شاهد في محكمة التاريخ الشيخ كمال
يروي ما لم يكتبه المؤرخون عن استشهاد مئة شهيد
من قريته العراق في محافظة الكرك سنة 1910م
ويصور هول المذبحة
د. عبد الرحمن الحطيبات
(فصل من رواية من ذاكرة التاريخ )
بلدة العراق
إضاءة:
قرية العراق هي إحدى القرى التابعة في تنظيمها الإداري للواء المزار الجنوبي امتدت جذورها إلى عمق التاريخ٬ تتميز بطبيعتها الزراعية والسياحية, ويسكنها عشائر الحطيبات، والمواجدة، والمرابحة، والتيمة، والحرازنة، والطبور، والموانيس, والخطباء.
وتعتبر قرية العراق من أجمل قرى لواء المزار الجنوبي, إذ تمتاز بينابيع المياه الثرة, وكثرة الأشجار المختلفة -وبخاصة أشجار الزيتون الرومي- المعمرة التي تغطى مناطق واسعة من القرية, وتحيط بها الجبال من كل جانب, وقد تميزت بإنتاج التين والزيتون والعنب والرمان حتى أنها لتوصف بأنها سلة غذاء لمناطق الكرك وما حولها.
كانت هذه القرية الأردنية الوادعة في مرحلة تاريخية جامعة للجيش التركي, وكانت تسمى مديرية “ناحية العراق”, وفي عام (1910م) بدأت الثورة على الحكومة التركية من كافة قرى الكرك بمهاجمة الجباة وقتلهم, في مناطق مختلفة من الكرك, وكان أن قتل جميع أفراد الحامية التركية في مديرية ناحية العراق؛ بأمر من الشيخ مسلم المواجدة, وبالتنسيق مع زعماء قبائل الكرك يومئذ؛ مما دفع بالقوات التركية إلى الثأر والرد على أهالي القرية, وإبادة ما يقارب عن مئة رجلٍ, بالإضافة إلى امرأة تدعى خضرة بنت حريثان المواجدة, وقد قال الشاعر يصف هذه المذبحة, بقوله:
يا ذبحة للـعراقـيــة |
خست اثنين عن المية |
ما رحموا شب ولا شايب |
وما عفوا عن الولـية |
وفي روايات أخرى أن عدد الشهداء قد زاد عن مئة شهيد نتيجة الإصابات البليغة, وقد اقتيد الشيخ مسلم أسيرا إلى إستانبول, ولم تعرف أخباره بعد.( الطراونة, محمد سالم بدون تاريخ).
وكان الشيخ كمال -رحمه الله- يحفظ, بل يعي تاريخ أجداده وأخواله الأبطال والفرسان وعيا جيدا, وكان من عادته أن يروي هذا التاريخ كما وعاه وسمعه من والده الشيخ عبدالحافظ بن أعبد بن ضيف الله الحطيبات – رحمه الله- وعن أجداده مشاعل الثورة وقادتها وصالي نارها, والرواية لوالده -رحمه الله – قال: وأقسم الشيخ كمال أن يروي حكاية والده الشاهد على أبشع المجازر في التاريخ, والتي تعرض لها أبناء بلده, ويكرر الشيخ كمال القسم بأن يروي أهوال المذبحة في جزيرة الموت.. أهوال قصة, وأبشع مذبحة, وأفضع جريمة.
إلى أرواح الشهداء.. إلى الشباب النضر.. زهر الربيع.. رياحين الجنة..
إلى التضحية الصادقة بالروح وبالدم...
إلى المؤمنين بالله, وإلى المخلصين... وإلى الوطنية الصادقة في مختلف المواقع.
إلى أبناء قريتي العراق شبابا ورجالا وشيوخا وأطفالا, من شتى المنابت والأصول.
إلى أهلي.. أهل الكرك.. إلى عشيرتي.. إلى كل الأصدقاء.. بقية المخلصين
أبدأ الرواية:
لقد عاش والدي الشيخ عبدالحافظ مع أبيه أعبد وجده ضيف الله- رحمهم الله- في قرية آمنة مطمئنة لا يشعر أهلها إلا بالمودة والألفة والاحترام المتبادل بين جميع عشائرها, فلا يوجد بين هذه العشائر على اختلافها وكثرتها وكثرة أفرادها إلا السعي الجاد لأعمالهم, والتعاون من أجل لقمة العيش, فهم أسرة واحدة في أتراحهم وأفراحهم, يحرثون أرضهم, ويزرعون ويحصدون ويرعون أغنامهم, ويحلون ويرحلون, تربطهم الألفة, وتجمعهم الصداقة والنسب, ويشتركون بالأفراح والأحزان والميول معا.
لقد شهد والدي- رحمه الله - الصاخة, والطامة الكبرى, وهو ابن عشر سنين أو تزيد رأى: كأنه في حلم رهيب أو كابوس مزعج, فإذا هي الحقيقة تتجلى في أبشع صورها, وإذا الموت في أشد رهبوته, لقد كان يوماً عبوساً قمطريراً, رأى والده, وإخوانه وأبناء بلده: شيوخا وشبابا ورجالا يسقطون صرعى بأيد آثمة, سلبتهم الحياة ونعيمها, بعد أن فشلت كثير من الأيدي أن تسلبهم نعمة الإيمان والأمن والألفة والصداقة.
وأقسم الشيخ كمال -رحمه الله- أن يروي:
يروي هذه الكارثة .. هذه الفاجعة .. فاجعة قومه.
يرويها للأجيال .. يرويها للتاريخ .. يرويها للضمير الإنساني .. يرويها للضمير العالمي.
وأقسم الشيخ كمال -رحمه الله - أن يتقدم إلى محكمة التاريخ شاهدا ومبلغا ومخاصما.
ويكمل الشيخ كمال روايته عن والده -رحمهما الله- لقد رأيت يا بني مشهدا داميا ومجزرة رهيبة في يوم كسفت شمسه, وفي ليلة خسف قمرها, عاينتها في كل لحظة من لحظاتها, وفي كل ثانية مرت, دفعتْ دمي وأعصابي ونور عيني, لقد عشت تجربة أليمة, واكتسبت خبرة مريرة, من مدينة العذاب, ومن جزيرة الموت.. لقد أفقت يا بني على أصوات أبواق تهتف.. أبواق تبشر بمغريات هائلة.. أبواق تبث.. وعوداً خلابة.. تبث كلمات براقة.. وأيادٍ تحمل رايات السلام, تنادي: الأمان..الأمان ..الأمان...
واجتمع الناس غالبيتهم عن طيب نفس, وآخرون تجمعوا عن سذاجة, أو فراغ من الطاعمين الكاسين, وقليل منهم من جمعته المصلحة, ويندر من ساقه الاقتناع لمبدأ أو دعوة من الدعوات, لحضور الاجتماع الموهوم.. ثم تابع والدي رحمه: ومن حق أي عالم بالحقيقة يا بني, ما دام يملك ولو بصيصا من ضياء أو شعاعا من نور أن يكشف الحقيقة, وأن يتقدم بها فورا مهما كان ثمن التضحية, ومهما كانت الأعذار.
يا بني لقد كانت حزما من الإشاعات, وباقات من الأماني الموهومة, والأحلام الكاذبة, وموجات من الشعارات التي تحرر الناس من الوهم بالوهم, ومن الزيف بالزيف, ومن الضلال بالكفر.
يا بني أتحدث إليك في هذا المكان وفي هذه الساعة.. وأرواح الشهداء تحوم حولي, وستظل خالدة تحوم, وستبقى الحرية والعدالة خالدة أيضا.. وستظل الأرواح الطاهرة المزهقة.. وسيظل الدم البريء المراق.. ستظل تصيح وتصرخ.. وتضرع إلى الله.. وتشير إلى الجناة.. تشير إلى الطغاة.. صناع الموت.. مبتكري الدمار.. أصدقاء الظلام.. أعداء الحياة والنور.
شباب جاؤوا بهم, شباب والله مكتهلون في شبابهم, ورجال والله ما سرقوا, وما قتلوا, ومن موائد غيرهم ما أكلوا... جاؤوا بهم من كل مكان, وساقوهم إلى الموت سوق النعم... عاش أهل القرية لحظات من الصمت المبهم, والقلق الفتاك.. وهم يحسبون ألف حساب لملاقاة المجهول: لم تمض بضع دقائق, أو بعض أجزاء الساعة, حتى دوّت عيارات نارية كثيفة, وكثيرة ... لم يسمع في المكان إلا صوت واحد فرد.. تجاوز الزمان.. وتجاوز المكان.. وعلا إلى عرش الرحمن.. كان يردده الجميع: الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر..
ومضى صوت الرصاص يدوي إلى أن استقر في أذهان الطغاة الجبابرة, واطمأنت نفوسهم الشريرة الآثمة إلى استشهاد رجال القرية بأكملهم.. وعاد الصمت الرهيب يخيم على أهل هذه القرية.. صمت الحداد على أرواح الشهداء.. صمت النكبة الخرساء.. صمت المصيبة العمياء.
وتمخضت المجزرة عن استشهاد ما يزيد عن مئة شهيد من الرجال وامرأة, وما يزيد عن خمسين جريحا.
لقد ظن الناس بالطغاة خيرا من أنهم سيحملون جثث الشهداء يبحثون في الأرض؛ ليوارها التراب ( يفعلون فعل الغراب) وما فعلوا, ولكنهم خرجوا يتخطون الجثث.. كأنهم في ساحات القتال, أو ميادين حروب.. جثث ملقاة في كل مكان: أمام البيوت.. في الساحات.. في الطرقات.. في البساتين.
سكت والدي الشيخ عبدالحافظ -رحمه الله- والرواية للشيخ كمال وساد الصمت.. وكأن على رؤوسنا الطير.. ثم قطع الألم السكون, وفلت من عين والدي -رحمه الله- دمعة, فدمعة... ثم زفرة, تروي.. هول المجزرة.. وانقطع الكلام .
ثم عاد والدي -رحمه الله- يحدثني ويقول:
يا بني, نظرت إليهم, فرأيتهم.. قتلى.. صرعى.. عفر جباههم التراب.. اخترق الرصاص قلوبهم, ورؤوسهم... وفتت الرصاص أكبادهم, ومزقت الحراب أجسادهم.. دماء تسيل هنا وهناك. (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا)
كانوا منذ لحظات عجلة الزمن.. وفلك الحياة.. وبدور المجالس.. وفرسان الطراد.. كنت أنظر إليهم, ولم أشعر أنهم أضحوا قتلى.. ولا كان يساورني الشك أنهم باتوا ضحايا.. كنت أنظر إليهم.. فأرى فيهم.. الجلال والرهبة.. أنظر إليهم.. فأرى الحياة والنور, يشع من أجسادهم. أجل, ما ماتوا.., وما قتلوا, ولكن...
يا بني إنني أتخيل هذه الأرواح تعيش معي, وتتحدث إلي .. وتطوف حول مسرح الجريمة.. أكاد ألمح نورها.. تضيء عتمة الليل للساري.. وأكاد أسمع همسها وكأنها تعزف عزفها للسالي.. تروي للأحياء قصة الحزن الأبدية.. قصة الحياة الخالدة, يا بني إخال هذه الأرواح كما كنت أجلس بين أصحابها, وهم ملء المكان.. سادة الزمان.. يملئون الحياة, ويملؤهم الإيمان, وتموج بهم الأماني العذاب... كانوا يعبدون الله, ويعشقون الوطن, ويحبون الحياة, وكانت تضج بصدورهم دماء الشباب, كانوا على امتداد الأرض, يملؤون السهل والجبل.. لقد ذهبوا وألقي بهم في مهاوي الردى.
يا بني ذهب الشهداء في يوم, وربما في لحظة, واختصروا طريقهم إلى الله.. وإلى أهدافهم العليا, وقيمهم النبيلة. وسيلقى الطغاة عقابهم إن آجلا أو عاجلا ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).
وبهذا أنهى الشيخ كمال روايته, وأقسم أن يروي...