ذات غربة
مأمون احمد مصطفى
-1-
قيل لنا ذاتَ مقام بأن في الغربةِ فوائد، أحصى الإمام الشافعيُّ منها خمسًا، وقالت العرب زيادة على ذلك.
ربما! وربما ذات قول فيه الكثير من الأمل والتمني والتَّوْق والتطلُّع، وربما فيه من تجربة الذاتِ ما يغني عن تجربة السمع وفهم الذوات الأخرى، وربما يكون لـ(ربما) الكثيرُ من التحليلات والاشتقاقات والاصطلاحات، ليس عندي فقط، وإنما عند الفلاسفة والشعراء والمفكِّرين والعلماء، كـ(حتَّى) التي حتحتت عقول أصحاب اللسان واللغة من علم ومعرفة.
وربما تكون (ربما) أكثر إعجازًا وحتحتةً لعقول العلماء والفلاسفة وأصحاب الرُّؤى والنظريات والقوانين، ليس لأني قائلها الآن وواضعها في مصافِّ المعجزة؛ بل لأنها تحمل الماضي والحاضر والمستقبل وما بينهما في نفس خمسة أحرف فقط، ولو جاء كل أصحاب العلم وادَّعوا أنهم يفهمون الماضي إمعانًا منهم وإصرارًا في تنفيذ منابت الوهم، لقلتُ لهم بجواب مُفحِم كلمةً واحدة تتكون من أحرف خمسة: "ربما"؛ لهذا "ربما" يمكنني القول بأن الفوائد التي أحملها للغربة هي منافية ومختلفة لما في القول من أثر، ففوائد الغربة عندي حطام فوق حطام.
كنت قبل الرحيل في ذات وطن، فيه نشأت، وعلى أعتاب حدقاته ومن بين رموشه انتصبتُ ومررتُ، وحين كان الصبح يُرسِلُ أول أنفاسه مع ندى مخضل برائحة السماء الممتدة، كان الحَمَام يهدلُ للخرير المتأنق في لمسة الموسيقا التي تُنشِدُها جدائلُ الشمس وضفائر القمر، كنت هناك ألعب مع الخرير لُعْبةَ المساء المشدود بين رحيل نهارٍ وتقدُّم ليلٍ يثغب دماءً تصل إلى حد إلهاب الامتدادات بلون أحمر، تتصاعد من سكونه ألسنةُ لهبٍ يكاد يشقُّ الآماد حتى نقطة النحر.
لم تكن فكرة الوطن، المربى، مسقط الرأس، بقعة الدوران المتواصل، قد تشوَّهت أو اقتربت من التشوُّه بفكرة الانتقال إلى أوطانٍ، ومساقطِ رأسٍ، وبُقَع دوران أخرى، فدوران يختلف عن دوران يُؤدِّي إلى دُوارٍ، لم أكن قد حزمت خبرتي وقدراتي، والأهم إنني لم أكن أودُّ أن أحزم قدراتي وخبراتي في البحث عن أشياء كنت أعرفها في الوطن، لكنني بسبب الهمس الرقيق بيني وبين حدود الأرض، وبسبب الماء الذي كان يتساقط من جبهتي إلى أرنبة أنفي لينقطَ فوق التراب، تراب فوَّاح يدفع الظل المنزوع من شواء الأرض نحو الماء الذي في طريقه من أرنبة الأنف إلى السر الكامن بين السقوط والالتقاط، قالت الروح: عليك أن تموت فوق هذه الأرض.
البقاء، الزوال، كلمتان عسيرتان، لا تفهمان فقط بمعنى الرؤية المادية لبقاء الجسد وزواله، بل تفهمان أيضًا بعمقِهما الروحي، النفسي، الداخلي، بعمق التاريخ الذي قضيتَه وأنت تكوِّن مشاعرك، إحساساتك، تركيبتَك العقلية والنفسية، التركيبة التي مرَّت بمليارات اللحظات والثواني المعبَّأة بزخم الاندماج والغوص في تيار متفاعل بتلاحق المحسوس واللامحسوس، الموصوف واللاموصوف، المرئي وغير المرئي.
خضرة الزيتون، حبات الزنزلخت، أشجار الدوم، السدر، الحور، رائحة البيارات، أصدقاء الطفولة، مناوشاتك مع أترابك، حزنك المفاجئ، فرحك المفاجئ، خوفك، شجاعتك، رضاك، سخطك، رائحة ثوب أمك، ضمتك لأختك، اندفاع النهار من قلب العتمة، المساجد، صوت الأذان، شكل المآذن، مدرستك، الزنزانة التي قبعت فيها، السجن، ميلاد أولادك، كل هذه، كل هذه يا ذاتي لحظاتٌ لا يمكن وصفُ كمِّ الانفعالات والأحاسيس التي سكنتك عبرَ مرورك بزمنِها الدافق، لكنها تسكنك، تتعمق جذورُها بأعماق أعماقك، لتتشكَّل في النهاية بشخصك الجسدي والنفسي، أنتِ في الحقيقة كتلةٌ هائلة، ضخمة، معجونة بتراب تاريخ هذه الأرض ومياهها.
قالت الذات: أنا أعلم بأن الرحيل ليس سهلاً، ولكني لا أملك خيارًا آخر، خيارًا أفضل، الظروف تحاصرني، تُضيِّق عليَّ بشدة هائلة، كل الأشياء، كل الظروف تعاكسني، تعاكس ذاتي.
قالت الروح: أعرفُ ذلك، ولكن حين تخلعُ قدميك لتوقف تدفُّق الإحساس والتلاحم، عليك أن تستعد -شِئْتَ أم أَبَيْتَ -للخروج من ذاتك، عليك أن تُمزِّق جلدك، تنتزعه عن عظامك؛ كي تضعَ مكانه جلدًا جديدًا، استشعاره للحرارة، للبرودة، للعطف، للحنان أقل، أقل بكثير من جلدِك الأصلي.
يوم تغادر قدميك الأرصفةُ والشوارعُ، ويوم تغيبُ الأشجارُ والجدران عن ناظريك، تلك الأرصفةُ والجدران والشوارع المسكونة بعمق رؤيتك للأشياء، للكون، للإحساس، للنبض.
يوم تغادر قدميك كلُّ هذه، عليك أن تعرف بلغة بسيطةٍ، بسيطة إلى حد الجنون، أنك تُسلِّم نفسك وروحك وذاتك لمجهول، مجهول غريب عنك، لا تعرفه ولا يعرفك، وستدخل دوَّامته دون إرادة منك، ودون أن يكون لك أي رأي أو خيار.
قالت الذات: وهل يوجد لي خيارٌ هنا أو رأي؟
هنا استعمار، مستعمِر، يُقرِّر حظر التجوال، متى أَخرُج ومتى عليَّ البقاء بالبيت، كيف أغادر مدينتي إلى مدينة أخرى، متى أعمل ومتى أكون عاطلاً عن العمل، هنا مستعمر يقتلع الشجر والحَجَر، يسحقُ الزهر والبرعم، يسمِّم الهواء والفضاء، يسفك أرواح الناس والبهائم، يُصادِرُ الأموال والأرض، هنا مستعمر لا يعرف عن الإنسان شيئًا، ومِن خلفه عالَمٌ يُصفِّق، يُنشِد لكل فَناءٍ يُحدِثُه هذا المستعمر.
قالت الروح: خيارُك أنك ثابتٌ فوق هذه الأرض، ثباتُك هو خيارُك، خروجك هو الهزيمة، بقاؤك فوق تراب الأرض التي عشقَتْك، يجعلُ منك شوكة، شوكة حادَّة قاسية لا تُكسَر، في حلق مَن تظن أنه يملك الخيار، بصورة أسهل بقاؤك هو في الحقيقة سلبٌ لإرادة المستعمر وخياره، ثباتك دليلٌ قوي على عجزِه وشلِّ قدرته، لكن إذا خرجت، عليك أن تستعدَّ لتناقض جديد، لا أستطيع وصفه، لا أستطيع شرحه لك الآن، لكنك ستعرفه تمامًا، ستُدرِكُه إدراكَ العاجز عن إقامة موازنة بين ما أنت وما يجبُ أن تكون.
عندها، عندها يا ذاتي، أفتح بيتًا للعزاء؛ لأني عندها فقط أكون قد مت تمامًا، عندها فقط تُقبَل حقيقةُ موتي؛ لأني وبكل بساطة أكون قد أحضرتُك للدنيا لأسلمَك لأرضٍ غير هذه الأرض، ولشعب غير هذا الشعب.
قالت الذات: وما هو الفرق؟ التناقض هو التناقض، والاختلاف هو الاختلاف، ففي هذه الأرض كما في غيرها تناقض وتخالف.
قالت الروح: لا، ليس الأمر كذلك، الأمر مختلف تمامًا، فاليد حين تختلفُ وتتناقضُ مع الجسدِ الذي سكنتْه وسكنها، تداوى بالعلاج، بالصبر، ولكن إذا تأزَّمت الأمور، فإنها تُبتَر، تُخلَع من الجسد؛ إحياءً للجسد، إبقاءً عليه في دورة الحياة بكل تناقضاتها، ولكن إذا انتشر الداء في الرأس، في الدماغ، ما الذي نستطيع فعله؟ هل نبترُ الرأس وندفنُه تحت رمال الأرض؟ لا، أنت تعلم أننا لا نستطيع ذلك، بل علينا فقط - وبعجز كامل مطلق، يغمرنا من أَخْمَص القدمين وحتى قمة الرأس - أن ننتظر البلاء، الألم، الألم بكل إرهاصاته، ضرباته، دون إرادة منا، ودون أي قدرة على أي شيء، غير رؤية الموت وهو يزحف بطريقته، بأسلوبه، بدقائقه هو، ثوانيه هو، يزحف منهِكًا الرأسَ، منهِكًا غرورَنا بزرع شعور العجز القاتل أمام قدرته على التحكم بعقولنا، قلوبنا، إرادتنا.
العجز شعور عظيم بالإهانة والتردِّي نحو هاوية العفن، والعجز أنواع، أشكال، ذو أوجه مختلفة، فالعجز أمام الطبيعة، أمام سطوتِها وقدرتها، مؤلِمٌ، مؤلم جدًّا، لكنه مفهوم، مستوعب، يمكن أن نُعزِّيَه لما لا نملكُ أن نقاوم، لقدرة تفوق قدرتنا، ولقوة لا نشعر أمامها بالذل والعار، ولا تدفعُنا أحاسيسُ الكرامة والأنفة أن نقفَ أمام المرآة لنُحدِّقَ بوجوهنا تحديقَ مَن يريد التأكُّد من سلامة تقاسيمه وتوازنِها مع ما يملأ صدره من اعتداد، هذا عجز نرده بسهولة، مع ما به من ألم، إلى قوة خارقة، غامضة، عاش معها البشر منذ بَدْء الخليقة، بنفس المشاعر والأحاسيس، تقبَّلوها كما هي، دون تزييف أو تجميل؛ لأنها لا تُزيَّفُ ولا تُجمَّل أصلاً؛ ولأننا لا نستطيع تزييفها وتجميلها أيضًا.
ولكن العجز الآخر، الذي يغمس الذَّات بالذل، بالهوان، بالضَّعةِ، هو الذي سيضعُك على رأس النصل، نصل الحقيقة المشحوذ إلى درجة عدم القدرة على التنصُّل منه، وحين يلمسك هذا النصل - وسوف يلمسك - عليك أن تستعدَّ للتزييف، للتجميل، للتبرير، للخروج من ذاتك، لتقول أشياء لم تكن تتصوَّر أنه يمكنك قولها من قبل، ولترضى بأشياء لم تكن ترضى بها أبدًا، وستصمت عن أشياءَ مثلُك لا يمكنُه الصمت عليها، وسيحاصرك مَن هم مثلُك بأفكار التبرير والتزييف والتجميل، وسترى مدى بسالتهم وفروسيتهم وهم يصوغون الذلَّ بجُمَل رائعة برَّاقة، لها رنين عذب ورائحة جميلة، وستراهم يدخلون من شقوقِ الهوان والضَّعةِ، دخولَ المنتصر من بوَّابات العزة والكرامة، عندئذٍ عليك أن تستعدَّ للانقسام بين ماضٍ أنت فيه شيء، وحاضر أنت فيه لا شيء على الإطلاق، وبين هذا وذاك ستبقى جسدًا، جسدًا مملوءًا بالطعام والشراب، مُفرَّغًا من الروح والإحساس، وفي هذه اللحظة عليك أن تُدرِك أنك لست سوى وَهمٍ في قالب سحري، يُرى لكنه لا يُلمس.
كانت الطائرة تقطع الآفاق، أُفُقًا تلو الآخر، ووجه والدي لا يزال أمامي، وجه رؤوف عطوف، فيه كل ملامح العرب والمسلمين، طيبتهم، رائحتهم الخالدة بأعماق أعماقي، وجه أبيض مُشرَب بحُمْرَة دم دافئ، وعينان خضراوان خضرة الزيتون، وجه عرَف ما تعنيه الغربة، البعد عن الأرض، عن العشيرة، عن مكوِّنات النفس وتوتُّراتها دون أن يُغادِر الوطن، عرَف ذلك فقط عندما غادر من الوطن إلى الوطن، حين غادر حيفا قاطعًا على قدميه مع أمي مسافة محدودة، تمتدُّ من حيفا وحتى طول كرم؛ حيث أقام هناك لاجئًا داخل الوطن.
حذَّرني كثيرًا من الانتقال قبل تحذير الروح، قلت له كثيرًا بأن في السفر فوائد، تجارب، خبرات، انفتاحات، حتى إن هناك مَن يقول بأن السفر يكشفُ الكثير من المستغلق، ويفتح الأبواب المُوصَدة في كهوف تَعِجُّ بالعتمة، وقلتُ له وجملت، وبررت، حتى وصلت يومًا إلى تصديق نفسي، وأيقنتُ بأن المبرِّرات والتجميلات هي حقائق من يقينٍ متَّصل بيقين، لكنه لم يُعلِّق كثيرًا، يبتسم ابتسامة تكاد تذيب الشفتينِ من شدة الشفقة والأسى، لماذا كان هذا الرجل العجوز المرسوم على رقعة الألم والضنك والعذاب يقف عند الابتسامة؟ ولماذا كان هذا الرجل العجوز المعجون بالتجربة وحكمةِ التقلُّب بين أزمان وأمكنة لا يزيد على البسمة شيئًا؟
سأقول لكم وللروح وللذات أقوالاً لا تُشبِه الأقوال، وسأُفصِّل لكم المفردات وأخيطها بسَمٍّ دقيقٍ يستطيع أن يَرْقُم حتى على سطح الماء رَقْمًا يمكن للأجيال أن تتساءل: كيف لم تستطع الأمواج أو الأنواء أو العواصف أو الفيضانات أن تمحوه أو تجعلَه يترجرج مع الموج المنتشر كنتوءات من صخر متحرِّك؟ وسأترك بين الحروف مسافات بيضاء وسوداء، وأخرى خضراء وحمراء، لا لشيء سوى أنني لم أملِك قدرة انتقاء المفردات والجُمَل التي يمكن أن تصل ببلاغة وخفَّة ورشاقة إلى القارئ؛ لهذا، فما هو مكتوب هو اللون الذي وصل عجزي وغروري إلى التصديق بأنه يُعبِّر عن شيء مما سأقول، وما لم تَرَوْه أو تستطيعوا قراءته، هو الفواصل التي تركتها لتبقى أقوى وأبلغ مما رقمت وقلتُ وكتبت.
لن أحدثكم عن الشوق والاشتياق، عن الرغبة العارمة الفيَّاضة السيَّالة لاحتضان الوطن من وريده إلى وريده، ولا عن اندفاع القلب من مكمنِه ليلتقطَ رائحة البرتقال والليمون، ولا عن العين المتحفِّزة بدهاء الأسود والنمور للقفز وإمساك لون زهر اللوز وجلنار الرمان.
لا لن أُحدِّثَكم عن ذلك، ولا عن العَلاقة الوطيدة بيني وبين النَّسمات المنسلَّة من بين شقوق الالتهابِ والاحتراق لتلامسَ مِفْأَدة الفؤاد المستطير لوعة على دودة كنت أربطها بفخٍّ لاصطياد دوري أو ديك سمين.
ولن أُحدِّثَكم عن عملية السطو المنظَّمة التي دبرت وتربي جمال كنعان على قِنِّ الدجاج الذي لا زال يسكن مخيِّلتي ونواة توقُّدي واشتعالي، فهذا أمر مفروغ منه ومحسوم، تمامًا كالحسام الحاسم أمر رقبة جزَّها فدحرج ما كان عليها من عَل.
لن أُحدِّثَكم عن تلك الليالي العميقة الغَوْر والسطوع، المكتظَّة بعتمة النور، حين كنت أتواعد مع القمر وضيائه لسمر بين عاشق ومعشوق، سمر يدفع بألم الخُمار للانفتاح على خفقات ترابٍ يُشكِّل قلب السمر، ليالٍ كنتُ أخرج فيها مع بَدْء ضراوةِ وشراسة المعركة بين غروبٍ ينازعُ للبقاء في قلب النور، وعتمة تمدُّ نصال أرمحتها في القلب المنازع لتتدفَّق الدماء صابغةً الأفق بشَفَق يكادُ يذهل الذهول من جمالِه وتميُّزه وتأنُّقه، تلك الليالي التي كنت أواعد معشوقتي لنلتقي بين جذوع أشجار البرتقال والليمون، لنتمدَّد فوق التراب، وننهل من رائحةِ التراب، معشوقتي التي كانت تخرجُ من مَرْبضِها وعَرِينها لتقولَ لي: أنا الروح التي أتت لتنام معك هنا على هذا التراب المتدفق بروائح الظل والشمس والندى والطَّلِّ والغروب وتنفس الصبح، وحين كنا نُفِيقُ كانت تنسل إلى أعماقي من جديد لتختفي في مكانٍ ما زلت أجهلُه حتى يومِنا هذا، مع أنها وحتى هذه اللحظات التي أكتب فيها خرجت لتحاورني الحوار الذي رُقم وسُجِّل على الصفحات السابقة.
سأحدثكم أولاً عن لحظات السحرِ الذي يفوقُ الوصف والخيال، عن إحساسي بوجود الخالق - جل شأنه - بقربي أينما تنقَّلت وحللت، بيوم كنت هناك، وقبل أن ألمس الغربة بوشاح الوهم والزيف.
صلاة الصبح في مسجد المخيم الشديد التواضع كان لها شأن، وكان لها مذاق، كان لها نكهة لاذعة قوية حارَّة، توتر اللحظات والأجواء برهبة تُداهِمُ الروحَ وتربط على الفؤاد، فينخلع القلب من فرط السكينة والهدوء والاطمئنان، حتى تكاد للحظاتٍ تشكُّ بأنك تتنقلُ على بساط من أثير أو ريح شديدة النعومة والحريرية، كانت لذَّة لا توصف ولا تُؤطر، لا تخضع لمقياسٍ أو علم، بل إلى عقيدة واعتقاد، إلى استيقانٍ ويقين، إلى حقٍّ يدفع نحو حق، ولن أكون مبالغًا إذا قلت بواقعية يعرِفُها مَن ذاق طعمَ اليقين والسكينة واللذَّة المقتحمة للذات، بأني لو امتلكتُ فقط حاسَّة بصر أقوى قليلاً من المعهود لشاهدت الملائكة - رضوان الله عليهم - وهم يُظلِّلون الناس والصلاة والإيمان بظلال من نورهم المتدفق.
لم تكن صلاة الصبح وحدَها هي التي تدفعُني للشعور بأني سأفقِدُ الحياة من حجمِ اللذَّة التي تترسَّخ بيقيني، وإن كانت هي الأعظمَ تأثيرًا، فبيني وبين الميضأة عَلاقة لا تنفك ولا تنحل ولا تنحسر، وكذلك بيني وبين الوَضوء والوُضوء، بيني وبين المراوح المتدلِّية من السقف، بيني وبين أسماء الخلفاء - رضوان الله عليهم - على أقواس الأعمدة الحاملة للقُبَّة، بيني وبين المصاحف الموزَّعة على الرفوف، بيني وبين المكتبة، وكذلك بيني وبين المِئْذَنة والجدران، وحتى مسامات الهواء الناعمة.
أتريدون مني أن أُحدِّثَكم عن صلاة العشاء؟ أم جلسات وحلقات العلم في المسجد المسكون بالحزن والإيمان؟ عن أصدقائي وأَتْرَابي؟ عن ملاعب الطفولة والصبا؟ عن الجبال والوديان والسهول والسهوب؟ عن الغدائر والجداول والينابيع والسواقي؟ عن رائحة الناس وهم يُعذِّبون الوقتَ بصبر الأولياء من أجل استلالِ لُقْمَةِ خُبْز؟ عن الموت المتربِّع فوق الرموش والأحداق والأهداب؟ عن خفقات الليل وهو يتمدَّد خوفًا ورعبًا من أنفاس الصبح؟
عن ماذا أُحدِّثُكم؟ فهناك الوطن الذبيح الحي الذي يستردُّ الدماء المهرقة إلى نحرِه ليواصل الابتسام والضحك والحبور، ابتسامات الصمود، وضحكات الشهداء، وحبور الفقراء بفقرٍ أورَثَهم كلَّ العزة والكرامة، لن أُحدِّثَكم عن شيءٍ من هذا، رغم أنه تاجُ الحديث، ودُرَّة الروايات، وهَيْبة الابتهالات، وخشوع الدعوات، فهناك كنتُ وكان الوطن، كنت معه، وكان معي، كنت في قبضتِه، وكان في قبضة يدي، حمَلني على عنقِه، وحملته على عنقي، زارني في كل صباحٍ وزرتُه، همس لي وهمستُ له، قال: أنت هنا في المكان والزمان، حيًّا كنت أو ميِّتًا، همستُ: أنت عندي بمنزلة الحلم والرؤى، والماضي والحاضر والمستقبل، سأبقى فيك وعليك وبك ومنك.
قلت ذلك، همست به، للوطن الذي يشدُّ أوتار الخلود إلى نوازع الاعتقاد والإيمان.
فهل صدقت؟
كان عليَّ - أو هكذا أَوْهمت ذاتي - الرحيلُ من العهد، من الوطن، من بين حنايا أرواح الشهداء، ومن بين ثنايا كرامة الفقراء؛ لأختبرَ الغربة وفوائدها، فهل اختبرت؟
نعم اختبرت، سأُحدِّثُكم عمَّا اختبرت في ذات غربة رقم اثنين، ولكني أنصحُكم أن تتبرَّؤوا من قراءتها منذ اللحظة، فإن كنت أنا أنانيًّا إلى درجة رقمها بثبات فوق ماء، فأولى بكم أن تكونوا كرماء بتركها حتى يستطيع الماء أن يطمسَها طمسًا لا يسمح بانتقالها إلى أزمان قادمة، يكون الزمن الذي كتبت به غابرًا.
(2)
الغربة أنواع، منها ما يأتي بضرورة تدفعها رغبةٌ مُعلَّقة بزمن أو هدف أو تطلُّع، كغربةِ العلم وملاحقته وطلبه في مستوى من مستوياته العليا، وهناك غربة البحث والتَّطْواف ومعرفة أخبار وعادات وتقاليد الأمصار وأهلها، وهناك غربة البحث عن الرزق من أجل تحسين الحال وإصلاح واقع في تَسلسُل لنهاية مريحة من حيث الاكتفاءُ وعدم الحاجة.
كل هذه الأنواع وما يُشابِهها تكون مقبولة ومستوعَبة، وإن حملت بتكويناتها وشفرتها الوراثيَّة ما يتَّصِل بالحنين والشوق والاشتياق.
لكن، الغربة التي تبدأ منذ اللحظة الأولى مقرونة بالاغتراب، فإنها تتميَّز بأنها ستصطدم بذاتها، وبتفاصيلها الخاصة، والأهم أنها ستصطدم بكل أنواع الغُرْبة السابقة، فاذا ما أضيف لغربة الاغتراب قَسريَّة الهجرة، فإنها تكون قد بلغت مبلغَها من الوجع المشقوق من وجع، وارتبأت الصهوة التي ليس خلفها صهوة من قساوة وكمدٍ وقُنوط وحزن.
في مكان الولادة، وحيث سقط الرأس لأول مرة، تكون الأشياء كلها، من حيٍّ وجماد، من أرصفة وشوارع، من أزقَّة ومحلات ومقاهٍ، من وجوه بيضاء وسوداء وقمحيَّة، من طبائع وطباع، من عادات وتقاليد، تتأسَّس في ذات لحظة سقوط الرأس؛ لتبدأ رحلة الحياة والمرافقة الآنية لكل زفْرة وشهقة، وكأنها تتمحور وتتأصَّل في كلِّ تفصيله وجزئية من جزئيات الشخصيَّة المركبة من المشاعر والوعي والإحساس، فتبدو الكوامن، وهي تنبعِث روائح فوّاحة تُمكِّنك من التمييز والاختيار بين ما تريد وما لا تريد، بين ما تُحِب وما تكره، بين ما يُناسِبك وما لا يناسبك، فرحلة التكون هي التي تدفعك لإقصاء أناس عن محيطك وجذْب أناس إلى ذات المحيط، وقِسْ على ذلك كل شيء وكلّ أمر.
هناك تستطيع أن تُحدِّد الصديق الذي يتوافَق ويأتلِف مع رُوحِك وتطلعاتك وأمنياتك، وهذا وحدَه كافٍ لنزع شعور الاغتراب وإبقاء مشاعر الألم والعذاب التي يُمكن التعامل من خلال الأصدقاء الذين يَبذُلون من حيث يدرون أو لا يدرون جهودًا تتحوَّل إلى رغبات حية مُتحرِّكة مرفرفة لتطير بعيدًا عن منابت الألم والعذاب ولو لفترة قليلة، وهذا ما يُمكِن الاعتماد عليه في حالة الشعور بخواء في المشاعر أو كآبة عابرة، أو قلقٍ يقطع الطريق.
هذا الذي أدَّعي ليس نسجًا من خيال أو ركونًا إلى وَهْم، بل هو تلاصق واندماج في حق وحقيقة، لنقل أمرًا في غاية البساطة، لكنه أيضًا في غاية التعقيد من حيث امتلاكُه والحصول عليه: أن يكون لديك مَن تستطيع أن تتحدَّث معه بقوة ومتانة وحرية وانطلاق، دون أن تضطرَّ أن تتوقَّف بين الحين والآخر لتشرح له المقصودَ من هذا القول وتلك الجملة، ودون أن تجد نفسَك مجبرًا أن تُبرِّر المعنى الذي تَحمِله هذه الجملة وهذا القول، فإنك تكون قد وصلت إلى نقطة تعتبر سقفًا من أسقف الهدوء والاطمئنان والسكينة؛ لأنك تعلم أيضًا بأن تأثير الحروف والمشاعر تَصِله كما هي دون اختلاط أو التباس، فهو يعرف فرحَك وحزنك، فيفرح ويحزن معك، وهو يعرف قوَّتَك وضعْفَك، فيمنح ضعفك قوة ويأخذ من قوتك ليسند ضعفه، والأهم أحيانًا أنك لست بحاجة إلى كلام كي تعرف مَن يُواجِهك ويشترك معك بهذا، ماذا تود أن تقول أو عن ماذا تسعى لتُفصِح؟ أَضِف إلى ذلك إضافة التقدير والاحترام التي تَستحِقها، وتعلم أنك تَستِحقُّها، فتأتيك ساعية من فرطِ أدبهم وتهذيبهم وسموِّ أخلاقهم وعلوِّ هيبتهم، يُزاد على هذا السر الذي يضيق صدرك به إلى حد الجزر والنحر، فتراه قد اتخذ قبرًا هامدًا غابرًا في صدورهم فور خروجه من صدرك.
هناك أكثر الأشياء، مِلْك يمينك واختيارك، وأقصد تحديدًا بالأشياء متعلِّقات الشخصيَّة، فأنت من تُحدِّد من الصديق ومَن الزميل ومن الرفيق؟ وهناك أنت من تُحدِّد من العدو، ومَن تستطيع أن تسير معه في الطرقات دون أن تَسقُط شخصيتك وهيبتك، وهذا ما ينأى بك عن شعور الحاجة لأطراف لا يمكن أن تُقرِّر أو تقبل بأي لحظة من اللحظات أن تلتقي بهم أو تمنحهم وهلة أو هنيهة من وهلات عمرك وهنيهاته.
يقول المثلُ الفلسطيني التراثي: "اللي يخرج من داره، يتقل مقداره"، وفي اللغة الفصيحة يكون لفظ المثلِ: "مَن قرَّر الخروجَ من بيته إلى بيوت الآخرين، سيتعمَّد الآخرون المسَّ بقيمته ومقداره وهيبته وشخصيَّته، حين خرجت من الوطن".
بدأت رحلة البحثِ التلقائيَّة عن المصاعب والآلام التي ستُشكِّل بدايةَ الشعور بقسوة المثلِ السابق، وبداية الشعور بالغربة التي تؤسِّس لشعور الاغتراب، وهي رحلة فيها من العجب ما يُلامِس الأساطير، وما يَصِل إلى أم رأس الأسطورة، وإن بدا للآخرين أنها عادية تجري بدفقها كما تجري الأنهار والجداول.
تبدأ غربتي في القسْر الخارج عن الإرادة، فأنا ابن وطن مُحتلٍّ مسلوب، تتركَّب طبقاته واختلافات جوِّه وتباين تضاريسه بإرادة تُعاكِس إرادة التاريخ والحق والمنطق معاكسة تامة، وكذلك تسير بتوازٍ مُطلَق مع إرادتنا وطموحاتنا وتطلُّعاتنا، فنحن لم نعرف معنى الحريَّة ولم نتذوَّقها إلا من خلال المقاومة التي توقِد ذاتها من أرواح وأجساد ودماء شهداء وجرحى ومعتقلين ومشرَّدين، لم نَملِك إرادة تفوق إرادة البقاء والتضحية والثبات، ومن أجل الاحتفاظ بهذه الإرادة غرسنا نواجذنا بالألم والعذاب، ومنَّينا الجسدَ بالثبات من أجل البقاء، فكانت خطوات العمر تترافق مع إرادة تودُّ استئصال النواجذ، وتمحو الثبات، وتُغرِق البقاء، كانت المعركة هائلة، لكن القوة التي بيد الإرادة المناهضة لإرادتنا تبدَّت قوَّتها وظهر تأثيرها، فكان على قِسمٍ كبير من أبناء الأرض أن يتَّجِه برؤاه وأمنياته خارج حدود الوطن من أجل الحصول على لقمة عيش ورغيف خبز، وقد لا يُصدِّق البعضُ أو يعتبر الأمر مبالغةً حين أقول: لقمة عيش أو رغيف خبز، وللتأكيد على علبة حليب لرضيع.
ومن هنا تدخُل الأسطورةُ بدايةَ الرحلة، الخروج من البيت، كما قال المثلُ، متَّصِلة بأرض عربية، وهذه الأرض المتَّصِلة من جميع جهاتها بأراضٍ عربية، وإسلامية، ظننا ساعة الخروج بأننا سندخل أراضي لا تختلف في لغتها أو مساجدها أو مآذنها أو قبابها، وصوت الفاتحة والناس عما كنا نعرف ونحن في الوطن، قلنا: بأن الخروج من غرفة إلى غرفة أخرى في البيت، لا يعني سقوط الهيبة والاحترام والتقدير، ومنَّينا النفس بأن أولادنا الذين أحضرناهم للعالم، سيبقون أبناء أمَّة مُكتمِلة النماء والفِكْر، كما اللغة التي نتحدَّث والدين الذي نؤمن.
على الحدود الأولى، قالوا لنا: كم من الأيام ستبقَون في بلادنا؟ ومَن هو الكفيل الذي سنعود إليه إن تأخَّرتم كي يَجِدكم ويدفع المبلغَ ثمن تَجاوزكم الأيام المعدودة عليكم؟ شعرنا بالخضَّة، خضة قوية كافية لتغييب الوعي، وشممنا الهواء مرة أخرى، وجدنا رائحتَه تضج بمرارة مخلوطة بحموضة، تَطلَّعنا إلى الأفق فوجدناه قاتمًا كغيمة مُثقَلة بالضباب الممعِن في السواد، قلنا: مِن حد إلى حد تختلف الروائح والمذاقات، حملنا أنفسنا رُغم الارتجاج، وطوينا مسافات مُتفرِّقة نحاول لمسَ الحدود وتبيين المقام الذي يحفظ الكرامة، كان الألم ممتدًّا من كل حد إلى حد، نفْس رائحة الهواء ونفْس مذاقات الصدمة، لم تكن الأشياء كما قيل لنا ونحن أطفال: "بلادُ العُربِ أوطاني مَن الشَّـامِ لبغدان، ومن نجدٍ إلى يَمَـن إلى مِصـر فتطوانِ"، ولم تكن الحقائق التي سُمِّمنا بها ونحن أطفال تتوافَق مع "فـلا حـد يباعِدنا ولا ديـنٌ يفـرِّقنا لسان الضادِ يجمعُنا بغـسَّان وعـدنانِ"، أدركنا الآن أننا في كون له حسابات لم نكن نعرفها، تنامت فينا أشياء لا منهلَ لها ولا طبيعة ولا أسماء، بكينا بكاء الخنساء، وندبنا كما تَندُب الأمهات أفلاذ أكبادهن، لم نُصدِّق، ولم نشأ أن نُصدِّق، لم نبحث عن جاه أو مال أو ثراء، كنا نبحث عن أمن وأمان، وعن رغيف خبز، وعن حبل صغير يجعلنا نوثِّق علاقتنا بالمئذنة والمسجد والكتاب المكنون.
ماذا سنفعل بصلاة الصبح التي تزرع الخوفَ والرجاء في النفوس؟ وكيف سنصلِّي الصلوات الخمس في البيت دون روعة ورهْبة المسجد؟ وكيف سنفصِل أولادنا عن حروف لا يذكر اسم الله إلا بها؟ ولا يقرأ كتابَه الكريم الا بإتقانها؟ ماذا سنفعل حين يسألنا أولادنا السؤالَ العسير: لماذا لم تتخذوا مكانًا في وطن نحن أولى به وهو أولى بنا؟ ماذا سنقول لهم؟ إن أهل الأوطان تلك نبذونا كما نبذنا الاستعمار؟ أم سنقول لهم بأنهم من أبعدونا عن صوت الأذان وخوف ورجاء صلاة الصبح؟ أم سنقول لهم: بأننا لا نودُّ أن نكون مع مَن لم نكن عنده؟
صغير كدودةٍ، ولا يقع ضِمن حدود البصر كفيروس أو جرثومة لا ترى إلا من خلال المكبِّر، من يرى بهذه التساؤلات عدم قيمة أو مبالغة وتهويل، فلو قيل لي يومًا زحزح أو أننا نودُّ منك أن تَحمِل الرواسي كريشة صغير من طير صغير، لقلت بأن ما طُلِب مني يمكن أن يخضع للاستهجان أو الدَّهشة، لكنه طلب يمكن أن يكون ضِمْن حسابات التعجيز، أما تلك التساؤلات فإنها تفوق وزن الرواسي والأكوان، وهي الضربة الأولى نحو التعمُّق بإحساس الاغتراب الذي سيواصل المسير نحو الغربة.
كنا قبل ذلك، نظن بأن وطننا ممتد، كامتداد الآفاق، مُتَّسِع، اتساع الأكوان وما بينها من مسافات وما فيها مَن توسُّع مُضطرِد؛ لذلك حملنا الجذل والغبطة والحُبور على كواهل مُثقَلة بأنواع العذاب والوجع، مزجناها كما الألوان بالثِّقة واليقين، وكنا إذ ذاك، ننزل نحو الأرض فنضع صدورَنا لتلاصِق الطين والتراب؛ طلبًا لوشوشة الأرض والوطن، وحين كانت ضربات القلب تتوحَّد مع التراب والطين، ونسمع اهتزازاتها ونُحِس صوتها وهي تُرسِل الخَفْق إلى الجذور، كنا نوقِن بأنها تنتقل من تراب الوطن الصغير المسجون والمسلوب والمصلوب إلى تراب الوطن العربي الإسلامي الممتد إلى امتداد رُوحنا ليَحتضِن خطوات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخطوات أصدقائه وأصحابه - رِضوان الله عليهم - فهنا في القدس كان محمد -صلى الله عليه وسلم- قادمًا من مكة؛ ليصلي بالرسل والأنبياء في المسجد الأقصى، وهنا خطوته - عليه السلام - يوم خطا منها إلى ما فوق السموات حتى كان قاب قوسين أو أدنى، وهنا وجدتْ رائحة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأرضاه، وقبله كان يوسف وإبراهيم وزكريا وموسى - عليهم السلام - وجاء بعدهم خالد بن الوليد وأبو عبيدة وشرحبيل وصلاح الدين ونور الدين - رضي الله عنهم - وأرضاهم، كان هنا عرب ومسلمون من جميع الأصقاع والأمصار والحواضر والأرياف، صلوا كما صلينا، وذرفوا دموعَ الخشوع كما ذرفنا، ورجفتْ جلودُهم رهبةً من آيات كما رجفنا، ومنحوا الأرضَ مِثل الذي منحنا، لم نقل يومًا بأن الأرض أرضنا، ولم نقل لشراع مفتوح بأن الموانئ مُقفَلة، كانت فلسطين مفتوحة، حتى للغربان والبوم والحمائم والبلابل والعنادل، للياسمين والأقحوان والدحنون والحناء والشيح والحنظل والغضى، كانت فلسطين مرفأ من لا مرفأ له، وكنا أهل أهلنا وأهل من لا أهل له.
حين لُفظنا، ونُبذنا كوباء طاعون أو جُدري، اهتزَّت أحشاؤنا وضربت معدتنا، لكننا لن نتخلَّى وسنرفض أن نتخلَّى عن وطننا الكبير، وسنمنحه بدل العُذْر ملايين الأعذار، لكننا لن نتنازل من أجل يوم سنقف فيه أمام الله لنُحاسِب مَن منعنا من العيش تحت ظلال المآذن وفي رِحاب المساجد، من منَعنا من سماع آيات الله تُتلى في كل صلاة وفي كل شارع، ومَن دفَع أولادنا ليسألونا: لماذا رفضتنا أمتُنا وأهل ديننا ولغتنا، وقَبِلَنا الكفارُ ومنحونا المأكل والملبس والمسكن والأمن والأمان؟ لماذا رفضتنا أمتنا وأهل ديننا ولغتنا حين كنا نحمِل وثيقة مرور عربية إسلامية، وأدخلونا أراضيهم دون قيد أو شرطٍ، وبكل احترام وتقدير حين أصبحت وثيقتنا أعجمية لا تحمل دينًا أو لغة؟ لا، لن نُسامِحهم أمام الله، هناك سنقول وبفم ممتلئ بالحسرة وثقة العدل والعدالة: يا رب، من هنا بدأت رحلة الغربة نحو الاغتراب.
وهو ما سيكون في الجزء الثالث من هذه الذات.