حتى تنفقوا مما تحبون
عبد الله الطنطاوي
قال مصعب لأخيه فؤاد:
- كلام الأستاذ واضح.
فردَّ عليه أخوه فؤاد:
- إذا كان كلام الأستاذ كما فهمته أنا، فهذا يعني أن أتصدّق على الفقراء بكل الأشياء الجميلة التي عندي.. وأن تتصدق أنت بكل الأشياء الحلوة التي عندك.. وأن يتصدق أبونا بهذا القصر الذي نسكن فيه، وبالمرسيدس التي عنده، لأن هذه كلها أشياء نحبها، كما نحب غيرها..
فقاطعه مصعب:
- على مهلك يا فؤاد، فأنت تريد أن تجردنا من كل أشيائنا التي نحبها.
قال فؤاد في سخرية:
- طبعاً.. ألم يقل الأستاذ ذلك؟
فأجاب مصعب وهو يبتسم:
- لا يا أخي.. الأستاذ كان يشرح الآية الكريمة: )بسم الله الرحمن الرحيم: لن تنالوا البرَّ حتى تنفقوا مما تحبون( صدق الله العظيم.
فلكي تنال الثواب يا فؤاد، عليك أن تتصدق من الأشياء التي تحبّها، لا من الأشياء التي تكرهها وتريد أن تتخلص منها.
فقال فؤاد ساخراً:
- يعني.. إذا جاء شحاذ مثلاً، فسوف أخلع له بذلتي الجديدة، وقميصي الجديد، وحذائي الجديد، وأقدمها لحضرة الشحاذ أفندي، حتى أنال الثواب.
ثم نظر فؤاد نحو أخيه نظرة تحدّ وقال:
- قل لي يا مصعب.. هل الأستاذ يفعل مثلما يقول؟
هل الأستاذ أسامة يتصدّق على الفقراء بما عنده من أشياء جميلة يحبّها؟
أدرك مصعب أن مثل هذا النقاش مع فؤاد لن يفيد، فقال:
- ما رأيك في إطفاء النور لننام، وغداً تناقش الأستاذ في هذا.
وقام مصعب إلى مفتاح النور ليطفئ الثريا، فصرخ به فؤاد:
- اترك النور، ونم إذا كنت تريد أن تنام..
- وأنت؟
- أنا؟ أنا ما نعست.. عندما أنعس أطفئ النور وأنام.
قال مصعب:
- ولكن الساعة صارت..
فصرخ فؤاد:
- دعني منك، ومن ساعتك..
فما كان من مصعب إلا أن يعود إلى سريره وهو يقول في همس:
- سامحك الله يا فؤاد.. لا مذاكرة، ولا مطالعة، ولا صلاة أو..
فصرخ فؤاد من جديد:
- ألا تنام وتتركني من محاضراتك؟
قال مصعب:
- تصبح على خير..
سحب مصعب اللحاف فوق رأسه، وراح يفكر في حال أخيه فؤاد، هذا الولد الشقي الذي لا يحب إلا نفسه، الكسول الذي لا يؤدي واجباته المدرسية، الذي ينفق أوقاته في اللعب مع أولاد الحارة، وفي الجلوس الطويل أمام شاشة التلفزيون، وإذا نام لا يستيقظ، ويحاول أن يستأثر بكل ما تصل إليه يداه، ولا يستحيي أن يستخدم أمه، فيطلب منها أن تأتيه بكأس ماء، أو شاي، وما أشبه ذلك.
وسأل مصعب نفسه:
"ترى.. ماذا أستطيع أن أفعل، من أجل تخليص فؤاد من هذه العادات السيئة التي جعلت رفاقه في الحارة ينفرون من اللعب معه، وهو يفرض نفسه عليهم، بما أوتي من وقاحة وقلة إحساس، كما جعلت زملاءه في الصف يتحاشونه (أي يبتعدون عنه) لما فيه من غلظة وتكبر.. حتى أولاد أعمامه وأخواله صاروا يضيقون بوجوده بينهم إذا جاؤوا لزيارتنا، ويتمنون لو يتركهم ويذهب إلى غرفته، ويغلق عليه بابها، حتى لا يروه ولا يسمعوا صوته."
واسترسل مصعب في هذه الأفكار، حتى أسلم عينيه للنوم، ولم يستيقظ إلا على رنين الساعة المنبهة التي توقظه على صلاة الفجر.
بعد أن صلّى مصعب، وقرأ ما تيسر من القرآن الكريم، حاول إيقاظ أخيه فؤاد، فقد جهز الإفطار، واقترب موعد المدرسة، ولكن فؤاداً أبى أن ينهض من سريره، وزعم أنه مريض ولا يستطيع الإفطار ولا الذهاب إلى المدرسة.
وفي المدرسة، سأل الأستاذ أسامة عن تلميذه فؤاد، فقال له مصعب:
- فؤاد مريض.
فقال الأستاذ متضاحكاً:
- مريض أم متمارض يا مصعب؟
وضحك تلاميذ الصف التاسع، وغضّ مصعب من بصره خجلاً من هذا الموقف الذي سببه له أخوه، وتمتم بشفتيه: سامحك الله يا أخي يا فؤاد.
* * *
كان الأستاذ أسامة معلماً ناجحاً، وله تأثير كبير على الأطفال الذين يعلّمهم، فقد كان تلاميذه يحبونه ويحترمونه ويستمعون إلى نصائحه، ويحاولون تنفيذها حسب استطاعة كل واحد منهم.
وكان الأستاذ أسامة خبيراً بنفسيات الأطفال، وكان يعطيهم الكثير من علمه وتوجيهاته ولا يبخل عليهم بشيء مما يطلبونه منه، فتعلق به تلاميذه، وصار لهم بمثابة (أي مثل) الأب ، والأخ الكبير، والمعلم المخلص الذي ينير لهم الطريق الذي يجب أن يسلكوه (أي يسيروا عليه) في حياتهم، لتكون حياتهم ذات قيمة ومعنى.
وكان الأستاذ أسامة يركز في نفوس تلاميذه على حب الخير، حتى يصير فعل الخير سجية (أي عادة) لهم يفعلونه لوجه الله، دون أن ينتظروا أي مقابل لقاء ذلك.
وكان الأستاذ أسامة يلاحظ الفوارق الكبيرة بين الأخوين الشقيقين التوأمين: مصعب وفؤاد، فمصعب تلميذ مثالي، يؤدي واجباته المدرسية على خير ما يرام (أي ما يطلب منه) ولا ينسى واجباته تجاه زملائه التلاميذ، يكرمهم، ويساعد المحتاج منهم، ويندفع في تقديم ما يمكنه تقديمه لهم، ولا ينسى المستخدمين والآذنين في المدرسة حتى اشتهر في المدرسة كلها، وليس في صفه فقط، بالكرم وصنع المعروف وحب الخير، فأحبه المعلمون والطلاب والمستخدمون، وكانوا ينظرون إليه في حب وإعجاب، ويدعو له الصالحون منهم، يدعون الله تعالى أن يكثر من أمثاله، وأن يحفظه من كل سوء، وأن يزيده من فضله، ويجعله قرّة عين لأبويه، وكانوا يقارنون بينه وبين أخيه، وبينه وبين أبيه المتكبر المستعلي على الناس، فيعجبون، ويقول أحدهم:
- سبحان الله.. شوكة خلّفت وردة.
ويقول آخر:
- فؤاد ابن أبيه، ومصعب لأخواله.
ويعلق ثالث بقوله:
- صدقت، أخواله طيبون، بسطاء، صائمون، مصلون.
فيقول الأستاذ أسامة:
- كلامكم كله صحيح.. فأولاً: الولد سرّ أبيه، وكذلك كان فؤاد، والمثل العربي يقول: كادت المرأة تلد أخاها، ومصعب لأخواله.
وسكت الأستاذ أسامة لحظات، ثم قال:
- ولكننا لن نعدم الوسيلة التي تجعل فؤاداً ولداً صالحاً كأخيه مصعب.
* * *
وسار كل واحد من الأخوين الشقيقين في طريق..
مصعب في طريق الخير وفعل الخيرات..
وفؤاد في طريق آخر غير طريق أخيه مصعب، كان يقوده إليه طيش الشباب، والدلال الذي يلقاه من أبويه، ولكنه لم يكن شريراً خالصاً، كانت فيه بعض بذور الخير التي تحتاج إلى من يتعهدها بالسقاية والرعاية لتظهر على سطح الأرض وتنمو، ولهذا كان يظهر عليه التأثر بأخيه في بعض تصرفاته وأحواله، لأن أخاه مصعباً كان شديد الحنو عليه وعلى أمه وأبيه وعلى أخته الصغيرة (هبة) يُؤْثرهم (أي يقدّمهم) على نفسه في كل شيء.. يُؤْثرهم في طعامه وشرابه، ويخدمهم، ويعمل من أجل راحتهم، وكان يشتري لأخته الصغيرة بعض الألعاب والحلوى من مصروفه، ولا يبخل على واحدٍ منهم بما عنده من مال أو من لباس أو متاع مما كان يهديها إليه بعض أخواله أو أعمامه أو أصدقائه فهؤلاء جميعاً كانوا يحبونه، لما يرون مَنْ أخلاقه العالية، ومن الحب الذي يوزعه على من حوله من الأهل ،والأصحاب، ومن الصدق في التعامل معهم، ومن الجد والاجتهاد في المدرسة.. حتى أمه وأبوه كانا يغدقان عليه (أي يعطيانه الكثير) من المصروف والهدايا، لتلك المزايا والصفات التي يتصف بها، على الرغم من أنهما كانا يضيقان – أحياناً - ببعض تصرفاته وخاصة عندما كان يدعوهما إلى الصلاة في إلحاح، ولكن في لطف..
* * *
قال مصعب مرة لأمه:
- لماذا لا تصلين يا أمي؟
أجابت الأم:
- عندما أكبر أصلي.. أنا ما زلت شابة، وأريد أن أستمتع بشبابي.
قال مصعب:
- الشاب التائب حبيب الله يا أمي.
فقالت الأم:
- اطمئن يا مصعب، سوف أتوب إلى الله وأصلي وأصوم وأكون كما تريد عندما أكبر.
قال مصعب:
- عفواً يا أمي.. ألا تخافين من الموت؟
وسمع أبو مصعب كلام ابنه هذا وهو يقترب منهما، حيث كانا يجلسان في حديقة القصر على بساط طبيعي أخضر تحت ظل شجرة الجوز الباسقة (أي الطويلة العالية) وبالقرب من شجيرات الياسمين التي كانت تعطر الجو بعبيرها الأخاذ، فاستاء أبوه مما سمع، وصاح بولده:
- ما هذا يا مصعب؟.. كيف تكلم أمك بهذا الكلام؟
نهض مصعب، وحيّا أباه ثم قال في حياء وهو يغض طرفه:
- عفواً يا أبي.. أليس الموت حقاً؟
هل يستطيع أحد الهرب من الموت؟
فأجابه أبوه، وقد خفف من حدّته:
- هذا صحيح.، ولكن.. لا يجوز أن تخوّف أمك بكلامك هذا.
قال مصعب في حنان ورقة:
- عفواً يا أمي ما قصدت الإساءة إليك.
وقالت الأم، وقد بللت دمعة أهداب أجفانها الطويلة:
- لا يا ولدي.. أنت لم تسئ إليّ.. أنت لا تسيء إلى أحد.. أنت تريد لنا الخير.
وقال أبوه بلهجة تنمّ عن الحب والاقتناع والحنان:
- صحيح.. مصعب يريد لنا الخير، ولكنه لا يحسن التصرف.. لا يعرف كيف ينتقي ألفاظه.. ولا الوقت المناسب لها.. وإلا.. فهل يجوز له أن يذكر الموت في هذا الجو الشاعري الجميل، في هذه الحديقة الجميلة الرائعة؟ في هذا الوقت بالذات؟ أليس كذلك يا مصعب؟
فابتسم مصعب ابتسامة لطيفة ساحرة وقال:
- هذه الحديقة الجميلة الرائعة يا أبي هي التي ذكّرتني بالموت وما بعد الموت.. أريد أن نذهب جميعاً إلى الجنة، لنعيش هناك معاً في جنان النعيم.
فقال أبوه:
- وهو كذلك.. سوف نكون في جنان النعيم إن شاء الله.
فقال مصعب:
- لكن.. لكل شيء ثمن يا أبي.. وثمن الجنة طاعة الله.
فقالت له أمه وهي تبتسم:
- اطمئن يا مصعب.. نحن من عائلة يعيش أفرادها سنين طويلة.. انظر إلى جدك ؟ لقد بلغ الثمانين من العمر ولم يمت، وجدّ أبيك مات في التسعين، وجدي الذي هو أخو جدّ أبيك تجاوز التسعين من السنوات، وأنا وأبوك سوف نصلي ونصوم ونحج عندما نبلغ الستين.
ونظرت إلى زوجها وهي تسأله:
- أليس كذلك يا زوجي العزيز؟
فأجاب أبوه في نزق وخوف:
- بلى.. بلى..
فقال مصعب في ود:
- اسمعي يا أمي.. أنا ابنك، والرسول العظيم يأمرنا بطاعة الوالدين، والنبي الكريم يقول: الجنة تحت أقدام الأمهات، وسوف أدخل الجنة برضاكما عليّ إ ن شاء الله، ولكن..
فسأله أبوه:
- ولكن ماذا يا مصعب؟
فأجاب مصعب في حياء وتردد:
- ولكن.. من واجبي تجاهك يا أبي.. ومن واجبي تجاهك يا أمي، أن أقول لكما.. أن.. أن.. أن أنصحكما، لأني أريد أن ندخل الجنة جميعاً.. معاً..
كان فؤاد يستمع إلى هذا الحوار وهو جالس في شرفة غرفته، فنزل إلى الحديقة، وسلّم، ثم استأذن في الجلوس معهم، فيما كان مصعب يقول:
- الموت يا أمي لا يعرف صغيراً ولا كبيراً.. الأعمار بيد الله.. وقد مات ابن عمّي وهو ابن ثلاثين سنة، وماتت أختي، رحمها الله، وهي طفلة في العاشرة من عمرها..
فنهض أبوه، والضيق ظاهر عليه، وهو يقول:
- لا يا مصعب.. ما هكذا تكون النصيحة..
نهض مصعب مع أبيه، وأمسك يده بكلتا يديه ثم قال:
- أرجوك يا أبي.. أن لا تطعمنا أنا وأمي وأختي وأخي إلا من الحلال.
فصاح به أبوه:
- مصعب..
وتابع مصعب يقول:
- والمال الحلال الذي نريده هو المال المزكّى يا أبي..
لا نريد أن نأكل ولا نشرب ولا نلبس من مال غير مزكّى..
فسحب الوالد يده من بين يدي مصعب، وسار مسرعاً نحو الباب الخارجي، وصوت مصعب يلاحقه:
- أرجوك يا أبي.. المال الحلال هو المال المزكّى يا أبي.. المال المزكّى يا أبي.
* * *
كان حديث مصعب مع والديه قد تغلغل في نفس فؤاد الذي كان يسأل نفسه:
- من أين يأتي مصعب بهذا الكلام؟
أنا لم أفكر يوماً بالحلال والحرام.. المال الحلال هو المال المزكّى.. لا يريد أن يأكل ولا يشرب ولا يلبس إلا من المال الحلال.. من المال المزكّى.. ولا يريد لأمنا ولا يريد لي ولا لأختي الصغيرة (هبة) أن نأكل إلا من المال الحلال.. المزكّى..
وتذكّر كلام الأستاذ الذي كان يحيطه برعاية خاصة.. تذكّره وهو يقول:
- كل جسد نبت من سُحْتٍ (يعني من حرام) فالنار أولى به..
إنه لا يذكر: هل هذا من كلام الأستاذ أسامة، أم أنه حديث شريف من كلام الرسول عليه السلام.. على أي حال.. إذا لم يكن هذا من كلام الرسول حرفياً، فالأستاذ أسامة قد أخذ معناه من القرآن الكريم أو من الحديث الشريف، فالأستاذ أسامة عنده ثقافة شرعية ممتازة والله أعلم..
ثم عاد يسأل نفسه:
- والموت؟ لماذا يكثر (مصعب) من ذكر الموت، مع أنه ما يزال صغيراً، ولكن صحيح ما قاله (مصعب).. الموت لا يعرف صغيراً ولا كبيراً.. والدليل على ذلك: ابن عمي وأختي وزميلنا الذي مات تحت عجلات سيارة كان يسوقها شاب طائش.. الموت حق.. ولكن.. كيف تخطر مثل هذه الأفكار على بال مصعب، ولا تخطر على بالي أنا؟
* * *
كان من عادة فؤاد أن ينام طويلاً صبيحة كل يوم جمعة.. ينام حتى الظهر، إنه ينتظر يوم الجمعة بفارغ الصبر ليشبع من النوم.. كان يسهر ليلة الجمعة حتى وقت متأخر من الليل، حتى تنتهي أكثر برامج التلفزيون، وهي برامج تكون في العادة طويلة ليلة الجمعة ويسهر عليها كثيرون، وكان فؤاد من هؤلاء الذين يسهرون، وكذلك كان أفراد الأسرة، أمه وأبوه وأخته، حتى الصغار كانوا يسهرون إلا مصعباً كان يصلي العشاء، ثم يأكل لقيمات ثم يدخل إلى غرفته ليقرأ ما تيسر له من القرآن الكريم،
ثم يقرأ في كتاب من تلك الكتب التي كان يشتريها حسب إرشادات الأستاذ أسامة، ثم ينام هادئ الأعصاب، بلا كوابيس ولا منامات ولا أحلام مزعجة، ففؤاد لا يذكر أبداً أنه سمع شخيراً لمصعب، أو لاحظ أنه يحلم حلماً مزعجاً، كما لم يحدّثه في يوم من الأيام عن منام مزعج.. وهذا أمر مهم عند فؤاد الذي كان كثيراً ما يرى منامات وكوابيس توقظه من نومه وهو يصرخ صرخات عالية، أو صرخات مخنوقة.. كانت الكوابيس تقلقه وتخيفه، حتى صار يكره الليل والنوم، خوفاً من المنامات والكوابيس..
قال فؤاد لنفسه:
سوف أجرب اليوم.. سوف أنام مبكراً مثل مصعب، وسوف أستيقظ مبكراً مثل مصعب، وسوف أذهب مع مصعب إلى صلاة الجمعة..
وفي العاشرة من مساء الخميس، وليلة الجمعة، تسلل فؤاد إلى غرفته، فرأى أخاه مصعباً يطوي كتاباً كان يقرأ فيه، استعداداً للنوم، فبادره بقوله:
- سوف أجرب، يا مصعب، أن أنام اليوم مبكراً.
فأقبل مصعب نحوه متهلّل الوجه (أي مسروراً) وسأله في فرح:
- صحيح يا فؤاد؟
أجاب فؤاد:
- إن شاء الله.
فسأله مصعب مرة أخرى:
- وهل أوقظك لصلاة الفجر؟
وأجاب فؤاد:
- إن شاء الله.
وقبل أن يطفئ مصعب النور قال لأخيه:
- أنت أخي يا فؤاد، وأنا أتوسّم (أي أرى) فيك الخير، والأستاذ أسامة دائماً يذكرك بخير، ويدعو لك بالتوفيق والنجاح.. لأنه يريد لنا الخير، كما يريده لنفسه ولأهله ولسائر الناس.. وأنا أريد أن نكون كلنا في الجنة يا فؤاد.. أنت وأنا وأمنا وأبونا وأختنا هبة.. أريد أن يجمعنا قصر جميل في الجنة مثل هذا القصر الذي نسكن فيه، بل إني أطمع في قصر أجمل منه.
فابتسم فؤاد وقال:
- ولكن.. حتى تنفقوا مما تحبون.
فقال مصعب في تأكيد:
- أجل يا فؤاد.. حتى تنفقوا مما تحبون.. حتى ننفق مما نحب..
* * *
وعندما أذن المؤذن لصلاة الفجر، نهض مصعب من سريره إلى الحمام، وتوضأ، ثم حاول المستحيل لإيقاظ أخيه فؤاد، ولكنّ فؤاداً كان يغطّ في نوم عميق.. فكّر في رشّ قليل من الماء على وجهه، ولكنه خشي (أي خاف) من ردّة فعله.. خاف من انزعاجه، فتركه، ثم فكّر في إيقاظ أمه وأبيه، ولكنه خاف من ثورة أبيه وغضبه، فصلى وحده، ثم قرأ جزءاً من القرآن الكريم، ثم رفع يديه، وصار يبتهل (أي يدعو) إلى الله أن يهدي أباه وأمه وأخاه وأخته التي أكملت عامها السابع، ليؤدي كلّ واحد منهم حق الله عليه من صلاة وزكاة وصيام وحج، وأن يؤدوا حق العباد عليهم، وأن يؤدي أبوه حق المال، فيزكّي ويتصدق على الفقراء والمساكين، ويدفع لأسر الشهداء والمجاهدين، وكذلك أمه التي لها أموال يجب أن تزكيها.. وكانت عيناه تدمعان وصوته يرتجف وهو يدعو:
- اللهم اهد أبي.. اللهم اهد أمي.. اللهم اهد أختي وأخي.. واحفظهم جميعاً من كلّ سوء، واسترهم بسترك الجميل يا ستّير..
كان يكرر هذا الدعاء وهو جالس على سجادة الصلاة، وكان فؤاد يسمع هذا الدعاء وهو بين النائم واليقظان كأنه في حلم لذيذ، ثم شاهد أخاه مصعباً يتسلل من الغرفة بهدوء، حتى لا يزعجه، فازداد به إعجاباً، فقد كان يمشي مصعب على رؤوس أصابع قدميه.. فعاد هو إلى النوم، وهو يعجب من رقة أخيه مصعب، ومن أخلاقه الرضية، وتديّنه، ومن حبّه لفعل الخير..
كانت العصافير قد هبت من نومها، وانطلقت ألسنتها توحّد الله بأعذب (أي بأحلى) لغة، كانت تزقزق وهي تتقافز من شجرة إلى أخرى، ومن غصن إلى آخر، وكان مصعب يسبّح الله بصوت خفيض، وهو يستقبل خيوط نور الصباح الوليد، كما يستقبل زقزقة العصافير أو تسبيحها، عندما حضر البستاني أبو علي مع ابنه علي، ليعملا في حديقة القصر، يسقيان الأشجار ويشذبان أغصانها، وينظفان أرض الحديقة، ويحفر أبو علي هنا، ويلتقط عليّ بعض الأوراق الساقطة على ذلك البساط الأخضر الذي غطّى أرض الحديقة..
تقدم مصعب من البستاني وحيّاه تحية الصباح، فرفع أبو علي رأسه إلى مصعب، فطالعته عيناه الخضراوان كخضرة ذلك المرج الأخضر الذي يغطي أرض الحديقة، فردّ التحية بأحسن منها، ثم سأله مصعب:
- هل هذا الشاب ابنك يا عمي؟
أجاب البستاني:
- نعم يا ولدي.. إنه ابني عليّ.
ثم نادى ولده:
- تعال يا علي.. تعال سلّم على الأستاذ مصعب.
وجاء علي مسرعاً، وسلّم على مصعب في شيء من الخجل والارتباك، بينما كان سلام مصعب حاراً، ثم نظر إلى البستاني وعاتبه بقوله:
- لماذا لم تعرّفني إلى عليّ يا عمّي؟
أجاب البستاني، وهو ينفض يديه ليخلصهما مما علق بهما من طين الحديقة:
- أولاً لأنه خجول.. علي يستحي كثيراً، مثل بنت البيت.
نظر مصعب إلى علي، فرأى حمرة الخجل تصبغ خديه، ثم سأل:
- وثانياً؟
قال أبو علي:
- ثانياً لأنه طالب مجتهد، ولا أريد أن أضيع وقته بالعمل معي.
فقال مصعب:
- سبحان الله.. هل إذا جاء معك عليّ، فلابد أن يشتغل معك؟
قال علي:
- إذن لماذا آتي إذا لم يكن مجيئي لمساعدة أبي؟
قال مصعب:
- تأتي لنتعارف.. ثم.. في أي صفّ أنت؟
أجاب علي:
- في الصف التاسع.
قال مصعب:
- وأنا وأخي فؤاد في الصف التاسع.. يعني أننا ندرس معاً في صف واحد.
ثم التفت إلى أبي علي وسأله:
- أليس كذلك يا عمي؟
قال أبو علي الذي عاد إلى عمله، وكان ينكش الأرض:
- كما ترى يا مصعب يا طيّب يا ابن الطيبين.
قال مصعب:
- والآن.. هل تسمح لنا أن نتمشى في الحديقة يا عمي؟
- كما تحب يا ولدي..
وفيما كان مصعب وعلي يمشيان في الحديقة، ويتبادلان الأحاديث الودّية والمسائل المدرسية، كان عصفور جميل الألوان يقف على نافذة الغرفة التي نام فيها فؤاد، وينقر على زجاجها ويزقزق حتى أيقظه من نومه، فجَرّ فؤاد اللحاف فوق رأسه، لعله يبعد صوت العصفور عنه، ولكن العصفور كان مصمماً على إيقاظه بالنقر على زجاج النافذة، وبصوته الساحر.
نهض فؤاد، وطرد العصفور، ثم عاد إلى السرير، فعاد العصفور إلى النافذة ينقر ويزقزق في إلحاح، فنهض من جديد والغضب ظاهر عليه، ثم رمى بالوسادة نحو النافذة، فطار العصفور، ولكنه ما لبث أن عاد من جديد ينقر ويزقزق..
تعجب فؤاد من عمل هذا العصفور، فخرج إلى الشرفة ليطرد بقايا النوم من عينيه، فسمع صوت أخيه مصعب وهو يتحدث إلى فتى في مثل سنّه.. كان مصعب يقول لعليّ:
- عندما ترى أخي فؤاداً تحبّه.. إنه في عمرنا، وفي صفّنا، وهو إنسان طيّب جداً، وسوف يفرح بالتعرف إليك. وبصداقتك..
ثم سمع البستاني ينادي:
- أين أنت يا ولدي يا علي؟ تعال ساعدني..
فأسرع علي نحو أبيه، وكان يتبعه مصعب بخطوات هادئة، فعرف فؤاد أن هذا الفتى هو ابن البستاني..
فكّر فؤاد فيما يجب أن يفعله مع هذا الصبي، وشكر العصفور الذي أيقظه، وقال في نفسه:
"إن العصفور لم يوقظني إلا ليدلني على شيء.. على فعل الخير في هذا الصباح المبارك.. صباح يوم الجمعة.."
ثم أخذ يتطلع إلى ذلك الفتى ويتأمله (أي ينظر إليه متفحصاً) فرآه ولداً فقيراً، كان يلبس بنطالاً وقميصاً متواضعين فقرر أن يقدّم لابن البستاني بعض ملابسه القديمة، ولكنه تذكّر الآية الكريمة التي شرحها لهم الأستاذ أسامة: "حتى تنفقوا مما تحبون" فقال:"وأنا أحبّ البذلة الصيفية التي اشترتها لي أمي بالأمس، ولم ألبسها بعد..
" أخرج البذلة من خزانة ملابسه، ثم خرج يفتش عن كيس من النايلون ليلف به البذلة، فسألته أمه التي كانت قد استيقظت من نومها:
- عن ماذا تفتش يا فؤاد؟
أجاب فؤاد:
- عن كيس نايلون جميل.
فسألته أمه، وبقايا نوم ما تزال عالقة في أجفانها:
- لماذا استيقظت مبكراً؟ ليس من عادتك.
قال فؤاد:
- هل عندك كيس نايلون جميل وكبير يا أمي؟
فسألته من جديد:
- لماذا؟ ماذا تريد أن تفعل به؟
أجاب فؤاد:
- أريد أن أقدم هدية.
- لمن؟ وفي هذا الوقت؟
أجاب فؤاد:
- لابن أبي علي، لعليّ ابن البستاني يا أمي.
- وهل تعرفه؟
- الآن رأيته.. إنه في الحديقة يعمل مع أبيه.
سألته الأم:
- وماذا تريد أن تقدم له؟
أجاب فؤاد:
- البذلة الصيفية.
- أي بذلة؟
- التي اشتريتها لي أمس.
فصرخت به أمه:
- ويلك.. داخ رأسي وأنا أفتش لك عن هذه البذلة.. والآن.. بكل بساطة تقدمها هدية لابن البستاني..
قال فؤاد:
- نعم يا أمي.. سوف أقدّمها له هدية.
فصاحت به:
- اخرس يا ولد.. أعطه من بناطيلك القديمة..
وكان مصعب قد عاد إلى البيت، ليسمع ويرى هذا النقاش الحامي بين أمه وأخيه، فتقدم منهما وهو يقول:
- لا يا أمي.. حتى تنفقوا مما تحبون.
التفتت الأم نحو مصعب وقالت له، دون أن تفهم ما قاله:
- تعال انظر يا مصعب.. المجنون أخوك يريد إهداء ابن البستاني هدية.
قال مصعب:
- سمعتكما تتناقشان.. وأنا سوف أحلّ المشكلة بينكما.. سوف أهديه أنا بدلاً من فؤاد.
قال فؤاد:
- أرجوك يا أخي لا تفسد عليّ قراري.
وسألت الأم في سخرية:
- وماذا ستهديه أنت يا مصعب؟
أجاب مصعب:
- البذلة الصيفية..
فصرخت به أمه:
- لا تكمل.. لا يمكن أن أسمح لكما بإهداء هذه البذلة.
فسأل مصعب:
- لماذا يا أمي؟
قالت الأم:
- لأنها بذلة أجنبية.. من باريس.. لأنها غالية.. اشتريت كلّ بذلة بالشيء الفلاني.. لأنها لا تلبق على غير مصعب وفؤاد.
قال فؤاد وهو يبتسم ويغمز أخاه بعينيه:
- إذا كان الأمر على هذا الشكل، فأنا أتنازل لأخي مصعب.. قدّم له يا مصعب بذلتك، وسوف أقدّم له حذائي الإيطالي، وقميصي الأمريكي.
وسمع الوالد صراخ زوجته، فهبّ من سريره مسرعاً يستطلع الخبر، وعندما عرف القصة قال لولديه:
- اسمعوا كلام أمكم يا أولاد.
فقال فؤاد:
- عندي سؤال صغير جداً.. تسمح به يا أبي؟
أجاب الأب:
- اسأل يا فؤاد.. هات ما عندك يا ولد.
وتوجّه فؤاد نحو أمه وسألها:
- هل تسمحين لي يا أمي أن أسأل، بلا غضب ولا زعل؟
قالت الأم وقد هدأت قليلاً:
- اسأل يا فؤاد:
قال فؤاد:
- إذا قال لك جدّي أو جدتي كلاماً، وقال لك أبي كلاماً، فكلام من تسمعين وتنفّذين؟
أجابت الأم بدون تردد:
- أسمع كلام أبي وأمي.. يعني كلام جدك وجدتك..
وعاد فؤاد يسأل:
- وإذا قال لك أبوك وأمك شيئاً، وقال الله تعالى قولاً آخر، فكلام من تسمعين وتنفّذين؟
قالت، وقد عرفت أنها وقعت في الفخ:
- أسمع كلام الله تعالى.
فسأل فؤاد متوجهاً نحو أبيه؟
- وأنت يا أبي؟
أجاب الأب:
- كلام الله طبعاً.. ثم.. هل هذا سؤال يا فؤاد؟
قال فؤاد وهو ينظر نحو أخيه:
- قل لهم يا مصعب، ماذا قال الله تعالى بهذا الشأن.
قال مصعب:
- قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون.
فقال فؤاد:
- صدق الله العظيم.. وأنا أحبّ هذه البذلة الجميلة، وأحبّ أن أهديها لذلك الصبيّ لابن البستاني.
وقال مصعب:
- لا يا فؤاد.. أنا أحب بذلتي أكثر منك، أنا سأهديه بذلتي، وأنت تهديه القميص والحذاء.. وبهذا نحصل كلنا على الأجر والثواب.. أبي لأنه دفع ثمنها، وأمي لأنها اشترتها لنا، وأنت وأنا لأننا تنازلنا عنها لصبي فقير، أو أنك نسيت اتفاقنا يا فؤاد؟
فأجاب فؤاد:
- لا.. لم أنس.. فقد قلت هذا قبل لحظات.
ونظر مصعب نحو أبيه وقال:
- والزكاة يا والدي؟ ألم تقل إنك تسمع وتنفذ كلام الله تعالى؟ والله يأمر بالصلاة والزكاة.
وفيما كانت الحيرة ترتسم على وجه الأب، ابتسمت الأم وقالت:
- أنا سوف أزكي أموالي هذه السنة.
فهتف مصعب وفؤاد:
- وكلّ سنة.
قالت الأم:
- وكلّ سنة إن شاء الله .
وتوجّه الجميع نحو الطفلة الحلوة (هبة) التي خرجت من غرفتها وتقدّمت نحوهم وهي تعرك عينيها، وقال فؤاد:
- وأنت يا أبي؟ ألا ترى هبة أختنا الحلوة؟ من أجلها، من أجلنا جميعاً يا أبي.
فقاطعه أبوه قائلاً:
- يكفي يا ولد.. لن تكونوا خيراً مني.. سوف أزكّي اعتباراً من هذه السنة.
وقالت الأم:
- وأنا سوف أتصدق بخير ثوب عندي لأم عليّ، وببعض المال..
وأسرع الجميع يجهّزون ما اتفقوا على التصدّق به لأسرة أبي علي البستاني، والسعادة تغمرهم جميعاً. فيما كانت الطفلة هبة تأتي بلعبة لها جميلة، وتقدّمها لأمها، هدية منها لبنت أبي علي.
وأقبل فؤاد يضم أخاه مصعباً ويقول:
- لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون.
ثم ترك فؤاد أخاه مصعباً، وأسرع نحو غرفته، لعله يرى العصفور الذي جلب له وللأسرة كلّ هذا الخير، ولكنه لم يره، فعاد وتمدّد في سريره، وعيناه معلّقتان بالنافذة، ينتظر مجيء العصفور الطيب ليشكره.