والموت أكرم نزال على الحرم
(فقه الموت..)
زهير سالم
شيء ما يعيدنا هذه الأيام إلى مقولة الشاعر العباسي (اسحق بن خلف) الفاتك: (.. والموت أكرم نزال على الحرم) ذاك البدوي الذي ظننا به الجفاء والقسوة وغلظة الكبد، وهو يتمنى الموت لابنته الصغيرة (أميمة) إكراماً لها وإشفاقاً عليها!! فلقد كان الموت عند العربي، يوم كان عربياً، خياراً مقدماً في مواطن كثيرة، على خيارات الحياة التي لا تجمل ولا تليق، ومهرباً من الذلـة والمهانة ولواذاً بالعزة المتسترة بما يظنه (عبّاد الحياة) فناء.
أصبح الموت في فقه الإسلام جسراً لا بد من عبوره إلى العالم الأنقى والأرحب حيث يعمر اليقين قلب المؤمن أنه يصير إلى جميل وعد الله، ويلقى الأحبة الذين صدقوا وسبقوا.
لم ير المسلم الموت عدماً محضاً، ولا فناء صرفاً، وإنما رآه انقطاع تعلق الروح بالجسد ومفارقته وحيلولة بينهما، وتبدل حال، وانتقالاً من دار إلى دار. ولذا فقد كان المؤمنون في تاريخهم الطويل ينظرون إليه نظر (عبّاد الحياة) إلى الحياة (جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة..) وينطلقون إليه مهتدين بقول أولهم
(ركضاً إلى الله بغير زاد..)
في تاريخ الإيمان الطويل رجال كثيرون آثروا الموت على الحياة، وأبوا أن يشتروها ولو بكلمة رائدهم خبيب الشهيد الذي عُلّق بمكة، وهو ينادي:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
ثم ذاك الصحابي الذي وقف بين يدي مسيلمة الكذاب فسأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنه رسول الله. قال مسيلمة فما تقول فيّ.. فما أعطاه الصحابي ما أراد حتى قتله.
كثيرون من أبناء العصر لا يدركون تشخيص الرسول صلى الله عليه وسلم للغثائية التي تعيشها الأمة اليوم، ولا يقفون عندها.. قال (وليقذفنّ في قلوبكم الوهن..) قالوا: وما الوهن يا رسول الله ؟ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت..)
أوليس حب الدنيا وكراهية الموت اللذان يجعلان هذه الأمة تقعد عن مناجزة عدوها ؟ وتتأخر عن المطالبة بحقوقها، والرضى بالمتاح المهين مقابل نفس إضافي من ذلة الحياة.
على أية حياة يحرص أولئك الذي مازالوا يزينون الخنوع ويتلبسون به ؟! أولئك الذين قال الله تعالى فيهم: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة..) !! قال الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى، وسيد قطب هو واحد من الذين عرفوا قيمة الحياة، ووزنوها بوزنها، وباعوها في لحظات تألق علوية، ورفضوا أن يشتروها بكل مغرياتها ببعض كلمة !!
قال سيد قطب عن أولئك الحريصين على (حياة) في ظلال قوله تعالى: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة..) (أي حياة لا يهم أن تكون حياة كريمة أو حياة مميزة على الإطلاق، حياة فقط بهذا التنكير والتحقير، حياة ديدان أو حشرات، حياة والسلام..).
(رب عيش أخف منه الحمام) ولكن (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب).