يوم آخر عادي من أيام الأسد الأب
أيهم نور الدين
الفصل الأول
الليل ليل شباط 1982 الطويل القارص .. والوقت .. بعد الحادية عشر ليلاً بقليل ..
الهاتف الأحمر بلون الدم يرن في مكتب أبي سليم دعبول شبه النائم على مكتبه الخشبي غير الوثير في غرفته الصغيرة في قصر الروضة … الأثاث في الغرفة يتميز بذوق ريفي بدائي بالرغم من أنه مستورد من أرقى صالات الأثاث الراقي في بريطانيا .. إلا أن تدخل السيد الرئيس بكل شاردة وواردة في قصره الصغير في حي المالكي بدمشق , بما فيها الملابس الداخلية لمرؤوسيه جعل من القصر الجمهوري ذائع الصيت أشبه ببازار أو سوق جمعة في إحدى البلدات الريفية الصغيرة – وما أكثرها – في بلادنا . .
الهاتف ما زال يرن وأبو سليم ساهم بشيء ما .. ينتفض فجأةً ويهب واقفاً ممسكاً بالهاتف دموي اللون : أمرك سيدي الرئيس .. أمرك .. شكراً لك .
يضع السماعة ومؤخرته السمينة ترتطم بالكرسي غير المريح من طراز لويس سيز … رأسه الأصلع يغطيه العرق البارد في عز الشتاء … من أين سأحضر لهذا السيد الرئيس وزير الإعلام في هذه الساعة المتأخرة … يهرش يافوخه لعصر جمجمته ويستذكر … المرة الأخيرة التي رأى فيها هو ورئيسه هذا الوزير منذ اثني عشر عاماً عندما أقسم وباقي الجوقة اليمين الدستورية عند تشكيل الوزارة للمرة الأولى في عهد الرئيس الخالد .. وبعدها توالت التكليفات لنفس الأشخاص , مع تغيير طفيف ربما , عبر سيادة الهاتف … فمنذ بداية القلاقل السياسية وحوادث الإخوان المسلمين الأولى عام 1978 والهاتف الركن هو الحاكم الفعلي لسوريا .. والمرات القليلة النادرة التي استقبل فيها القصر زواراً كانت لعبد الحليم خدام ومصطفى طلاس وعلي دوبا ومحمد مخلوف شقيق العزيزة أنيسة للعب البوكر .. لم يكن الرئيس مقامراً بطبيعته .. فالقمار السياسي على مستقبل سورية جعل لديه حالةً من الإشباع مما أفقده كل رغبه في لعب القمار على الطاولة .. لكنه كان يحن بين الفينة والأخرى لحمى البوكر والبندورة والخربوشة والسبعة ونص فكان يستدعي تلك الحلقة الضيقة للّعب على مائدته الهزيلة وبمبالغ لا تتجاوز الخمسين أو الستين ليرة في المرة الواحدة .
وبلحظة الهام نادرة تنقطع سلسلة الذكريات من مخيلة أبي سليم ويتذكر فجأة أن وزير الإعلام لا بد وأن يكون اسمه مذكوراً في إحدى الصحف اليتيمة الثلاث التي تصدر في سورية , تلك الصحف التي لا يقرأها أحد حتى محرروها , والعجب كل العجب في قدرة هؤلاء الموهوبين على كتابة كل هذا الهراء دون أن يتذوقوه .. لكنه هو أي أبو سليم شخص مثقف واسع الاطلاع , لذا فإنه يقرأ صفحة الأبراج في الصحف الثلاث يومياً .. بل إنه في إحدى المرات امر بإحضار الدكتور والعالم الفلكي الروحاني الدقاق محرر الأبراج في الصحف الثلاث ليقرأ له برجه على الطبيعة … عبقري هذا الدقاق , كيف عرف بأنه هو أبو سليم يتناول الخبز على الفطور ويشرب يومياً عدة أكواب من الماء ويحب اليخنة والملوخية والفاصولياء والفراريج واللحوم والأسماك بأنواعها دون أن يقول له أحد ذلك … لله دره ما أوسع علمه .
ينتفض من جديد ويقرأ أحد العناوين الفرعية :: عودة ميمونة للدكتور احمد اسكندر احمد من فرنسا حيث كان يقضي فترة نقاهة قصيرة نتيجة وعكة صحية بسيطة ألمّت به … تذكر أبو سليم بلحظة كل ما يتعلق بالوزير العتيد .. وكيف أصيب بسرطان الدم مما دفعه للسفر ستة أشهر إلى بريطانيا بغية العلاج الكيميائي , لكن البريطانيين لم يهتموا بالشكل اللائق بمقام فخامته مما دفع القيادة السياسة الرشيدة إلى الإيعاز بشحنه إلى احد مشافي فرنسا لأن العلاقات الفرنسية السورية في عهد هذا الميتيران أكثر من ممتازة بعكس العلاقة مع المتعجرفة مارغريت تاتشر .
رمق ابو سليم الهواتف المتعددة الألوان على طاولته … معظمها للاتصال المباشر برؤساء أفرع وشعب المخابرات المختلفة .. وهو بحكم خبرته الطويلة يعرف من لون الهاتف الفرع الأمني الذي يرتبط به بشكل مباشر .. هناك هاتف وحيد كالح اللون يبدو من الغبار الخفيف المتراكم عليه انه لم يستخدم منذ مدة طويلة .. هذا و لا بد الهاتف الذي يربط مقام الرئاسة بالإدارات المدنية ومن ضمنها الوزارات بالطبع … اتجه صوبه ورفع سماعته المتسخة .. أحس بالنفور من قذارته … عليه في الغد توبيخ أبي يوسف مسئول النظافة في سكرتاريا الرئاسة .. هبت رغبة عارمة بالنظافة في داخله دفعته لأن يمسح السماعة بطرف قميصه الكالح الذي لم يجد طريقه إلى الغسيل منذ أكثر من شهر : ألو .. نعم يا بني .. منزل أحمد اسكندر أحمد .. حسناً سأبقى على الخط ..
رئاسة الجمهورية .. هل السيد الوزير موجود .. صمت لمدة نصف دقيقة …. نعم سيادة الوزير , السيد الرئيس يطلبك حالاً .. حمداً لله على سلامتك … نعم , نعم , طلب مني السيد الرئيس أن أتقدم باسمه لكم ببالغ سعادته بعودتكم .. أنتظركم .. متى تعتقدون إنكم ستصلون .. حسناً خلال عشر دقائق سيكون اسمكم لدى الحرس الرئاسي .. شكراً سيدي الوزير .
يضع السماعة بحنق .. هؤلاء الصراصير الذين لا أرضى لهم لعق حذائي ويجبرنا البروتوكول على التواصل معهم بتهذيب .. هل يجهلون أن حذاء أبي سليم برأس أكبر وزير في هذا البلد .. حسناً .. سَيَرون .
يرفع سماعة الهاتف الأزرق .. مقدم إبراهيم : سيأتي الآن وزير الإعلام … اسمه , هممم , اسمه … أحمد اسكندر احمد .. لا تنس أن تنقعه خمس دقائق بالبرد خارج السيارة وتفتش سيارته , وتفتشه هو شخصياً إن أبدى أي اعتراض … لا ليس إخونجياً ولكنه لم يزرنا منذ وقت طويل ولا بد له من أن يستشعر السلطة ولو قليلاً بعد أن تركناه طويلاً .
ركوة القهوة المتسخة من تراكم عشرات الطبقات من القهوة المتحجرة تنتظر … أحس برغبة عارمة بفنجان قهوة مع سيجارة حشيش معتبره .. فتح الدرج وأخرج قطعة حشيش ككرة التنس… قطعة من أجود أنواع الحشيش اللبناني الفاخر أحضرها له اليوم العميد علي حيدر بعد عودته الميمونة المظفرة من لبنان .. مشكور علي حيدر .. شخص محترم جداً .. والأهم من هذا كله أن الرئيس يحبه .. عليَّ أن أدعم بقوة ترشيحه لرتبة اللواء … قطعة أخرى فاخرة وأرشحه كذلك لرتبة الفريق .. يرن الهاتف الأزرق .. هل وصل هذا الوزير الغليظ .. وداعاً إذن لسيجارة الحشيش وفنجان القهوة .. تباً لهذا الشعب الغبي الذي يجهل مقدار التضحيات الجسام التي نقوم بها من أجله .
ينظر إلى الهاتف الأحمر .. يتردد لثوانٍ ثم يتناول السماعة , ما أصعب أن يتحدث بالمقلوب .. من الأسفل إلى الأعلى … وبصوت ذليل وبحة مصطنعة تشبه بحة مرؤوسيه عندما يتحدث معهم من الأعلى إلى الأسفل , يبدأ الحديث : عذراً سيدي الرئيس .. نعم وصل .. الغرفة الشرقية .. حسناً
يضع السماعة بتهذيب مصطنع كما لو كان الرئيس معه بالغرفة … يدخل ضابط صغير برتبة نقيب معلنا وصول الوزير : ليدخل .. يدخل الوزير متثاقل الخطى .. يضطر أبو سليم للقيام من مقعده بتكاسل , يمد يده وابتسامة خشبية كالحة كقميصه تعلو وجهه .. ربما بسبب العادة .. وربما لإشعار الزائر بأنه مجرد متاعٍ عابر في مملكة أبي سليم المترامية الأطراف : تأخرت يا رجل , يبدأ بالحديث .. هل من الجائز أن تجعل سيادة الرئيس ينتظر كل هذه المدة .. يجف الكلام في حلق الوزير المسكين بعد أن كان قد ارتاح قليلاً بابتسامة ابي سليم الصفراء وغمغم بكلام غير مفهوم .. حسناً , لا تكمل .. يقاطعه أبو سليم وهو يتجه نحو باب جانبي يكاد يكون غير مرئي : اتبعني … يجرجر الوزير المسكين خطاه المتثاقلة وهو يتبع أبا سليم نحو الباب الجانبي كجروٍ صغير .
*****
الفصل الثاني
الغرفة أشبه بملعب كرة يد مصغّر, الأثاث الشرقي المطعّم بالصدف وخشب الورد يتراص في المكان, كل قطعة على حده تحفة فنية تقارب الكمال , لكن هذا الحشو المبالغ به لقطع الأثاث المتراصة واحدة تلو الأخرى جعل من الغرفة أشبه بمستودع أرابيسك سيء التوضيب … رائحة السهوكة تنبعث منها بشكل يدل على أنها لم تعرف الشمس منذ أمد طويل .. النظافة مبالغ بها لحد الهوس , وعلب الكحول الطبي الخالي من الرائحة تتناثر في كل مكان , كانت الإنارة العاتمة تتعب العيون .. والهدوء الذي يصل لحد السكون المطلق ينفي أية إمكانية لوجود حياة من أي نوع ضمن جدران هذا البؤس الفاخر .
سار أبو سليم بشكل مزدوج ضمن متاهة دهاليز الأثاث المتراكم… فنان قل نظيره هذا الأبو سليم , فهو من جهة يوحى لمن يراه من الأمام بقمة التذلل والارتباك والاحترام المبالغ به , ويوحي للجراء التي تتبعه بقمة الثقة والسلطة والنفوذ لدى صاحب الغرفة .
لم يكن الأسد الأب غبياً , وكان يقرأ هذه الازدواجية بتلذذ من يستشعر قيمته وقوته ومقدار تسلطه على أتباعه ورهبته في نفوسهم , وقد أدمن هو هذه السادية , وأدمن عبيده وأزلامه دون استثناء هذه المازوشية التي تعطيهم على ما يبدو حافزاً قوياً لممارسة ساديتهم وقسوتهم على مرؤسيهم بالقوة نفسها التي يمارسها الأسد الأب عليهم .
الغرفة – المستودع الخاوية على عروشها أشعرت الوزير المسكين بالضياع وهو الضائع أصلاً , كانت عظمتا الظنبوب في صابونتي ركبتيه تنثنيان الى الأمام بشكل يتحدى كل قوانين الطبيعة مما أكسبه شكلاً كوميدياً يحسده عليه كل من مارس هذه الفن …
وقف أبو سليم فجأة , فوقف الوزير في اللحظة نفسها وكأنهما متفقان على هذا , لم يحتمل ظنبوبا الوزير هذا التوقف الفجائي فبدئا بالانضغاط شيئاً فشيئا وبدأ الوزير المسكين بالانكماش كقطعة كتان رديئة الصنع تعرضت للغسل للمرة الأولى .. كان أي مراقب خارجي – لو وجد – لأقسم يميناً غموساً بأن طول الوزير قد نقص بمقدار سبعة سنتيمترات على الأقل في تلك اللحظة .. التفت أبو سليم على مهل إلى الخلف دون أن يستدير , لاحظ على الفور ضياع السنتيمترات السبعة .. حسناً , لا بد ان الله يحب هذا الوزير, وسيبقى خالداً مخلداً في الوزارة حتى يوارى الثرى … يجهلون مقدار حب الرفيق المناضل لمن يكشّون … عبد الرؤوف الكسم يكش على الدوام وهو ما أهلّه لرئاسة الوزراء عن جدارة … أحس بنفحة عطف مفاجئة على الكتلة الهلامية التي تشكل الوزير .. استرح .. أومأ له بيده نحو مجموعة من المشربيات الصدفية الأشبه بالخازوق العثماني الذائع الصيت , وبلهجة انتقام أشبه بالضربة القاضية في مباراة ملاكمة غير متكافئة , يتابع : سيصل السيد الرئيس في أية لحظة .
لم يُتح الوقت الكافي للرعدة لتحل في جسم الوزير المسكين , إذ سرعان ما تشكّل من الفراغ البعيد القابع في أعماق الظلمة خيالاً غير محدد المعالم بدأ يتضح بالتدريج , كانت كل لحظة تمر , وكل خطوة وئيدة يقوم بها هذا الخيال تمنحه شكلاً محدداً سرعان ما تكشّف عن ملامح شبه بشرية لشخص طويل نحيل بعض الشيء , قريب الشبه من شكل مألوف لجميع السوريين ومعظم اللبنانيين وبعض الإثنيات والأعراق الأخرى .
كان الرفيق المناضل الذي لم يرَ الشمس منذ سنوات أبيض اللون مع اصفرار خفيف , شفاف البشرة كالحها , بشكل يوحى وكأنه قادم من أعماق القبور .. كان أبعد ما يكون عن الشبه لصوره التي تملئ كل بيت في سورية .. فقط العينان الزجاجيتان نفسيهما , وكل ما عدا هذا مجرد خطوط تتلاقى بالشكل العام لا أكثر .
يهتز أبو سليم بأدب مبالغ فيه بينما كان الذهول ما يزال مسيطراً على كيان الوزير .. الأسد الذي اعتاد هذه المواقف من أتباعه لم يهتم كثيراً , بعكس أبي سليم الذي توقع أن يخر الوزير صعقاً من الهيبة مما أثار امتعاضه لفشل فراسته .. وبصوت هادئ وأدب شديد يأخذ الرئيس زمام الحديث : يا رفيق أحمد أهلاً بك , منذ أكثر من سبع سنوات لم نلتق .. لم يفهم الوزير من هو المقصود بالحديث , ولم يدرك أنه هو الرفيق أحمد إلا بعد انتقال الرئيس لجملة أخرى .. كاد يجيب بأنها اثنا عشر عاماً لا سبعاً عجافاً , لكنه خشي من مقاطعة الرئيس مما قد يفهم بأنه معارض .. أليس هو صاحب الفرز الشهير للشعب .. ذلك الفرز الذي تبنته جميع فروع وشعب المخابرات فيما بعد :: مؤيد .. معارض .. حيادي .. حيادي ايجابي .. حيادي سلبي وما إلى هناك من التقسيمات القائمة على الولاء والولاء المطلق والولاء الإجباري .. فليصمت إذن .
لم يكن الرئيس يتكلم كمن ينتظر الرد , كانت فلسفة الاسترسال إلى ما لا نهاية مسيطرة عليه من أيام طيب الذكر زكي الأرسوزي ولذا فهو لم يكن معنياً بمن أمامه شريطة أن لا يتجرأ هذا ويحدق في عينيه الخشبيتين .. حينها كان الرئيس ينتفض كمن لدغته أفعى , كانت نظرات الآخرين أياً كانوا تعريه وتصيبه في الصميم , لذا لم يكن يحتمل لأحد جرم التحديق فيه .. كان الوزير بالفطرة أقل شأناً من أن يرتكب هذا الكفر الصريح , ولذا فقد تتابع الحديث بسلاسة واسترسال دون أن يكون له أي دخل فيه … يتجه الرئيس ببطء نحو المكتب اليتيم في الغرفة موحياً لمحدثه بإتباعه .. يجلس مشيراً له بالجلوس قبالته … يجلس بوجل – ولكن بتحرر أكبر -على طرف الكرسي غير المريح ونصف مؤخرته محلق في الهواء .. يرمقه الأسد بعين الرضا : حمداً لله على شفائك من الداء العضال .. انك أحد القلة الذين أعرفهم وقيض لهم الشفاء من هذا المرض الخبيث … تابع الأسد الحديث معبراً عن فرحته بشفاء وزيره ..
ـ عن أي شفاء تتحدث يا رجل .. كاد الوزير يقولها بعد أن استشعر بلحظة واحدة تفاهة محدثه , انزاح حمل ثقيل عن كاهله .. لم يشعر الأسد المنهمك بالحديث بالتحول الذي طرأ على ملامح وزيره , لكن أبا سليم بخبثه المعهود أدرك هذا مما أثار لديه نفحة إعجاب ممزوجة بشيء من الحسد .. فلقد اكتشف هذا الرجل بدقائق ما تطلب من ابي سليم خمس سنوات ونيف لاكتشافه ,
تولدت رغبة محمومة داخل أبي سليم بدق إسفين غليظ في مؤخرة الوزير .. تنحنح ليتكلم .. حينها فقط تنبه الرفيق المناضل إلى وجود أبي سليم , وكان هذا لحسن طالع الوزير إذا أن الرئيس أشار لأبي سليم بالخروج بمجرد تنبهه لوجوده … هناك أمر أخطر إذن من مجرد تفاهات سيادته التي عودنا عليها .. حدث أبو سليم نفسه وهو يهم خارجاً .. لن أكون أبا سليم إن لم أعرف الطبخة حتى لو اضطرني الأمر للتفتيش بيديّ هاتين في تلافيف مخيّ هذين الرجلين .. أغلق الباب خلفه بهدوء متجهاً نحو طاولة مكتبه غير المريح .
******
الفصل الثالث
كان الفضول ينهش كل خلية في جسد أبي سليم الخالي من التفاصيل , الرعدة والقشعريرة والرغبة المحمومة بمعرفة ما يدور الآن بين الرفيق المناضل ووزيره غطت على كل ما عداها وهو يراوح الخطى بين الحمام ومكتبه .. دخل الحمام أكثر من مرة , وانزل بنطاله ورفعه – بحكم العادة – أكثر من مرة كذلك , بل إنه في إحدى المرات جلس إلى كرسي الحمام دون أن ينزله .. لم يهتم كثيراً عندما انتبه بل هز برأسه وخرج دون أن يفعل شيئاً .
لقد اعتاد منذ سنين أن يلجأ إلى هذا الكرسي كلما أعيته فكرة أو شغله أمر بغض النظر عن أهميته من عدمها , لقد كان هذا الكرسي خير صديق له خلال سنين طوال , بل لعله صديقه الوحيد في مكان قد يكلف الإنسان رأسه ثمناً لهفوة أو كلمة وأحياناً زفرة في غير محلها .
ما الذي يتمتمون به الآن ؟؟ ... هل لأنيسة علاقة بهذا وهى التي كانت تستشيط غضباً بالأمس نتيجة الصفعة الرنانة التي تلقاها أخوها أبو رامي من رفعت الأسد في اجتماع القيادة القطرية أمام مرأى ومسمع الجميع ... ربما ؟؟ ولكن لا .. ليس أحمد اسكندر احمد بهذه الحميمية ليدخل طرفاً في مشاكل العائلة , ثم أن أم باسل غادرت إلى بستان الباشا منذ تلقت الخبر ويعلم الله وحده متى ستعود .
عادت به الذاكرة إلى أوائل عام 1974 أيام اتفاق فصل القوات الذي كان يديره عراب السياسة الأمريكية المغرور هنري كيسنجر , تذكر كيف طلب منه طلاس بجلمقته المعهودة منظومة موتورولا للاتصالات من اجل تحديث شبكة الاتصالات الداخلية لرئاسة الجمهورية .. ظنوا حينها ان كيسنجر لن يستجيب , لكن المفاجئ كان وصول هذه المنظومة بالحقيبة الدبلوماسية للسفارة الأمريكية بدمشق بعد مضي أكثر من عام على القصة و .... التي سلمتها بدورها لمكتب المعلومات برئاسة الجمهورية الذي قام بفحصها بواسطة خبير الاتصالات بالأمن العسكري المساعد الأول ( أبو المجد ) الذي أكد بعد فحص لم يستغرق أربع دقائق أن المنظومة خالية من أي وسيلة تجسس وهى نظيفة تماماً ..
تذكر أيضاً كيف انتظروا خمس سنين أخرى لحين زيارة وفد تقني أمريكي جامعة دمشق , وكيف طلبوا منه أن يتمم معروف وزير خارجيتهم الأسبق ويقوم بتركيب المنظومة , وهذا ما حصل .
كان المركز الرئيسي لمجموعة الاتصالات هذه موجود بالطبع في غرفة أبي سليم , تذكر من خلال الكلمات الإنجليزية المبعثرة التي ما يزال يعرفها من أيام المدرسة أن القسم الرصاصي العلوي من المقسم يتيح له الاستماع على كل رنة إبرة في القصر .. شعر بالرعدة وهو يستذكر هذا , وشعر برعدة أكبر وهو يفكر باستعماله للمرة الأولى في حياته لا لخدمة سيد القصر بل للتنصت عما يدور بينه وبين وزيره .
أبعد عنه هذا الخاطر بسرعة وهو يشعر بحبل يطوق عنقه القصير الغليظ , شتم نفسه وأمه وأباه لهذا الخاطر المدمر .. ماذا لو ؟
أخذت الأمواج تتقاذفه يمنة ويسرة .. فلأفتح مرة لأسمع جملتين أو ثلاثة فقط وسأفهم كل الموضوع , لا .. ما لي ولهذا , ماذا لو كان احدهم يتنصت علي كما سأتنصت على سيادته ؟؟ .. من الذي يجرؤ وأنا في المكان الأكثر أمناً في سورية وربما العالم .. يا مجنون : وكأنك تجهل الألاعيب الاستخباراتية التي يلعبها ولي نعمتك هذا .. أخذ الصراع يزداد في داخله حتى أشرف على الانهيار .. وفجأة , وبدون تمهيد رمى بعرض الحائط بكل شيء و اتخذ قراره على الأقدام ناسياً كل المحاذير والسلبيات والخطوط الحمراء والزرقاء والصفراء التي قيد نفسه بها .
ضغط على الزر : تششششششششش .. انبعثت من المقسم أصوات رذاذ ماء غزير مختلطة بحشرجة ديك يذبح .. أصاخ السمع وقد أخذته الدهشة الممزوجة بالإفكل والرعدة , يا للغرابة .. لقد كان هذا الديك المذبوح يغني .. ويا له من غناء .. لو اجتمعت عشر طواحين لجرش البرغل مع خمس كلاب سلوقية لما أصدروا هذا النشاز ..
( بوجودك يا بو سمرة , يحلى السهر بالليل ) ... بدأت تتضح الكلمات , أدرك دفعة واحدة أنه فتح المايك الخاص بحمام الأولاد , وها هي بشرى المدللة تنهي يومها الطويل بدوش معتبر كما جرت عادتها منذ دخلت الجامعة وهى التي لم تكن تعرف الاستحمام إلا بالغصب والضرب قبلها .
لاح طيف ابتسامة ساخرة وهو يتذكر طفولتها ومخاطها السائل على انفها على الدوام ... تذكر علب السنان التي كانت من أبجديات القصر في تلك الفترة .. سبحان مغير الأحوال , هذا ما قاله لنفسه وهو يضغط زراً آخر .. لم يسمع شيئاً منه غير الصمت المطبق .. هو جناح أنيسة إذن , اللي بعده , ضغط أكثر من عشرين زراً , بعضها لمقاسم الحرس وبعضها لغرفة المعيشة والحمامات و .. و .. حتى تناهى إليه ذلك الصوت الغرابي المتخشب الذي يعرفه أكثر من أي شيء آخر .. ها قد وصلنا , حدث نفسه بهذا ,.. صوت آخر انبعث من أعماقه في اللحظة نفسها : كفاك فضولاً .
لم يستجب لهذا الصوت كما لم يستجب له في المرة الأولى .. أصاخ سمعه بينما أتى صوت الرفيق المناضل عبر الدارة المغلقة واضحاً , قوياً , مسموعاً كما لو كان معه في الغرفة .
كان الحديث ما يزال في أوله .. أدرك أبو سليم أن الساعات البطيئة التي مرت وهو يراوح بين المكتب والحمام , وتلك المحاورة العقيمة والسباحة الطويلة مع الذكريات لم تستغرق أكثر من خمس دقائق او ستاً .
- لم يفتني شيء بعد و الرئيس ما زال في مقدماته الطويلة البائسة التي تميت المستمع مللاً .. ألم يهرب بريجنسكي المشهور بدماثته وسعة صبره في إحدى المرات نتيجة أشباه هذه المقدمات .. حسناً أيها الوزير المتسرطن , ذق ما لم تذقه من قبل في حياتك من هذا التنظير الأجوف الذي لا يعلم إلا الله وحده متى سينتهي .
أحس أبو سليم بالمتعة وهو يتخيل شكل الوزير المتحفز وتوتره ورغبته الشديدة بمقاومة التثاؤب والملل وربما رغباته المتلاحقة بالنوم .. سرعان ما سيفقد تركيزه ويتحول إلى آلة صماء يبرق منها عينان زجاجيتان تلمعان من شبح دمعتين وهما تخترقان الرفيق المناضل والغرفة والقصر كله لتجعلا من صاحبهما يهيم في واد , وسيد القصر وتنظيراته الفارغة في واد آخر .
ألا توافقني رفيق أحمد .. تواصل صوت سيد الوطن على هذه الوتيرة التي تخللتها غمغمات خجولة وغير مفهومة عجزت شركة موتورولا بكل تقنياتها على توضيحها لأبي سليم الذي فهم أنها ردود الرفيق أحمد على تبرطح وتنطعات الرفيق القائد .
من الواضح أن السهرة ستطول , فلأبدأ بتحضير فنجان قهوة جديد بدل الذي حرمني منه وصول هذا الصعلوك , من يا ترى أبو سمرة الذي كانت تغني له بشرى .. أتراه سمير جرجس المجند في الحرس الجامعي الذي فرمه باسل في العام الماضي إثر الشائعات القوية عن علاقتها به والتي زكمت الأنوف , أم هو الرائد سمير مسئول المرآب في القصر , كلا , إنه قصير القامة وغير ممشوق عدا عن أنه قبيح , وهذه البشرى (( المفرعنة من عصها )) تميل للشباب الممشوقين الوسيمين .. كم ستتعب أبويها وإخوتها المعتوهين .
نهض عن كرسيه غير المريح باتجاه ركوة القهوة التاريخية , تناهى إلى سمعه صوت الرئيس يقول : دعنا من هذا كله رفيق أحمد .
كانت هذه هى الجملة الفيصل التي تعني لمن عرف الأسد عن قرب أنه أنهى مقدمته الخنفشارية وبدأ بالجد ... بدأ الجد مبكراً إذن .. قالها أبو سليم وهو يعود إلى مقعده غير المريح متحولاً بلحظة إلى أذن كله .
كان الرئيس يشكو لوزيره عن قلة ظهوره في الإعلام المرئي .... تحدث طويلاً عن مؤامرة يلعبها الغرب وهذا احد فصولها , لكنه لا يشك أبداً أن للوزير إصبعاً بها .
كان الوزير يدرك بفطرته أن رؤوساً كثيرة ستطير إثر هذا الهاجس الذي بدا جلياً أنه يسكن أعماق القائد وربما سيكون رأسه أول هذه الرؤوس بغض النظر عن جملة التطمين التي ضمّنها في حديثه .. تذكر كيف أرسل رسائل تطمين مشابهة لعبد الكريم الجندي وسليم حاطوم وغيرهم أيام كان وزيراً للدفاع ثم غدر بهم دون أن يقيم لعهده أي وزن , وتذكر رفاقه في الثورة صلاح جديد ومحمد عمران والطيب القلب نور الدين الأتاسي الذين ما لبث أن فتك بهم بين سجين وقتيل .. شعر بالخطر وأن واجبه تجاه رقبته يختم عليه الدفاع عنها بأية وسيلة حتى وإن اضطر لتفنيد حجج الرفيق المناضل واحدة واحدة .. وها هى فرصته لهذا , ويعلم الله متى تأتي فرصة أخرى يكونان فيها وحدهما كهذه المرة .
- لا أنكر يا سيادة الرئيس أن الوطن يتعرض لمؤامرة من الإمبريالية والرجعية بسبب مواقفكم المبدئية من كامب ديفيد المشئومة وترأسكم جبهة الصمود والتصدي التي تقودونها دعماً للحق الفلسطيني وتحرير الأرض والإنسان إضافة لدوركم الريادي في حركة عدم الانحياز , كل هذا جعل من سورية مرتعاً خصباً لهجوم غربان الليل بأوامر من أسيادهم في تل أبيب وواشنطن .
لكننا في وزارة الإعلام عموماً والتلفزيون العربي السوري خصوصاً لم نفتأ في التصدي على الدوام لفضح هذه المؤامرات المشبوهة وكشف الأقنعة أمام المواطن .
- أثمن عالياً ما تقومون به يا رفيق أحمد , ومع ذلك فهو قليل أمام هذه الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الوطن , إن ظهوري القليل على شاشة التلفزيون يبعدني عن هذا الشعب الطيب الذي يسكنني في كل خلجاتي .
ما الذي يقوله هذا المعتوه " حدث الوزير نفسه بهذا " ثم بلع رقبته خشية أن يكون الرئيس قد قرأ ولو حرفاً مما يدور في مخيلته .
بلع رقبته أكثر وهو يشعر بحبل غليظ يطوق عنقه ... إن لم أكن أكثر جرأة فسأنتهي هنا ولن أعود إلى بيتي مجدداً .
سيدي الرئيس , لقد راجعت بنفسي برامج التلفزيون وعدلتها أكثر من مرة بناء على توجيهات خاصة من سيادتكم وصلتني عبر ضابط الارتباط بالوزارة , ومنذ الحركة التصحيحية المباركة ونحن نؤكد عبر ساعات البث كلها على تلاحم القائد بالجماهير .
- كيف ؟؟ والتقارير أمامي تقول غير هذا ؟
- سيدي الرئيس : من الواضح أن التقارير ترى ما لا نراه نحن المدنيون , لذا نحتاج إلى توجيهاتكم على الدوام .. كان الوزير أذكى من أن يتورط بتكذيب تقرير أمني ما , حتى وإن كان كاتبه مجرد رقيب بالمخابرات , لكنه أراد توضيح منهجية عمل التلفزيون ليضرب بالتقارير بشكل غير مباشر ..
بالطبع لا يخلو الأمر من بعض التقصير من قبل بعض الموظفين غير الكفوئين , قال الوزير متابعاً : لكنه لا يعدو أكثر من أخطاء غير مقصودة , وسأقوم منذ الغد بإعادة هيكلة التلفزيون والوزارة برمتها .
نحن في الأساس نعمل وفق هيكلية محددة في برامجنا , " يبدأ الوزير باستعراض عضلاته في حقل الإعلام المرئي " :
- يبدأ البث في الثانية ظهراً بالنشيد العربي السوري ثم ما تيسر من آي الذكر الحكيم .
- برنامج نحن الطلائع يبدأ في الثانية والنصف ويستمر لغاية الثالثة .
- في الثالثة برنامج مع الشبيبة الذي يستمر لغاية الرابعة .
- في الرابعة برنامج جيش الشعب الذي يستمر لساعتين كاملتين .
- في السادسة أفلام كرتون لأحبتنا الأطفال جنود المستقبل عن منجزات التصحيح وسيرتكم النضالية الملهمة .
- في السادسة والنصف موجز لأهم الأنباء المحلية والعالمية التي تثبت بما لا يقبل الشك أن سورية النضال هي محور السياسة العالمية لدورها الريادي الذي لا يخفى على أحد .
- في السابعة برنامج مع العمال .
- في السابعة والنصف تحليل منهجي لأحد الخطابات التاريخية لسيادتكم .
- في الثامنة برنامج المرأة والمجتمع تحت إشراف الإتحاد النسائي .
- في الثامنة والنصف الأخبار الرئيسة .
- في التاسعة برنامج أضواء على الأحداث .
- في التاسعة والنصف حلقة جديدة من مسلسل ( ألف حبل مشنقة ولا يقولوا أبو عمر خاين يا خديجة )
- في العاشرة والنصف أغاني ترفيهية ( سوريا الدرب للوحدة العربية , سوريا يا حبيبتي , من قاسيون تطل يا وطني , صف العسكر )
- في الحادية عشر والنصف نشرة الأخبار الثانية تتخللها مقاطع من خطابات سيادتكم التاريخية .
- في الثانية عشر بعض آيات الذكر الحكيم والنشيد العربي السوري .
.. ألم أقل لك أن ظهوري قليل يا رفيق أحمد.
كيف يا سيادة الرئيس ؟؟.. يرد أحمد اسكندر أحمد الذي لفته الدهشة , بالمقدار نفسه الذي لفت به أبا سليم الذي فتح فاه مشدوهاً .. هو لم يفتح التلفزيون ولا مرة منذ الحركة التصحيحية المباركة , كان العمل المضني وتحقيق سخافات وجزئيات سيد الوطن التي لا تنتهي تستنزف كل وقته بحيث لم يعد لدية أدنى لحظة لهذا الترف المسمى بالتلفزيون .. أيعقل أن يقدم التلفزيون كل هذا الكم الذي لا ينتهي من الهراء ؟؟
- قليل يا رفيق أحمد قليل , يصر الرئيس على جملته متوقفاً عند كل حرف منها .. بماذا يبدأ البث وكيف ينتهي ؟؟
- بآيات من القرآن الكريم .
- هو قليل إذن ... ما رأيك رفيق أحمد ؟؟!! ... أفكر جدياً بتعلم أحكام التجويد .
يغلق أبو سليم زر المايك وهو ينطلق بقهقهة مجلجلة اخترقت جدران الصمت .