازماً على البقاء بعيداً عن كل التلوثات المادية منها والمعنوية، وحذراً على الدوام من كل الرغبات الجسدية، ويقظاً ومستعداً للكفاح ضد مشاعر الحسد والنفور والكراهية والأنانية والشهوات... كل ذلك ضمن خلق من التواضع والبساطة. يبذل قصارى جهده في كل وقت لمد يد العون لتجلية الحق وإظهاره... هو عنوان الإيثار الذي يشتعل شوقاً لكي ينقل إلى الآخرين ما أحس به وشعر به في عالم الملك والملكوت... صابر ووقور، وبدلاً من الكلام كثير، أو الضجيج الكبير تراه يعيش حسب عقيدته وإيمانه... هو رجل حركة ودعوة وإيمان وقدوة حسنة لغيره بطراز معيشته وأسلوب حياته... هو في حركة دائبة لا تعرف الفتور... يعلّم غيره آداب التوجه إلى الله والفرار إليه... لو سبرت أغواره رأيت ناراً تتأجج فيها... وهو عندما يحترق لا يشكو ولا يظهر أي غم، أو حزن، ولا يفكر في إظهار أي لاعج من لواعج الألم لغيره... يحترق بهدوء ويدفئ أرواح كل من يلجأ إليه، وينفث فيها الحرارة.
هناك على الدوام أفق بعيد في هدف رجل القلب... هو رجل الإيمان المرتبط برضا الحق تعالى، الدائم السير، يقطع المسافات تلو المسافات مثل جواد أصيل لا يعرف الفتور حتى يبلغ هدفه ومبتغاه، دون أن يفكر في شيء من حطام الدنيا.
هو رجل الحقيقة الذي لا يفكر في قعوده وقيامه وفي حركته وسكونه إلا في الحق وكيف يقيمه في الدنيا وينشره. وهو مستعد بكل رحابة صدر للخلي عن كل رغباته ومطالبه في هذا السبيل... يفتح صدره للجميع... يحتضن الجميع بشفقة، ويظهر في المجتمع على الدوام بصورة الملك الذي يفتح جناح الحماية والصيانة، ومع هذا فلا ينتظر من غير الله تعالى شيئاً... يحاول في جميع تصرفاته وسلوكه أن يكون منسجماً مع الجميع. لا يشاكس أحداً ولا يضمر عداوة لأحد. ومع وجود وجهات نظر خاصة به في بعض الأحيان حسب مهنته ومشربه، إلا أنه لا يدخل في أي منافسة أو احتكاك مع أحد، بل على العكس يحب كل من يقدم خدمة لدينه ووطنه وأمته. ويؤيد ويصفق لكل صاحب عمل إيجابي، ويبذل عناية خاصة في هذا التأييد لكي يبقى موقراً لمنـزلتهم ولوجهات نظرهم.
رجل القلب يبذل في جميع ما يقوم به من فعاليات وما يبذل من جهود اهتماماً خاصاً بتوفيق الله تعالى وعنايته ورعاية... ويبحث على الدوام عن السبل التي توصله ليكون أهلا لمثل هذه الرعاية والعناية. لذا فهو يبذل عناية خاصة للوحدة وللجماعة التي ذكر القرآن الكريم أنها وسيلة لجلب عناية الله. وهو يسارع لعمل مشترك مع كل من يمشي في صراط مستقيم، بل والأكثر من هذا نراه يسلك طريقاً ما على الرغم منه في ضمن هذا الإطار من سياسة الوفاق التي ينتهجها، وهو يعلم أن الرحمة في الاتحاد، وأنه لا يمكن تحقيق أي شيء بالخلاف والفرقة، لذا يحاول أن يجمع جهود كل من حوله ليكون قريباً من شآبيب رحمة الله وعنايته.
رجل القلب هو عاشق الحق تعالى والمتلهف لنيل رضاه، لذا نراه يربط جميع حركاته وسكناته في كل امر وفي كل ظرف وحين برضاه تعالى ويبدي حرصاً في هذا الصدد ولو أدى به إلى الموت، وهو مستعد لأن يضحى بكل شئ للوصول إلى هذا الهدف... مستعد للتخلي عن أي أمر دنيوي وأخروي.
لا يوجد في عالم رجل القلب ادعاءات أمثال: "أنا عملت" أو "أنا الذي أنجزت" أو "أنا الذي نجحت"، فهو يفرح بكل إنجاز عمله آخرون وكأنه هو الذي أنجزه ويعد نجاحات الآخرين نجاحاً له ويتبعهم تاركاً لهم شرف الريادة ومرتبتها. بل يقوم بأكثر من هذا، فهو يرى أن الآخرين سيكونون أكثر لياقة ونجاحاً، لذا يهيء لهم جواً أكثر أماناً وراحة في أداء خدماتهم وجهودهم، ثم يتأخر خطوة إلى الوراء لكي يكون فرداً عادياً ضمن الأفراد الآخرين.
ونظراً لكون رجل القلب مشغولاً بعيوبه ومجاهداً لنفسه، لذا لا ينشغل بعيوب الآخرين ونقائصهم، بل ولا يجد فرصة للانشغال. ولا يكتفي بعدم تعقب أخطاء الآخرين وعيوبهم، بل يعطي مثالاً جيداً للإنسان الفاضل فيحاول توجيههم إلى آفاق أرحب بالابتسامة، ويدرأ بالحسنة السيئة، ولا يفكر بإيذاء أي شخص وإن تعرض خمسين مرة للأذى.
يرى رجل القلب أن قضاء عمره في محور الإيمان وإطاره الكامل وتزيينه بالإخلاص القضية الأولى عنده. وهو رجل حقيقة تراه قد نذر جميع أفكاره ومشاعره وسلوكه في سبيل رضا الله تعالى، بحيث لو أُعطيت له الدنيا وما وراءها لما استطعت زحزحته عن هدفه، بل حتى لو أُعطيت الجنات لما انحرف عن وجهته وعن طريقه.
لا يدخل رجل القلب في أي منافسة مع الذين يشاطرونه فكره وطريقه، ولا يشعر نحوهم بأي حسد... على العكس يحاول ازالة عيوبهم وتكملة نواقصهم، ويتصرف تجاههم تصرف عضو الجسد نحو سائر الأعضاء... أي يتصرف بروح الإيثار تجاه رفقائه في الدرب، في جميع الأمور المادية والمعنوية من مقام أو منصب أو منـزلة أو شهرة أو نفوذ، ويدفع بهم إلى الصفوف الأمامية بينما يتراجع هو إلى الوراء، ليكون دلاّلاً على نجاحهم ومصفقاً لقابلياتهم وتوفيقهم وفرحاً بهم فرح من يحتفل بالعيد.
ومع أن رجل القلب يبقى مرتبطاً بمنهجه في العمل وحسب اجتهاده ومزاجه ومذاقه إلا أنه يبقى على الدوام محترماً أفكار ومناهج الآخرين وموقراً لهم، ويكون مستعداً للعيش المشترك معهم، ولا يفتر عن البحث عن طرق التعاون المشترك مع من يقاسمهم الفكر نفسه... يبحث عن طرق التعاون والمشاركة هذه ويطور معهم مشاريع العمل المشترك واضعاً كلمة "نحن" بدلاً عن "أنا". بل يكون مستعداً للتضحية بسعادته برحابة صدر في سبيل إسعاد الآخرين دون أن ينتظر من أحد جزاءً ولا شكوراً، بل يعد مثل هذا الانتطار دناءة وسقوطاً يترفع عنه، لذا نراه يبتعد عنه، ويهرب منه مثلما يهرب من العقارب والثعابين، ويهرب من الرغبة في الصيت والشهرة، ويحاول أن يكون منسياً.
لا يعتدي رجل القلب على أحد، ولا يقابل الاعتداء بالاعتداء، ولا يفقد اعتداله حتى في أحرج الظروف، ولا يتوانى أبداً من القيام بكل تبعات رجل القلب، فهو يقابل الإساءة بالإحسان دوماً لأنه يعد القيام بالإساءة من عمل الأشرار، لذا يتصرف كمثال لرجل الإحسان.
يعيش رجل القلب خط القرب من الله (أي الولاية) في ظل القرآن والسنة، وفي إطار من شعور التقوى والعزم والإحسان. وهو حذر على الدوام من المشاعر التي تميت القلب كالأنانية والغرور وحب الشهرة. وهو يعزو إلى الله تعالى كل ما ينسبونه إليه وكل ما يقوم به من أعمال الخير ويقول: "كل شيء منه" فيرجع كل شئ إلى صاحبه، وتراه يتحرج من كلمة "أنا" ويفضل عليها كلمة "نحن" في كل ما يتعلق بالإرادة الإنسانية.
لا يخاف رجل القلب من أي أحد، ولا يضطرب ولا يرتبك أمام أي حدث، بل يستند إلى الله ويتوكل عليه، ويتشبث بالسعي فيصل إلى التوفيق، ولا يتراجع أبداً عما يعتقد أنه حق.
لا يحمل رجل القلب ضغينة نحو أحد، ولا سيما ممن ارتبطوا بالله تعالى وساروا في طريقه. وعندما يرى أصدقاء دربه ضمن عمل سيء فلا يبتعد عنهم، ولا يشهر بهم، ولا يخجلهم، بل ربما يحاسب نفسه ويرى أن معرفته بأي سقطة من سقطات أصدقائه ربما كانت عيباً له.
يحذر رجل القلب من أي سوء ظن بالمؤمنين في التصرفات القابلة للتفسير المعقول بل يحسن الظن بهم في كل ما يرى ويسمع، ولا ينـزحلق إلى ظنون سلبية.
يعلم رجل القلب وهو يقوم بكل فعالياته وحركاته بأن هذه الدنيا ليست بدار جزاء، بل دار خدمة. لذا يؤدي ما عليه من مسؤوليات وخدمات ضمن نظام دقيق جداً، ويعد الانشغال بالنتيجة شيئاً ينافي التوقير لله تعالى. وهو يعدّ خدمته للدين وللإيمان وللإنسانية أكبر وظيفة له في طريق الحصول على رضا الله تعالى. ومهما أنجز من أعمال كبيرة فلا يجعل لنفسه أي نصيب مادي أو معنوي ولا يفكر في هذا أصلاً.
لا يقع رجل القلب في اليأس أبداً وإن انفرط نظامه الذي بناه، ولا يهتز أبداً حتى وإن وقف الناس أجمعون ضده. بل يقوم أمام جميع المصاعب وهو يصر على أسنانه متحملاً "هذه الدنيا ليست بدار زعل بل دار تحمل" يصبر ويبحث عن طرق بديلة لحل المشاكل التي تعترض طريقه ولا يفتر عزمه ولا إقدامه حتى في أحلك الظروف، بل يقوم بإنتاج إستراتيجيات مختلفة.
وختاماً نقول ونذكِّر بأنه في أيامنا هذه التي تستهان فيها القيم الإنسانية، وتتراجع فيها الأفكار الدينية، ويطغى فيها في جميع الأرجاء ضجيج الفارغين واللاهين فإننا في حاجة إلى أمثال هؤلاء من رجال القلب كحاجتنا إلى الهواء والماء.